الشاهد والتفويض.. قرار سياسي برائحة انتخابية

اختار الشاهد النزول من الصورة الواضحة لرجل الدولة، إلى ملمح باهت للمرشح الرئاسي. لكن عملية النزول كانت من قبيل الخطوة المرتبكة المتعثرة، التي لم تقنع غالبية المتابعين السياسيين.
السبت 2019/08/24
الشاهد لن يتوقف عن ممارسة مهام رئيس الحكومة حتى من وراء ستار

إعلان رئيس الحكومة التونسية يوسف الشاهد الخميس الماضي تفويض صلاحيّاته إلى وزير الوظيفة العمومية كمال مرجان لممارسة سلطات رئيس الحكومة مؤقتا، حدث يقتضي إخضاعه لا فقط إلى تحليلات قانونية أو دستورية، كما شاع منذ كلمة الشاهد، بل يتطلب أيضا نقله إلى دائرة التحليل السياسي الذي يتخذ توقيت القرار، كما دواعيه وتبريراته ومآلاته، منطلقات ضرورية ربما تساهم في فهم القرار.

بصرف النظر عن القراءات القانونية والدستورية التي تباينت حد التناقض في تقييم القرار، وكان التباين عاكسا للاصطفاف الحزبي الذي ارتفع منسوبه في هذا الموسم السياسي، فإن القرار مثّل مادة سياسية قابلة للنقد وحتى الاستهجان لدواع كثيرة.

نقاش دستورية القرار من عدمها قد لا يكون كافيا أو معبرا عن كون القرار، في هذا التوقيت، قرارا مرتجلا يتقصد جني مغانم حزبية شخصية، أكثر من كونه مسألة إجرائية تبتغي الحرص على حياد الإدارة كما برر الشاهد. وحتى إن كان القرار سليما من الناحية الإجرائية الدستورية الصرفة (وهو أيضا محلّ نقاش) فإنه لن يعفي من القول إن الشاهد خلع عباءة مسؤول الدولة واختار أن يكون “مرشحا محتملا” أراد أن يوفر أقصى ما يمكنه من حظوظ النجاح الرئاسي. خيّر الشاهد الانتقال من رتبة رئيس الحكومة إلى مرتبة المرشح الرئاسي الذي يلتقط كل عوامل صعوده. انتقال بمثابة “إجازة” يتفرغ خلالها الشاهد تماما لحملته الانتخابية.

الشاهد أطلق النار على قدميه حين أراد أن يبدو ساعيا إلى عدم تعطيل دواليب الدولة، ولم يقنع أحدا بأنه كان باحثا في قراره عن مصلحة البلاد والعباد

يحق لأي سياسي أن يتفرغ لحملته الانتخابية، كما يحق لأي رئيس حكومة أن يفوض مهامه لوزير بما لا يتناقض مع الأحكام القانونية، ولكن قرار الشاهد بدا جامعا للأمرين، إضافة إلى أنه فوض صلاحيته لوزير يمثل أحد أهم قيادات حزبه (مرجان هو رئيس المجلس الوطني لحزب تحيا تونس بعد انصهار حزبه المبادرة في حزب الشاهد) وهو ما يطرح أسئلة كثيرة عن خلفيات اختيار مرجان دون غيره من الوزراء من خارج حزبه أو من غير المتحزبين أصلا.

مرجان حصل على الوزارة بفضل انضمامه إلى حزب الشاهد، ثم أعلن مساندته لترشح الشاهد إلى الانتخابات الرئاسية، وكان واقفا (بالمعنيين الفعلي والرمزي) يوم تقديم الشاهد لترشحه لدى هيئة الانتخابات، ما يعني أنه من الأعضاء الفاعلين في الحملة الانتخابية الرئاسيّة للشاهد.

هذه العلاقة المتداخلة تقوّض تبرير الشاهد بأنه يسعى إلى النأي بالحكومة عن الحملة الانتخابية. مرجان رئيس حكومة مفوض لن يتوقف عن المشاركة في الحملة الانتخابية للشاهد. والأخير لن يتوقف عن ممارسة مهام رئيس الحكومة حتى من وراء ستار، باعتبار علاقته بشريكه تتيح له أن يملي عليه ما يريد من قرارات.

كان بإمكان رئيس الحكومة أن يفوض وزيرا من غير المنتمين لحزبه، أو أن يفوض وزيرا غير متحزب، ولكن الواضح أنه تقصد أن يضرب عصافير كثيرة بحجر واحد. يعزز حظوظه في الانتخابات الرئاسية بالتفرغ للحملة الانتخابية، ويظل قريبا من منصبه باعتبار قربه ممن فوضه. إضافة إلى أنه أراد تقديم رسالة سياسية مفادها أنه يرفض، عمليا، توظيف أجهزة الدولة في الانتخابات، وهي رسالة فاقدة للوجاهة وتشبه ما أقدم عليه منذ أيام حين بادر إلى التخلي عن جنسيته الفرنسية في هذا التوقيت السياسي الملتهب.

مرجان حصل على الوزارة بفضل انضمامه إلى حزب الشاهد، ثم أعلن مساندته لترشح الشاهد إلى الانتخابات الرئاسية، وكان واقفا (بالمعنيين الفعلي والرمزي) يوم تقديم الشاهد لترشحه لدى هيئة الانتخابات

في قراراته الأخيرة بدا الشاهد كمن يجري بأقصى سرعته للحاق بالأسماء التي تتصدر نوايا التصويت. ولذلك غامر بالتضحية بجنسيته الفرنسية وبمنصبه في الحكومة، والهدف من كل ذلك تدارك الزمن الانتخابي الذي تبين له أنه كان يبذره في مهام رئيس الحكومة.

اختار الشاهد النزول من الصورة الواضحة لرجل الدولة، إلى ملمح باهت للمرشح الرئاسي. لكن عملية النزول كانت من قبيل الخطوة المرتبكة المتعثرة، التي لم تقنع غالبية المتابعين السياسيين، سواء من ناحية توقيتها حيث بدا الشاهد نفعيا منتصرا لطموحاته الشخصية، أو من ناحية دستوريتها حيث ناقش ذلك الكثير من الخبراء واعتبروا أن الخطوة لاقانونية ولادستورية، أو من ناحية تبريراتها ودواعيها التي اعتبرت في غالبيتها غير وجيهة. في الزمن الانتخابي تسقط أوراق توت كثيرة، ولن يقتصر الأمر على الشاهد بل سيمتد إلى غيره من المرشحين والفاعلين السياسيين، ولكن الشاهد أطلق النار على قدميه حين أراد أن يبدو ساعيا إلى عدم تعطيل دواليب الدولة، ولم يقنع أحدا بأنه كان باحثا في قراره عن مصلحة البلاد والعباد.

9