الشاعر والمترجم التونسي أشرف القرقني: الشعر مخبر للنظر في الذات

عرفت تونس على غرار الوطن العربي موجة هامة من الإبداعات الأدبية التي تصدرها جيل يسمى بـ”جيل الألفية الثالثة” من شعراء ومترجمين وكتاب، زاد في حماستهم جو الحرية ويسر النشر الإلكتروني على مواقع التواصل، ولكن لا يمكننا التعامل مع الجميع على أنهم تجارب أدبية، وفي هذا الحوار لـ”العرب” مع واحد من أبناء هذا الجيل أشرف القرقني نناقش قضية الأجيال والشعر والترجمة.
تحفل تجربة الشاعر والمترجم التونسي أشرف القرقني بثراء وفرادة في عطائها على مستوى الشعر والقصة القصيرة والترجمة والدراسة الأدبية، فقد درس اللغة العربية وآدابها وحضارتها، وتحصل على شهادة الماجستير عن بحثه “الذات في قصيدة النثر العربية، الحياة قرب الأكروبول لسركون بولص أنموذجا”، والآن بصدد إعداد رسالته للدكتوراه حول “سياسة الإيقاع في قصيدة النثر العربية من خلال نماذج”.
يقول القرقني “وقعت في فخ الكتب باكرا جدا. ومن خلالها جربت أن أكتب ما سميته آنذاك شعرا. ولهذا قادني شغفي بالكتابة والأدب إلى الرغبة في دراسة الإنسانيات عموما (الأدب والفلسفة وما إلى ذلك). ولكني قوبلت برفض من أساتذتي لهذا التوجه لأسباب تعلقت في نظرهم بالرخاء المادي وتصوراتهم عن النجاح الاجتماعي. محصل الأمر أنني درست اختصاصين أولهما الرياضيات ومن ثم اللغة العربية وآدابها وحضارتها. قادني هذا التكوين إلى قراءة الرياضي (منهج تفكير وإبداع) في الأدبي والفكري وعكس ذلك أحيانا. أعتقد أنني سعيد وفخور بهذا التكوين لأنني اكتشفت على نحو متأخر أنه ترك فيّ علامة مخصوصة كتابة وتفكيرا وبحثا“.
ضد مقولة الجيل
عن أطروحته حول الذات في قصيدة النثر العربية والتي اتخذ فيها من سركون بولص نموذجا، يشير القرقني إلى أن “هناك ذواتا كثيرة يمكن أن تنجم عن فرد واحد. وهذا ما يغيب عن تفكير الكثيرين. كما أن كل ذات تحيل على فرد. لكن العكس غير صحيح دوما. إن الذات نتاج نشاط بعينه. فالذات الفلسفية لها خصوصيتها وشكل وجودها. وكذلك الذات بالدلالة النفسية مثلا. أما الذات التي درستها في شعر سركون بولص ليست منفصلة على نحو قاطع عما سبق ذكره طبعا، إنما هي ذات فرادة وخصوصية. إنها الذات التي تتأسس في خطابها الأدبي وتحديدا في طريقة إنشائه الفريدة”.
ويتابع “نحن إزاء مقولة ليست اجتماعية أو نفسية من قبيل مقولة المؤلف، بل هي مقولة شعرية أدبية. وهذه الذات تتجدد مع كل قصيدة ونص جديد. إنها صيرورة حية تنفلت عن كل تقنين. ولكنها صيرورة في اللغة وبها ولها علاقاتها المتشابكة بما هو إيتيقي وسياسي وتاريخي. هذا الكلام في العموم منطبق على جميع الشعراء الحقيقيين. لكن ما توصلت إليه بالنسبة إلى سركون هو إجمالا متعلق بجنس الكتابة الشعرية النثرية لديه والعلاقات التي يؤسسها مع تاريخه الثقافي في شقيه الآشوري والعربي، وتلك التي يؤسسها مع واقعنا المعاصر على نحو يمثل سياسة الأدب”.
ويوضح القرقني أنه “في تونس، أطلق مصطلح بعينه على الجيل الشعري الذي أنتمي إليه على وجه الافتراض، أعني بدلالة السن. هذا المصطلح هو جيل الألفية الثالثة. ولكن، في نهاية المطاف أعتبر أن قصة الأجيال هذه ذات حدود أدبية كبرى. صحيح أنني مدين بعلاقات صداقة إنسانية وشعرية تصلني بأصدقاء كثيرين في تونس ينتمون إلى هذا الجيل. ولكن مقولة الجيل في حد ذاتها سريعا ما تصبح عائقا أمام تفكر الخصوصية الشعرية لتجارب الشعراء، تلك السمات الفنية الفكرية، دون فصل بينهما، التي تميز شاعرا بعينه من دون الآخرين، والتي يمكن أن يكون قد استفاد في خلقها من تجارب شعراء ينتمون إلى عدة أجيال”.
ويتابع “هذه الاستفادة يمكن أن تكون، أو لعلها تكون نقدية بالأساس، لأن الشعر في حد ذاته نقدي من خلال محاولته الدائمة أن يغاير أشكاله السابقة. في تونس، استفدت من صداقتي الشعرية، قراءة وتواصلا مباشر بأسماء مهمة كثيرة من بينها أذكر منصف الوهايبي، آدم فتحي، فتحي النصري، زياد عبدالقادر، صبري الرحموني، سفيان رجب، أنور اليزيدي، سامية ساسي، يوسف خديم، عبدالفتاح بن حمودة وآخرون غيرهم”.
وحول أسباب تأخره في إصدار مجموعاته الشعرية وقلّتها يكشف القرقني “طالما كنت متأخرا في نشر كتبي مقارنة بزمن كتابتها. وهناك كتب كثيرة قد لا ترى النور لسوء الحظ أو حسنه -لا أدري- بسبب مزاجي وانشغالاتي الكثيرة ورغبتي في ألا أنشر إلا ما يبدو لي جاهزا أو مراجعا على نحو كاف، رغم أنني لست كثير المراجعة لكتاباتي، من حيث الكم على الأقل. لدي مخطوطات شعرية ستصدر قريبا وتباعا. قادمها يحمل عنوان ‘صلاة شجرة قبل أن تقطع’ في انتظار أن أكون أكثر صرامة مع نفسي في مسألة النشر”.
يكتب القرقني في ديوانه “نشيد سيد السبت” نشيدا بلغة تنحل من الكتب المقدسة ومرويات الأساطير والمخطوطات المهملة في مكتبات عتيقة وفي أقبية. وهنا يكشف عن تجليات هذه التجربة، قائلا “أعتقد أن الكتاب لا يخفي في شعريته نفاذه إلى عالم الكتب المقدسة والأساطير. صدقت تماما. وفي هذا الكتاب لعلني انهممت بأمرين: أن أستقدم المقدس إلى عوالم جديدة عليه وأن أرتفع في بعض قصائد الديوان بما هو يومي إلى مصاف الأسطوري”.
ويشدد القرقني على أن هذا العالم ليس مفصولا عنده عن شكل الكتابة، مضيفا “لقد كتبت الكتاب على نحو قصيدة النثر كما ظهرت في الغرب (الفرنسي أساسا)، أي وفق نظام الفقرة النثرية التي تعتمد الجملة النحوية وحدة لبناء القصيدة بدلا من البيت القديم ذي الشطرين أو السطر الشعري. والشكل هنا، مثلما هو الحال دوما في الشعر، ليس شكلانيا أي أنه حمال عوالم من المعنى والذاتية. وهو في سياق ‘نشيد سيد السبت’ منسجم وقريب من عوالم الآيات في القرآن والكتاب المقدس. أعتقد أن النشيد كتاب مميز في تجربتي وله ما يسترسل منه في قادم كتبي. لكن أحسب أنني ذهبت في مناخات أخرى بعده”.
ويضيف “لا أعتقد مطلقا في غياب أو ابتعاد عن الذات داخل الشعر. بل الشعر مخبر للنظر في الذات وصلتها بالذوات الأخرى. ولكن يجب ألا نبحث عن هذه الذات في أعلام على رؤوسها نار الضمائر والإشارات الذاتية الصريحة، لأن الشاعر يقول أنا في كل قصيدته وفي وحدتها الجامعة. بقصيدته كلها يخلق أنا مميزة في اللغة يكون لها امتدادها في فرديته الاجتماعية مثلما يكون لها ما تنفصل به عنها. إن الشعر في بعض نفسه اختراع لذات صاحبه؛ حتى وإن اكتفى بالإشارة إلى الآخرين البعيدين والأشياء الجامدة”.
الترجمة والشعر التونسي
يؤكد القرقني أن الدافع الأساسي لاقتحام الترجمة عنده هو حب الشعر والانتماء اللامشروط إليه. ويقول “ترجمت يافعا جدا، قصائد ونصوصا أدبية من أجل أن أتشاركها مع أصدقاء لا يجيدون ألسنا أخرى. ولكنهم يحبون الشعر. ثم ترجمت مقتطفات من شذرات فلسفية ومسرحيات قديمة. ورميت بها في سلة المهملات، لأنني كنت مراهقا غرا يستمتع بشغفه دون تفكير في النشر. ثم جاء النشر لاحقا. وطبعا، يساهم البعد الاحترافي الذي تحظى به الترجمة في ارتفاع نسق الترجمة لدي ولدى غيري من المترجمين. هناك أيضا مسألة الرزانة التي أتسم بها في ما يتعلق بالنشر. ولكن، ما يهون علي أني أكتب وبلا هودة، قصائد وشذرات فلسفية وقصصا ومشاريع روايات بعضها يصمد وبعضها يقع في الطريق”.
ويرى أن تنوع أنشطته الإبداعية بين النقد والشعر والترجمة والصحافة والدراسة الأكاديمية تتراوح تجليات تأثيره على مجمل تجربته، ويقول “بعض هذه الأنشطة، الصحافة مثلا، يرتفع نسقه عندي وينخفض حسب ظروفي وطبيعة التزاماتي. لكنني أردد دوما هذه العبارة عندما أتلقى سؤالا كهذا: كل ما أفعله في حياتي أفعله شاعرا. ويمكن لهذه العبارة أن تتخلى عن مجازها وتشير إلى واقع فعلي إذا أضفت إليها ما يلي: كل ما أنجزه في اللغة أنجزه شاعرا وانطلاقا من كوني شاعرا. هذا يعني أنه في حال التفكير في الأدب مثلا أو الترجمة، هناك ملكات أخرى أحتاج إلى تحصيلها وتطويرها باستمرار. لكنها تتأسس على ملكات الشاعر”.
ويتابع “النقد الأدبي والتفكير في الأدب لا معنى لهما إن لم يكونا تطويرا لحدوسات شاعر ولمعايشة واختبار حقيقيين للأدب، في القراءة والكتاب. كذلك الأمر بالنسبة إلى الترجمة التي أعتبرها نوعا خاصا من الكتابة. فأنا لست من دعاة شفافية المترجم وتواضعه المزعوم. إن المترجم الذي يحاول أن يختفي ليقول لك إنك تقرأ بودلير رأسا هو مترجم يريد أن يخدعك متحالفا مع ناشره. إنك تقرأ ترجمة آدم فتحي ليوميات بودلير مثلا. وهذا نص أدبي فريد له خصوصيته التي لن تجدها إلا فيه. على هذا النحو، أرى أن الشعري يسترسل في كل ما أمارسه. ولكن إذا كان الشعر هو قائد المغامرة الأدبية والفكرية والحياتية في تجربتي، فلن يكون مطلقا بمفرده”.
أما عن تنوع ترجماته ما بين الشعر والرواية، فيلفت إلى أن هناك فرقا في كل نص أدبي حقيقي. ويضيف “أحاول أن أتقمص دوما ذات النص بدلا من أن أختفي وراء مقولات الأمانة والخيانة. أقرأ النص الذي أترجمه متفحصا باحثا فيه عما ينشئ أدبيته وخصوصيته من بين النصوص الأدبية حتى تلك التي كتبها صاحبه. ثم أحاول قدر ما تتيحه ذاتيتي وموقعي في الحياة والكتابة أن أعيد كتابته ضمن ضوابط اللسان/ الثقافة العربية. ولكن رهاني يظل دوما خلق شعرية/ إنشائية (تخص كل الأجناس الأدبية) مقابلة لشعريته الأولى دون هوس بفكرة الأصل والنسخة. أعتقد أن تصوري هذا يكسر منطق الوفاء والخيانة ويظل منخرطا في منطق الدقة والإبداع. يشبه الأمر على نحو مجازي ممثلا يتقمص شخصية بعد أن يدرسها بعناية. فلا هو يضرب خبط عشواء. ولا هو يلجم نفسه عن الإبداع باسم إعادة خلق أصل لن يتاح له أن يتكرر مطلقا“.
وأخيرا يأتي المشهد الشعري التونسي ورؤيته لما تقدمه الأجيال الجديدة في سياق قصيدة النثر خاصة، والحراك النقدي التونسي المتفاعل مع المشهد الشعري، يقول أشرف القرقني “من السهل أن يختم المرء على الأشياء بلام النفي. ولكن الإبداع والبناء هما العسيران. ومع ذلك، سأحاول أن أكون ناقدا لا نافيا. هناك محاولات كثيرة. لكن قليلها يحمل آفاقا بعيدة. لعل ذلك ما يحدث دوما مع كل جيل وفي مختلف ‘المشاهد الأدبية’؛ تظهر أصوات كثيرة تتفاوت في الموهبة والجدية. ولكن وحده من سوف يقرن الموهبة بالبحث والتنقيب الصبور على امتداد عقود يمكنه أن يؤسس تجربة أدبية أو نقدية أو فكرية حقيقية ومختلفة. هذه هي الضريبة في الأدب والفكر دوما؛ حياتك برمتها. من جهتي، أحاول أن أنحت في صخر المشقة والمتعة هذا، من أجل أن أفيء في نهاية المطاف إلى شيء من الماء. لا يمكن للمرء أن يكون متيقنا في نهاية المطاف من أنه سيدرك الماء ومن أن هذا الماء سيكون زمزما. ولكن، لا خيار بالنسبة إلي سوى المحاولة. فمنذ أن أدركت الحادية عشرة قلت لنفسي إما أن أكون شاعرا في هذه الحياة وإما لا شيء“.
ونذكر من مجموعات القرقني الشعرية “تقريبا”، “نشيد سيد السبت”، وفي القصة القصيرة له “مسيح القمر الأزرق”، وله في الترجمة الأدبية: رواية بيدرو ميرال “السنة المفقودة”، ترجمة مقالات عن السينما ضمن الكتاب الجماعي “خمسون سنة من السينما التونسية” إشراف الهادي خليل، رواية “قلب كلب” لميخائيل بولغاكوف، رواية “الطائر الملون” لجيرسي كوزنسكي، رواية “التحول” لستيفان زفايغ، كتاب “رسالة إلى د” أندري غورتز، كتاب “هيا نوقظ الشمس” خوسيف ماورو، “رجل وجمل” كتاب شعري للشاعر الأميركي مارك ستراند، كتاب “مغامرات قارض كتب” سام سافاج، وكتاب “آنْ في الضيعة الخضراء” لوسي مود مونتغومري.