الشاعر والكاتب المغربي محمد بقوح: على العرب إيقاظ عقل سبينوزا

الشاعر قد يبدأ حياته شعرا ثم يتحول بشكل مفاجئ إلى السرد والنثر.
السبت 2022/12/03
رؤيتي تنتصر للإنسان

من الخطأ الاعتقاد الرائج بأنه من غير الممكن الجمع بين أصناف كتابة مختلفة وخاصة الجمع بين الأدب والدرس الفكري دون تفضيل أحدها على الآخر، أو ظلم أحدها على حساب الآخر، إذ يمكن للكاتب أن ينوع مجالات اشتغاله بشكل متوازن يكمل فيه مجال غيره. وفي هذا الحوار لـ”العرب” مع الشاعر والكاتب المغربي محمد بقوح نبين هذا التكامل كما يراه.

يجمع الكاتب المغربي محمد بقوح بين الشعر والقصة القصيرة والرواية، والاشتغال على الهمّ الفلسفي، وقد كان لذلك أثره على رؤاه وأفكاره وكتاباته، حيث تتجلى ملامح الشعر على أسلوبه في القصة والرواية، وتتجلى ملامح الفلسفة في عمق واتساع دلالات هذه الإبداعات.

ونلاحظ هذا التداخل في عدة أعمال له، مجموعة “رائحة التراب” في القصة، و”برمودا ورقصة الشمس” في الرواية، وفي الشعر ديوانه “أيها العابرون”، وفي المجال الفلسفي كتبه “الفلسفة والسلطة”، “نيتشه ومطرقة الفلسفة”، “سبينوزا الفيلسوف المحايث”، و”دولوز وفلسفة الاختلاف”.

الزخم الثقافي

بداية يبين بقوح أن “العشق الأول، كتابة الشعر التي ارتبطت في البدء، عندي، بالمحيط الاجتماعي الثقافي الذي عشت فيه، بساحات مدينتي الصغيرة حينئذ: الدشيرة، قبل تسميتها المركبة، الحالية ـ الدشيرة الجهادية في الجنوب الغربي ـ مدينة أغادير. كان لمختلف الأنشطة الثقافية والاجتماعية، سواء كأنشطة موسمية أو سنوية، مثل ظاهرة عيساوة، وسمكاوة، فضلا عن ظاهرة الروايس بأنغامها الموسيقية، وكذلك، ظاهرة تزانزارت كمجموعة غنائية، فعل ثقافي متميز، برز في نفس الفترة التي ظهرت فيها مجموعة ناس الغيوان بمدينة الدار البيضاء، تقريبا بداية السبعينات”.

ويعتقد جازما، أن لهذه الأجواء الاجتماعية والثقافية المحلية الدور العميق في تأسيس مخياله الشعري والأدبي في سن مبكرة، ويقول “باعتبار أننا في هذه المدينة الصغيرة (الدشيرة) حينئذ، كنا ننتظر كأطفال وشباب بشوق كبير حلول تواريخ إقامة جميع تلك المواسم الثقافية – الاجتماعية، التي تعد بحق جانبا مهما من أصول الإرث الثقافي الرمزي للمنطقة تحديدا، إن لم نقل، امتدادا طبيعيا للتراث الثقافي بمعناه الرمزي للمغرب ككل”.

يتابع بقوح “الزخم الثقافي والفني المتعدد بأبعاده الموسيقية والشعرية الانزياحية، منذ نشأتي، سكنني مبكرا كابن مطواع شرب من ثدي أمكنة مسقط رأسه، ثم بعد ذلك تفجرت في دواخلي كعيون أدبية، واهتمامات شخصية بالفكر والإبداع، في سياق التحاقي بالمؤسسة المدرسية، التي لعبت أيضا الدور المُكمل والمُحفز على نفس المنحى الأدبي والإبداعي، من خلال تجارب شخصيات بعض معلمينا الأجلاء الذين كانوا يجمعون في عملهم كمدرسين بين الفعل البيداغوجي والتنشيط الفني والإبداعي، أستحضر هنا تجربة أستاذ جليل، في سلك الثانوي، رغم تدريسه لمادة لغة بودلير – الفرنسية كان حريصا على أن يتيح لنا كتلامذته، بين الفينة والأخرى، فرصة للنقاش الفلسفي والحوار الفكري الجاد، يزكي به ملكتنا العقلية بشكل رائع. ونفس الشيء، بالنسبة إلى أستاذ آخر، كان يدرس مادة الفلسفة، ويسمح لنا بكل أريحية، في آخر كل حصة فلسفية أسبوعية، بأن نقرأ أشعارنا وقصصنا التي كنا نهيئها مسبقا، لذلك الغرض”.

بوكس

ويلفت الأديب المغربي إلى أن قراءاته الفردية والتي تمثلت في كتابات جبران وسميرة بنت الجزيرة، ومحمود درويش، وطه حسين، وتوفيق الحكيم والسياب، ومحمد بنيس، ومحمد شكري.. إلخ. ثم في مرحلة الجامعة والشباب، أتيح له التعمق الحر الممكن، وفق اختياره الأدبي، في الجواهر الإبداعية والفكرية لكل من إنتاج الصعاليك، والجاحظ والمتنبي، وابن رشد والعروي والجابري وأدونيس والماغوط، والمعري والنفري، ومنيف.. وغيرهم.

ويكشف “موازاة مع هذه الملامح الأولى التي ميزت تجربتي في القراءة والكتابة، كنت مهتما بشكل كبير، بالحضور الدائم لمجموعة من الأنشطة الثقافية ذات الطابع الأدبي والإبداعي. كنت أتنقل أحيانا من منطقتي الدشيرة إلى مدينة أغادير- المركز (12 كلم) عبر دراجة عادية، أحضر عروض المسرح والندوات الفكرية والأدبية، وقراءات الشعر في المركب الثقافي – الحي الحسني بأغادير، وكذلك في معلمة قصر البلدية، من خلال صوت الشاعر الراحل محمد ابزيكا، فضلا عن الأنشطة المسرحية التي كان يؤطرها الراحل عبدالقادر عبابو، من خلال فرقته أنوار سوس، تشخيصا وكتابة وإخراجا. لقد كان لكل هذه الأنشطة والفنون الإبداعية، سواء بطابعها الثقافي المادي أو الأدبي، الدور الأساس في تشكيل اللبنة الأولى لاهتماماتي الكتابية المنفتحة على التنوع والتعدد، ومن ثمّ، ككاتب بري ونقدي متعدد”.

ويؤكد بقوح أن “حضور الشعر يتجاوز مقياس الزمن. ويمكن أن ينفجر الشعر ينبوعا صافيا لدى الشاعر، في أي لحظة ممكنة توفرت فيها شروط الإبداع الشعري، مهما طال غيابه أحيانا. بمعنى، أن الشاعر قد يبدأ حياته شعرا، مثلا، ثم يتحول بشكل مفاجئ، لكنه تحول طبيعي، إلى اهتمام إبداعي آخر، يتناسب مع طبيعة سنه، وشروط مجتمعه الراهنة، غيرأنه يظل يمارس شغب الشعر ضمنيا في اشتغاله الأدبي الجديد. وهذا ما حصل معي بالضبط، وأيضا مع العديد من الشعراء في تاريخ هذا الجنس الأدبي، قديما وحديثا”.

ويتابع “القصص التي كتبتها في مجموعتي الأولى ‘رائحة التراب‘ الصادرة سنة 2013، وكذلك روايتي الوحيدة ‘برمودا ورقصة الشمس‘ الصادرة عن جامعة المبدعين المغاربة سنة 2018، كان الهاجس الشعري والفكري والفلسفي حاضرا فيهما معا بشكل قوي. لا يسعني الوقت هنا لاستبيان الملامح الشعرية في نصوصي السردية، قصة ورواية. ربما الأمر يحتاج إلى وقفة تأملية نقدية طويلة ومعمقة. لهذا، فالتفسير الوحيد لتأخر إصداري الشعري ككتاب ‘أيها العابرون‘ 2020، هو أن شروط النشر وقناعات خاصة لم تكن متوفرة في الزمن الذي ـ ربما ـ كنت فيه أكتب الشعر، حيث كان الشعر متمسكا بي، أو كنت أنا متمسكا به. لهذا، كنت أكتفي فقط بنشر نصوصي أولا، في الجرائد والمجلات الوطنية (أنوال، طنجة الأدبية، الملتقى..). بعد ذلك، تحولت بطريقة طبيعية إلى كتابة السرد: قصة ورواية استجابة لحاجة في نفسي للحكي وسرد حرائق الذات والمجتمع معا”.

يرى بقوح أن التحول إلى الفلسفة والبحث الفلسفي، قراءة وكتابة، لم ينشأ في مساره الكتابي عن طريق الصدفة، باعتبار أنه كان مهووسا بالسؤال الفلسفي منذ انفتاحه المبكر على القراءة وعالم الكتاب، دون ميز.

يقول الكاتب “لقد كنت أقرأ كل ما يقع بين يدي، حتى وإن كان المقروء أكبر من عمري البيولوجي. لكن، تعمق في نفسي هذا الميل الفلسفي بالخصوص في الحصص الأولى للدرس الفلسفي في الثانوي، كمعظم شباب جيلي في ثمانينات القرن الماضي ممن يستهويهم التمرد على التقليد، باحثين عن آفاق رحبة للحرية والإبداع الذي يحتاج إلى التسلح في البدء بالحس النقدي. الوصفة المعرفية التي ربما وجدتها في الفلسفة والتحليل الفلسفي. كان ذلك، في فضاء ثانوية حمان الفطواكي بالدشيرة الجهادية، وبالرفقة البيداغوجية والصداقة الفلسفية مع ألمع أساتذة الفلسفة حينئذ، أساتذة موهوبين، كنت حقيقة محظوظا مع جيلي، باللقاء التعليمي معهم، ما تزال شخصياتهم المبدعة، كما قلت سابقا، وأسماؤهم الكبيرة، منقوشة بلمعانها المضيء في ذاكرتي وذاكرة جيلي”.

ويتابع “هكذا، كانت بدايتي مع الفلسفة، اشتهاء تلتها دهشة ممتعة ما زالت مستمرة إلى الآن، فضلا طبعا عن صقل ودعم وتعميق هذا التوجه الفلسفي بالإكثار من القراءة المعرفية والفكرية والفلسفية، خاصة في الطور الجامعي، وبعد الخروج إلى عالم الشغل واختيار مهنة التدريس، لم أتوقف عن القراءة والكتابة إلا في مراحل معينة من حياتي الأدبية، لتكون الانطلاقة الجديدة بنفس جديد ومختلف، يزداد تنويرا مع مرور الزمن، أراوغ به مطبات قبح الحياة”.

ويضيف “في الواقع، كنت أقرأ فقط لنفسي، باحثا عن لذة المعنى في الكلمة، ومستكشفا عوالم الجمال وقوانين العقل، وعدالة الأرض بين دفتي كتاب فلسفي، يقربني إلى إنسانيتي كإنسان، أكثر مما أجد ذلك في عالم الناس، الذي كنت أعتبره دائما في أمس الحاجة إلى ما تدعو إليه الفلسفة من إحكام العقل، ويؤسسه الفلاسفة منذ لحظة الأغارقة القدامى، من قيم إنسانية نبيلة بطابعها المختلف المتنوع والمتعدد، رغم الصعوبات والمحن التي يتعرضون لها، بين حين وآخر، من قبل أدوات ومكونات أنظمة السلطة عبر مسار تاريخها الطويل”.

المهمة الفكرية

☚ الزخم الثقافي والفني المتعدد سكنني مبكرا
 الزخم الثقافي والفني المتعدد سكنني مبكرا

حول رؤيته للعلاقة بين الفلسفة والسلطة؟ ولماذا كتب أول كتاب عن موضوع شائك أو إشكال فلسفي كهذا؟ ثم كتاب عن نيتشه وسبينوزا ودولوز. وكيف يرى هذا الربط بين قمم فلسفية وفي تواريخ مختلفة تقدر بقرون من الزمن (ق 17 – ق 19 – ق 20)؟ يقول محمد بقوح “في الواقع، تعتبر مسألة السلطة كنظام يسعى إلى التحكم، القضية الكبرى التي تؤطر مشروعي في الكتابة، على الأقل في تقديري ككاتب نقدي. واهتمامي بهذا المبحث الفلسفي يعود إلى وظيفة الكتابة التي تعني عندي، فضح فعل الهيمنة، وهدم، قدر الممكن، أسس سياسة الفرض والاستبعاد، من أجل تأسيس حياة العدل والحرية والمساواة، بعيدا عن التضييق والتعصب، تلك السلوكات اللاحضارية التي ترتبط في عمقها بجوهر عقل السلطة، سواء كحاكم، أو أدواته الاجتماعية وأطرافه الرمزية”.

ويوضح “من هنا، جاءت كل كتبي السبعة الصادرة حتى اللحظة، سواء الأدبية – الإبداعية أو الفكرية – الفلسفية، في سياق هذه الرؤية المعرفية الشمولية التي تنتصر للإنسان الإيجابي ضد حياة النفي والعدم. هكذا، بعد اشتغالي النقدي على جملة من الأبحاث والمقالات الرصينة في كتاب ‘الفلسفة والسلطة‘، الصادر عن دار أفريقيا الشرق، ككل كتبي الفلسفية، سنة 2021، بحثت في تأصيل مشروعي في الكتابة، بدءا بفلسفة نيتشه (1844 – 1900) التي أخذت مني الكثير من الجهد، توج بكتاب ‘نيتشه ومطرقة الفلسفة‘ (2022). بعد ذلك قادني نيتشه كفيلسوف مضاد لعقل السلطة السائد إلى البحث في فلسفة فيلسوف نوعي آخر، هو سبينوزا (1632 – 1677)، الذي يعتبر عمله الفلسفي الينبوع الأصلي للفكر النيتشوي، باعتراف نيتشه نفسه بذلك، لما قال قولته الشهيرة: دماء سبينوزا تجري في جسدي”.

ويتابع “اخترت لكتابي الفلسفي الثالث اسم ‘سبينوزا الفيلسوف المحايث‘ (2022). فكانت رحلتي مع هذا الهرم الفلسفي، رغم قلة كتبه، رحلة العقل الصارم الذي يبحث عن عدالة العقل، في خضم الهيمنة المطلقة لحكم عقل سلطة الكنيسة المتواطئة مع تعصب اليهود في عصره. إذ كان نيتشه يبحث عبر فلسفته عن قوة الإنسان الأعلى، فشقيقه الفلسفي، سبينوزا كان يبحث عن بوصلة جديدة توجه العقل البشري سعيا للسلام”.

الشاعر تحول بطريقة طبيعية إلى كتابة السرد قصة ورواية استجابة لحاجة في نفسه للحكي وسرد حرائق الذات والمجتمع

ويشدد بقوح على أن سبينوزا عقل إنساني متوازن يفكر بطريقة حوارية، ديمقراطية، عادلة وحداثية، بعيدا عن فعل التضييق والتطرف والاستعباد، وهو الدرس الفلسفي الذي يلزم كل الجامعات في العالم، ومنها الجامعات العربية، أن تستوعبه وتقربه إلى طلبتها في مؤسساتها التربوية، حتى يبدو أثر الفلسفة كفكر تنويري ذي حس نقدي وإنساني بارزا على شخصياتهم الفكرية والاجتماعية. أي، أن يمتد أثر الفلسفة، من خلال الدرس الجامعي مثلا، إلى الحياة العملية للطالب (ة)، ومن تمّ يسود السلم والحوار والتعايش بين الأفراد والأمم”.

ويواصل قوله “من هنا، جاءت أطروحة كتابي الفلسفي الرابع ‘دولوز وفلسفة الاختلاف‘ الذي سيصدر سنة 2023، وهو ينتصر لفعل الحوار والتعايش والانفتاح على الاختلاف، ونبذ العنف والتضييق على الحريات والفلسفة. هكذا، كان مشروع دولوز الفلسفي مبنيا على فكرة رد الاعتبار للفلسفة، باعتباره جوهر التفكير الفلسفي، ليس هو البحث في خوارجها، أي ربطها بالأيديولوجيا المضللة، ولكن بالتنقيب الحر عن المفاهيم الفلسفية عند الفيلسوف أو تجديدها. وهو العمل الأساس الذي يراهن عليه كل فعل استمراري لحياة الفلسفة. هنا والآن وفي الغد”.

وبين محمد بقوح ختاما أنه يمكننا تسجيل الغياب غير البريء لمواكبة النشاط الفلسفي عندنا، مقارنة مع مواكبته للأنشطة الأخرى في المجتمعات العربية والإسلامية، بسبب ترسخ تمثلات خاطئة في المجتمع، وبدعم من السلطة نفسها، عن الفلسفة والتفلسف، وهي المهمة الفكرية والمعرفية التي حاولت فلسفة دولوز معالجتها، والنهوض بها دفاعا عن الفلسفة.

13