الشاعر والصور والكلمات، غناء حوريات لاهيات

الأحد 2014/04/06
تخطيط: ساي سرحان

هل أعود إلى البداهة، لو قلت إن الصورة هي من أساسيات الشعر، وأن لا شعر بلا صورة، وبالتالي فإن التصوير الفني في صلب عمل الشاعر في الشعر. لقد تكلم نقاد الشعر كثيرا عن الصورة الشعرية. ولعلهم فعلوا أفضل من كلام أيٍّ من الشعراء عنها. خصوصا أن الصورة الشعرية، هي في بنية الشعر وجوهره وكذا في النثر الفني.

لكن الشعر الحديث له قصة أخرى مع الصورة، هناك عالم صوري جديد حمله لنا الشعر الحديث، وثيق الصلة بالحياة الحديثة وما أنتجته من علاقات متجددة بين الأشياء، جعلت الشعر أقدر الفنون على ابتكار عوالم جديدة بواسطة الصورة الشعرية.

لا تولد القصيدة مهما كانت المشاعر التي تعتمل في دواخل الشاعر لحظة الكتابة ما لم ترافقها تلك الصور التي تتدفق في مخيلته، منظومة من الصور التي تميِّز خياله الشعري وبصيرته المبدعة. أولا بأول، يرى الشاعر مشاهد قصيدته ليس قبل ولا بعد، وإنما خلال الكتابة. سطرا فسطرا تولد الصور في الباصرة ومعها تولد الكلمات في نظام يتيح لتلك الصور أن تتخلق وتتشكل، وهو أيضا نظام تتيحه العلاقات التجاورية لتلك الصور.

وعندي أن الكلمات التي لا تشكل في القصيدة صورا ليست بشعر جيد. إنها، إذ ذاك، مجرد أقوال تتشبه بالشعر.

ولربما كان داخل كل شاعر مخرج سينمائي صامت، شخص عاشق للصور، وعلى وجه الخصوص الصور غير المألوفة، وما قصيدة الشاعر المولع بالصور، سوى شريط سينمائي، شاشة عملاقة تنعكس عليها علاقات الوعي باللاوعي في صور غريبة.


العالم المفقود


في الشعر، ليس في وسعنا أن نكتب قبل أن نغسل الكلمات، قبل أن نفرِّغ الكلمات من ذاكرتها، ونمنحها مدارا جديدا وأرواحا جديدة. ليس هذا بالأمر السهل، بل إنه مرات يشبه المستحيل. الكلمات أرواح، بالكلمات نبني ونهدم، بالكلمات نفتح الأبواب، بالكلمات نشق البحر ونفلق الجبل.

فللكلمات قوى خارقة وأفعال سحرية. إنها تكتشف الألباب، وتصل الأزمنة الصغيرة بالزمن الكبير، والزمن الغابر بالزمن الذي يولد.

في الشعر نتلمس الأشياء في ذاتها، نريدها لذاتها، والشاعر ليس مشتغلا في الكلمات لأجل ما يعطي الكلمات أدوارا، أو يمنحها أقنعة تغترب بها عن طاقتها الحرة. فليست الكلمات مجرد أشخاص في حفل.. جاؤوا من أمكنة مجهولة وسيعودون إلى مجهولهم. الكلمات ليست قابلة لأن تكون عملة في سوق، ولو حدث أن كانت فهي لن تختلف في مصيرها عن عُملة أهل الكهف، ناموا وبطلت ولما استيقظوا ونزلوا بها المدينة وجدوها بلا وزن.

ليس ثمة ما هو أجلُّ من الكلمات في ذاتها، الكلمات وقد تخلقت في شعر، كما يتخلق السحر، فنجد في الكلمات كفايتنا. إنها خبز الشاعر، وقمح الزمن. يقول الشاعر: فلأعترف بعجزي عن تفسير الماء، العلماء طالما كانوا أقدر من الشعراء على التفسير، لكن ما من أحد أقدر من الشاعر على أن يكون صوت الأعماق، وشعره ضوء الأزمنة.

ليس في وسعنا أن نكتب قبل أن نغسل الكلمات، قبل أن نفرِّغ الكلمات من ذاكرتها ونمنحها أرواحا جديدة


الشعر والبنية


ليس من شأن الشعر أن يخلق صورا أليفة، أو منطقية، أو نمطية، بعض الشعراء يفعلون ذلك، لكن الشعر طاقة جامحة. هذا لا يعني أنه فوضوي رغم أنه يوحي مرات بالفوضوية والفوضوي في الكائن. لكن الشعر في نص هو لغة، وبنية، ورؤى وموقف، وهو صناعة حاذقة، وبنيات منظمة وفق منطق خاص بها، إنه ليس الكلمات وحسب، ولكنه الطاقة التي تشع من الكلمات، وهناك العلاقات التي توائم بين الكلمات. وهو أولا وأخيرا بنية لغوية تنهض على علاقات يمكن استكشافها، فهناك مثلا تشطير مقصود، وبناء مهما أوحى بتجريبيته، إنما يخلق بنية، وبالتالي فإن القصيدة نظام من الكلمات، فكيف يكون كل هذا مجرد حدث فوضوي؟ ولكن الشعر في قصيدة، نظام معقد مهما أوحى، أو أوهم بالبساطة.


صوت الأمل


يخيل إليّ مرات، أن الإنسان المعاصر أشبه ما يكون بشخص محتجز في بئر، وما الشعر إلا صوت الأمل في ذلك الكائن. والشاعر هو ذلك الصوت الذي يتحدث إلى العالم من ذلك البعد القصي، من تلك الغيابة التي في الجب، حيث ما أن يعي الكائن وجوده في العالم حتى يكتشف حقيقة أنه ذلك الشخص الأسير، وليس لديه سوى صوت الأمل.

قصيدة الشاعر هي ذلك الصوت، ومرات يكون مثلها كمثل تعويذة خائف من قَدر، تصويت شخص سائر في طريق موحش، والشعر، أيضا، صوت اليأس من كل رحلة، فمادام الإنسان غريبا في مسقط الرأس فهو غريب في كل مكان بعده.

لكن علاقة الشاعر بالكلمات، وعلاقة الكلمات بالرؤى التي تجسدها، إنما تكون منحرفة، مورابة، لاعبة، موهِمة ببساطتها، وملتبسة مرارا، تشتغل على الإيهام، وطوال الوقت الإبهام خالق الشفافية وابنها.

جدوى الشعر مرتبطة بجدوى الوجود الإنساني، وإن كنا لا نرى من ذلك جدوى، فلا جدوى إذن من أي شيء


اختراق الحواس


هل يمكن لشعر أن يجتاز الطريق الشائكة إلى أعماقنا ما لم يحتل حيزا ما في رؤيتنا للوجود والكينونة الإنسانية، للطبيعة وصورها، والإنسان وتطلعاته وأشواقه؟ ولكن هل نستطيع ادعاء قدرة خارقة للشعر على احتلال رؤية قارئه، من دون شعر خارق؟

لا يكون الشعر شعرا إن لم يخترق حواسنا بما هو مدهش وغامض الجمال، أو مبهم. إذ ذاك يملك الشعر قدرة السحر على اختطاف الأرواح المرهفة إليه، وعلى تحويل شاعره إلى مجذوب قدره الهيام بحب الشعر، لكن هل يمكن أن يحقق الشعر مثل هذه المعادلة الصعبة، من دون أن يقف له على الطرف الآخر مستقبل عاشق ذكي الروح ، مفعم باللطائف؟

الشعر الجميل يرهب، بهذا المعنى رأيت مرة في كلمات الشاعر إرهابا، وفي الشاعر إرهابيا. لأن كلماته يمكن أن تكون ضربا من السحر، من حيث أنها تتصل بأعمق ما في كينونة الإنسان. وهل إن ذلك الأعمق في الإنسان إلا الشيء الغريب، بل والمخيف، حيث لقاء الحياة بالموت، والوجود بالعدم.


الابتكار وجدواه


هناك ثلاثة أمور لا تني تشغل الشاعر: الأول يتعلق بالشعر كابتكار يخالف العادي والدارج، أي أن يكون الشاعر وشعره على النقيض من الأدب السائد، وتحديدا الشعر السائد، والأفكار السائدة حول الشعر.

والأمر الثاني يتعلق بمدى قوة هذا الابتكار، وقدرته على خلق حالة جمالية وتعبيرية خلاقة. والأمر الثالث يتعلق بجدوى الشعر.

لست ممن يأخذون بفكرة أن كل شعر يكتب اليوم تحت يافطة الجديد هو شعر جديد بالضرورة، بل إنني أكاد أرى في كثير من الشعر نسخا من غيره. ولما كانت الحياة الشعرية العربية الراهنة تفتقر بصورة مخجلة إلى حركة نقدية كاشفة، فلك أن تتصور في أي عمى أدبي نحن. وفي أي فوضى يعيش الشعر العربي اليوم.

إنما في يقيني أن الشعر المكتوب باللغة العربية، اليوم، يحتوي على مناطق قوة هائلة، وهناك تجارب شعرية عربية ترقى إلى مستويات جمالية رفيعة، ويمكن وصف بعض هذه التجارب بأنها حديثة بامتياز. مقابل بحر من الكتابة الشعرية التي لم تصدر عن مواهب كبيرة، ولكنها في الوقت نفسه تعبر عن شغف هذه الأمة بالشعر، وتعلقها به.

الشعر تعبير عن الروح الإنسانية، هل من جدوى لوجود الإنسان على هذه الأرض؟ جدوى الشعر مرتبطة بجدوى الوجود الإنساني، وإن كنا لا نرى من ذلك جدوى، فلا جدوى إذن من أي شيء.

في فترات مبكرة من حياة الشعراء عليهم أن يكتبوا بغزارة، لأن الكتابة الغزيرة في مطالع التجربة ليست فقط دليل خصوبة كما يقولون.. ولكنها أعمال تشبه تدفق الماء في مجرى، فلا بد للماء وهو يتدفق في المجرى، ليس أن يتغير وحسب، بل وأن يغير بقوة تدفقه المجرى نفسه، فكيف باللغة وما تحمله من مشاعر وأفكار وصياغات ورؤى وتطلعات.والآن، ما جدوى الشعر؟


لذة الشعر


وبما أن الشعر في أصله غناء ولذة، فليس هناك ما هو أعمق وأقوى وألذ من الشعر، إنه الغبطة القصوى، النزهة الرائعة، الانفراد بالمنحة الغريبة، المغامرة المروّعة وراء ما لا سيطرة لنا على الهيام به، كما لو كان ذلك غناء حوريات ساحرات.

وهو أيضا الأنس مع الذات، انتماء متطرف إلى الذات لا نعود معه نتعرّف على هذا الذي نخلص في الانقطاع إليه إن كان ملاكا أم شيطانا. إنه انشغال الذات بأشيائها على نحو تتهاوى معه المسافة بين الملاك والشيطان، ويصبح كلاهما حبيبا وأثيرا وبريئا. فالشعر، بهذا المعنى، كيان خالص ونحن في عهدته عازفو نايات في غابة.

11