الشاعر المغربي عمر الراجي: وسائل التواصل هي الحالة المعاصرة للثقافة لجيلنا والأجيال القادمة

ليست كتابة الشعر قضية شكلية، فلم يهتم الشعر منذ القدم بالشكل أو القالب الذي يجب أن يكون عليه، وما الشكل إلا لباس للشعر، والشعر في النهاية جوهر يتمظهر من خلال اللغة ويمزج ببراعة بين الانفعالات الشعورية والأفكار ليخلق طاقة الشعر التي قد تتجاوز القصيدة أو النص. “العرب” كان لها هذا الحوار مع الشاعر المغربي عمر الراجي حول رؤيته لقضايا الشعر اليوم ومعارك الشكل والجوهر.
يعتبر الشاعر عمر الراجي من أبرز الأصوات الشعرية المغربية اليوم التي تخط لها تجربة مختلفة، إذ يمزج الشاعر في قصيدته الفكري بالجمالي ويتخطى إلزامات الشكل محاولا أن يفتح قصيدته على مدارات تخييلية أخرى خاصة به.
وفي حواره مع “العرب” يكشف الراجي عن نظرته إلى الشعر وحرب الأشكال المفتعلة التي لا تنفك تنشب هنا وهناك بين الشعراء العرب، الذين تقود بعضهم الأيديولوجيا بعيدا عن جوهر الشعر والقبول بالاختلاف والتنوع.
القصيدة وأشكالها
العرب: تكتب القصيدة العمودية بروح مختلفة ونفس مختلف، يكسران بنيتها الجامدة ويحولانها إلى نص طيع لدى الشاعر، هل يمكن تجديد هذه القصيدة من الداخل؟
عمر الراجي: بصراحة، لست مشغولا بقضية الشكل قدر انشغالي بالفكرة الفنية نفسها، الشاعر يجب أن ينجو من مصيدة البلقنة والأيديولوجيا التي حولّت حساسيات الكتابة إلى اصطفاف فئوي تتصارع فيه وجهات النظر بدل أن تتكامل، على الشاعر كما أرى أن يحرص على حياديته إزاء المواقف العامة التي لا تخضع لمقاييس محددة، وليس عليه أن يتعصب لتيار دون آخر، فهو كائن جمالي يتذوق الحالة الفنية ويعكف على قراءة جمالياتها قبل أي قارئ آخر.
لستُ أقلل من أهمية الجانب الشكلي فلا عمل فنيا يولد من العدم دون هوية واضحة، ولاشك أن الشكل الفني جزء من الهوية ومن اللعبة الجمالية التي تشغل ذهن الشاعر وخياله، لكن تفكير المبدع في الشكل يمثل عادةً موقفا احتفاليا من هامش التنوع المتاح، إنه احتفاء بغزارة هذا المُتاح الفسيح من فضاءات الكتابة الشعرية، وهو أيضا نوع من الانتشاء والاستمتاع باتساع الأفق.
الشاعر يسمي قصيدة النثر بـ"كتابة شعرية عالية بالنثر" بينما اسم القصيدة مرتبط في الثقافة العربية ببنية البيت وبالتفعيلة
الواقع أن القصيدة العمودية كغيرها من الأشكال الشعرية المستجدة هي بنت الخيال والشعر، وهي بذلك قادرة طبعا على ابتكار جنسيتها الجمالية الخاصة بها، والتي تجعلها متميزة بما يكفي من الاختلاف والتفرد، ومتعايشةً أكثر مع قيم الحداثة ومزاياها وأفضالها على الفن بشكل عام وعلى الشعر خاصة.
العرب: كيف تطوع كشاعر مفردات العصر ودفقك الوجداني ورؤاك الفكرية في قصيدتك؟
عمر الراجي: أنا أحسب نفسي تلميذا للفلسفة والفلاسفة، وعاشقا للسؤال منذ أول فكرة، نشأتُ في محبة الفكر وألهبت خاطري وعقلي نصوص الفلسفة منذ أول صفحة قرأتها وأنا فتى يافع، لذا، فمفردات العصر بالنسبة إلي هي لغة الساعة ولحظة السؤال التي تجايل لحظاتنا الفردية، لا أفصل حالتي الوجدانية الخاصة عن نبض العالم، وكأي كاتب قلِق لا أرى الخلاص الفردي إلا موقفا مما يجري في العالم، وبالطبع فالقصيدة هي موقف مما يجري من العالم، إنه موقف يغذيه الخيال ويهذبه الواقع.
والشعر بشكل عام لم يعد يتحمل تحجيمه ووصفه بأنه مجرد انفعال نفسي تجاه ما تلتقطه الحواس، إنه بالأحرى موقف حضاري من الواقع، ومن هذا المنطلق العذب، يكون الشعر فلسفة عالية الذوق رفيعة اللغة ومكثفة الرؤى. وككاتب يعيش في هذا العالم أرى أن قصيدتي تمثل جزءاً من تجربة القصيدة الفلسفية التي تخوص معركة الوعي بقلق وحذر، وبإحساس كبير بالواجب الأخلاقي للسؤال.
الشعر والنثر
العرب: للمغرب تجارب شعرية مهمة ثارت على الأنماط التقليدية، وكرس الكثيرون شعرهم لقصيدة النثر، كيف ترى قصيدة النثر في المغرب وقد صار لها منجز يمكن الحكم من خلاله؟
عمر الراجي: لا بد لي أن أعترف بعدم قدرتي على تقييم الإبداع عموما فكيف إذا كان الأمر يتعلق بالإبداع داخل بلد بعينه، لكنني يمكن أن أقول بتلقائية إنني أستمتع كثيرا بتلك الكتابات الشعرية التي تنبع من جبروت النثر ومساحاته الواسعة، النثر يشبه الغابة فهو ممتد، وهو كالغابة لأنه على خلاف البيداء يبقى كالأدغال عصيا على آلة البصر دون الدخول إلى أعماقه والتوغل في تفاصيله الحميمية.
هناك الكثير من المبدعين العرب ومن جملتهم شعراء المغرب طبعا، قدّموا للشعرية العربية نصوصا عالية من النثر يمكن أن نصفها بالخبز والبارود، فهي قريبة منا وهي تتطاير بعد انفجارها دفقةً واحدة كلحظات سريعة ممعنة في اختصار الكثير بلغة أقرب إلى التقشف المقصود ثم تترك وراءها دخان الدهشة.النثر في المغرب وفي معظم البلدان العربية يقدم للقصيدة الشعرية العربية متنفسا آخر ورؤية جديدة للفن الذي يقرأ العالم فيحلّق فيه بعيدا بعيدا دون أجنحة واضحة.
القصيدة العمودية كغيرها من الأشكال الشعرية المستجدة هي بنت الخيال والشعر وقادرة على ابتكار جنسيتها الجمالية الخاصة بها
العرب: هل أنت مع تسمية ما يكتب اليوم على أنه قصيدة نثر كذلك، رغم ابتعاده عن التنظيرات التي أسست لهذه القصيدة شكلا وطريقة بناء، حتى أن الكثيرين يفضلون تسميته بـ”القصيدة الحرة”؟
عمر الراجي: أنا لا أرى أن تسمية القصيدة منصفة لهذا الشكل الفني الرائع، إنها كما أفهمُ: كتابة شعرية عالية بالنثر، وهي تحمل كل ما يحمله البيت الشعري وأكثر، ففيها الذهول والاختصار والوصف المنحاز إلى الخيال والواقع في آن، دون أن تكون الفكرة غائبة أو مغيبة، لكن فكرة المعنى البلاغي ليست هي المبتغى من الكتابة الشعرية عموما، بل الحالة التي نصل إليها بعد السماع أو بعد القراءة المتأنية هي ما نرجوه من الشعر.
وبالرجوع إلى تسمية القصيدة فهي ترتبط في الثقافة العربية عضويا بقصيدة البيت وربما بالتفعيلة أيضا، لأن التفعيلة ليست أكثر من تنويع للقوالب الموجودة قديما في قصيدة البيت.
العرب: يعتبر الكثير من الشعراء أن العودة إلى الأشكال السابقة من العمودي إلى قصيدة التفعيلة، فيها نوع من الارتداد إلى الماضي، كيف تجيب هؤلاء؟
عمر الراجي: أنا لا أرى أن هنالك عودة. لا أعرف لماذا يروّج البعض لهذه الرواية التي تبدو لي ساذجة جدا وتنمّ عن جهل في الواقع، لا يمكن أن تنم إلا عن جهل.
أساسا لم يهجر الشعراء في يوم من الأيام القصيدة العمودية ولا نظيرتها التفعيلية، هذا وهم كبير لا أدري كيف اختلقه مناخ الاصطفاف وصدّقه البعض ثم أصبح حقيقة بالنسبة إلى الأكثرية، وهذا مؤسف.
الشعراء العرب في مختلف الأجيال كتبواْ القصيدة الموزونة ونجحوا في خلق إرث خاص بهم، جبران وإيليا والسياب ومحمود درويش وأمل دنقل ونزار وأدونيس وسعدي يوسف، كل هؤلاء كتبوا شعرا موزونا، هؤلاء كلهم عاشوا معنا القرن العشرين حتى آخر رمق، وكتبوا الموزون حتى آخر رمق، ومنهم من قضى معنا معظم أشواط العقد الأول من القرن الحالي ومنهم من هو حي يرزق اليوم.
لا أدري كيف يصح أن نتجاهل هذه الأسماء التي تشكل بلا نقاش الامتداد الأكبر لقراء الشعر في العالم العربي جماهيريا ونخبويا، ربما، وأقول ربما، يكون السبب في اختلاق هكذا مسلمّات فارغة هو الجهل بالواقع، أو عدم قدرة الكاتب الأيديولوجي على النظر خارج القفص، قفص المواقف المؤلمة والهشة.
منجز مغاربي
العرب: كانت لك مشاركة مميزة في الدورة الأخيرة من برنامج “أمير الشعراء”، بلغت خلالها مراحل نهائية مراهنا على الجائزة، كيف أفادك البرنامج؟ ألا ترى أن هناك هيمنة للشعر العمودي عليه؟
عمر الراجي: أفادني البرنامج كثيرا، أولا بقضاء أجمل ثلاثة أشهر من عمري وسط شعبي الحقيقي، شعب الشعراء المجانين ومن يدركون عبثية العالم ثم يعقلنونها بجُملهم طويلة النفس وعذبة الكلام. أفادني بإعادة البعض من جدوى الكتابة في زمن تحاصر فيه التقنية أحياء الفن الصغيرة، مثل هذه المبادرات تعيد الحياة إلى الفنون النخبوية، ولا أرى أن الشعر العمودي مهيمن عليه، أحسب أن الشعر هو المهيمن، أما النقاش الشكلي فهو متجاوز لأن المنظمين اختاروا شكلين إيقاعيين ليس إقصاءً للنثر، ولكن رغبة منهم في الاشتغال الإعلامي على جماليات وإمكانيات الإيقاع مسرحيا وعلى مستوى اللغة.
الشعر بشكل عام لم يعد يتحمل تحجيمه ووصفه بأنه مجرد انفعال نفسي أو عاطفي تجاه ما تلتقطه حواس الشاعر
العرب: ألا ترى نجاحك في البرنامج تأكيدا على أن هناك منجزا ثقافيا مغاربيا يستحق التثمين؟
عمر الراجي: في المغرب العربي كما في الشرق فسحة كبيرة من العبقرية، قديما حدثنا كنّون عن النبوغ المغربي، وعلى المغاربيين أن يؤمنوا بقدرتهم الكونية على الخلق الإبداعي في الشعر كما في الرواية، كما في الموسيقى كما في أي حقل آخر.. لكن عليهم في المقابل أن لا ينتظروا اعترافا من الآخر، لأن ذلك يقلل من شأن شخصيتهم الإبداعية أمام أنفسهم وأمام الآخرين، عليهم أن لا يختلقوا عُقدا جديدة من فراغ، وكما قلت عبقرية المغرب لا تعني ضمور العبقرية في المشرق، والعكس صحيح كذلك.
الكتابة في عالم التقنية
العرب: بعيدا عن حروب الأشكال كيف يرى عمر الراجي قصيدته، وإلى ماذا يكرسها؟
عمر الراجي: كما شرحتُ آنفا، أنا تلميذ الفلسفة وحفيد السؤال وشقيقُ الواقعية، وأنا اللاجئ في وطن اللغة، منحاز إلى القلق ومُلتحف بردائه، أكرس في نصي كل هذه العناصر، فلا يخلو أي من قصائدي من نكهة اللغة التي تحاول أن تكون لذيذة ومتقشفة، وأن تكون عاطفية وأرضيةً، ولا أريد من القصيدة تاج الحكمة والبلاغة، لا أريد منها غير طرح المزيد من الأسئلة ذات الراهنية والجدوى، لا أعني بذلك أن المعنى الفكري يشغلني، لكنني لست مع العبثية في الشعر، ربما تكون الكتابة نفسها تجسيدا للعبثية كأسلوب حياة لا يبالي بالهواجس، لكنني لست مع عبثية العبارة.
لا أريد لقصيدتي أن تحارب من أجل مبدأ أو قضية أو أن تخوض معركة أصلا. الإنسانية والوعي هما معاً عنوان هويّتي الشعرية والأمر لا يحتاج إلى سجال أو إلى حالة من المناكفة والاحتراب، الأمر يحتاج وُضوحا فقط.
العرب: هناك من يقول بتراجع الشعر، وهذا واقع، من المسؤول في رأيك؟ الشاعر الناقد القارئ صناعة النشر… أو غيرهم؟
عمر الراجي: الشعر كغيره من الفنون النخبوية تراجع وبشكل كبير على المستوى الجماهيري، ليس ذلك استثناءً ، فالفن التشكيلي والموسيقى الأكاديمية والمسرح، كل هذه الفنون تشهد تآكلا كبيرا في قواعدها قياسا بالقرون الماضية، الأمر مفهوم في ضوء معطيات العصر التي انتصرت فيها التقنية على كل الفنون، بل إن فنونا كثيرة قد اندمجت عمليا في قالب التقنية وأصبحت تغذي بقدرتها الإبداعية مظهر التقنية واختراقاتها لفضاء الواقع اليومي، ليس الشعر وحده من يعاني.
حتى القراءة الإبداعية تراجعت في العالم ككل، لكن هذا الواقع الجديد في نظري ليس أمرا يدعو إلى القلق والانتحاب وفقدان شهية الكتابة حتى.
المؤكد هو أن الرأسمالية المادية غيرت ترتيب الأرقام في المعادلة الاجتماعية حديثاً، لكنها لم تقلب أركان هذه المعادلة، بقيت الثقافة معيارا لا غنى عنه لقياس الوعي العام، وشرطاً للاستجابة الشعبية. قد لا تكون القراءة وحدها هي المحدد الرئيسي لثقافة الشعوب، لكنها مؤشر على وجود سلوك معرفي يؤسس لعلاقة اجتماعية مع المعرفة.
نعم، القراءة تتراجع ورقيا ولا تتراجع واقعا، يخسر الأدب وتتطور تجلياته الثقافية في زوايا أخرى غير الكتب والصالونات المعزولة، يخسر الشعر أفقياً جزءاً كبيراً من جماهيريته، لكنه يكسب عمودياً كل ما خسره. هكذا يشرح الشاعر العربي أدونيس واقع الشعر في المشهد العالمي، غير العربي طبعاً.
فالشعر بهذا المسلك الخاص يصل إلى أعلى مستويات المجد الفني بفضل خصوصيته الفنية أولاً، وبفضل حوارييه الأوفياء من ذوي القراءات العالية، وممن يرون في الشعر ملكوت الفكر الإنساني الخلاق الذي يبصر النور في آخر النفق وينذر العالم بما يراه مجهولاً وملتبساً وغير محسوم، إنه قلقُ الشعر الذي ظلت حضارة العالم مدينة له بفضل السؤال والشك. إنه الشعر القلِق، من يلد الحقيقة ويغذي عقل الابتكار.
العرب: كيف ترى تأثير وسائل التواصل على الشعر المعاصر، وخاصة شعر الأجيال الجديدة؟
عمر الراجي: أعتقد أن وسائل التواصل ولاسيما الفيسبوك قد خلقت حالة جديدة في الكتابة، ويجب أن نتوقف عندها، لأن الكثير منا لا يعلم أن هنالك من لا يكتب اليوم إلا في صفحته الزرقاء، أنا مثلا قضيت سنوات طويلة لا أكتب إلا إذا شدتني حالة نفسية طارئة فأرسم عالمها البِكر على شكل حالة في الفيسبوك، وهكذا يكون المقطع الأول خلفيةً لونية للوحة شعرية مكتملة تنضج في الورق أو في الحاسوب لا فرق. الأمر صحي جدا كما أرى، ومن يدري قد تكون قراءتنا للمنشورات على الفيسبوك وكتابتنا في صفحاته هي الحالة المعاصرة للثقافة بالنسبة إلى جيلنا والأجيال التي تلي.
العرب: هل هناك حراك شعري جاد وله صدى في المغرب؟ وهل هناك مواكبة نقدية فعلية؟
عمر الراجي: في المغرب كما في غيره كتابة إبداعية متميزة في الشعر، ولو أن هنالك مشكلة حقيقية تتعلق بتراجع هواة العربية نتيجة لإهمال الجهات الرسمية لهذه اللغة في شقها الجمالي، ونتيجة أيضا لزحف الاستهلاك على مساحات الثقافة في المجتمع وداخل المؤسسات، أما النقد أو ما يسمى بـ”النقد الأدبي” فهو إن وُجد، لا وزن له ولا حضور، وهو بهذا المعنى أصبح “بلا معنى”.