الشاعر أقدر الناس على خلق الأساطير

ارتبطت الأسطورة منذ القدم بالمخيال البشري في تمثلاته للعالم الذي يعيش فيه، وللقيم الفكرية وحتى الروحية والعاطفية، إذ لكل أسطورة منبتها في أرض الواقع. ومنذ القدم ارتبطت الأسطورة بالشعر، لما فيهما من صبغة مشتركة، تقوم على مزج الفكري بالعاطفي لخلق تمثلات كليّة مكثفة للعالم.
السبت 2017/07/01
الشاعر لا يوظف الأسطورة الجاهزة بقدر ما يعيد خلقها

يقرأ الناقد عبدالناصر حسن في كتابه “صانع الأسطورة في الشعر العربي الحديث” العلاقة بين الشعر والأسطورة في نشأتها وتطورها ليصل عبر هذه القراءة إلى آليات الشاعر في صنع الأسطورة، وقد كانت أعمال الشعراء بدر شاكر السياب وعبدالوهاب البياتي وأدونيس وصلاح عبدالصبور وخليل حاوي ومحمود درويش وعبدالمنعم عواد يوسف ومحمد سليمان، سعيا إلى الإجابة عن تساؤل مهم وهو إلى أي مدى يبقى نصيب المبدع أو الأديب في صناعة هذه الأسطورة وما الفرق بين أن يصنع الأديب أسطورة هي إعادة إنتاج للأسطورة القديمة ولكن بالمعنى الأدبي وبين أن يصنع أسطورته الخاصة؟

الشعر والأسطورة

يؤكد حسن في كتابه، الصادر عن الهيئة العامة للقصور والثقافة- سلسلة كتابات نقدية، على أن علاقة الشعر بالأسطورة علاقة موغلة في القدم حيث التقى الشعر بالملاحم البابلية والإغريقية والسومرية والفرعونية مثل إيزيس وأوزوريس ومثل الإلياذة والأوديسة وملحمة جلجامش وغيرها. هناك ارتباط واضح بين تلك التراتيل والابتهالات الدينية التي كان يقوم بها الكهنة في المعابد والأشعار الشعبية التي كان يرددها المنشدون في المناسبات الدينية المختلفة، وبين التجربة الشعرية ذات السمات الروحية والجمالية بالغة الأثر.

وفي هذا ما يؤكد على أن أشكال الأسطوري والملحمي والشعري كلها أشكال يربطها ذلك الاتصال الروحي العميق الحافل بالتجارب الإنسانية بكل أسرارها وبواعثها النفسية والجمالية ولا غرابة بعد ذلك في عودة الشاعر المعاصر إلى تلك التجارب الأسطورية في الشعر، وإنها لعودة حقيقية إلى مصادر التجارب الإنسانية في تاريخ البشر ومحاولة التعبير عن امتداداتها في عصرنا الراهن، بوسائل مبتكرة تجعلها تقع دائما بين الحقيقة والخيال الأدبي الخلاق.

ويشير الناقد إلى أن كلا من الأسطوري والشعري يوهمان الإنسان بامتلاك السلطة على الأشياء، إذ اللغة لدى صانعي الأسطورة ليست أداة اتصال فحسب، بل هي أداة سحرية للسيطرة على الأشياء والكائنات. إن قوة المبدع صانع الأسطورة تكمن أساسا في اللغة واستخداماته الفنية لها؛ فهي بالتأكيد لغة تختلف بشكل كبير من حيث الرمزية والإيحاء والكثافة والقدرة على الإثارة لامتلاكها شحنة من الأحاسيس والعواطف، تستطيع من خلالها أن تقرع الصمت، وتبث الحياة، بل لنقل إنها تنفث في الإنسان ما يكسبه القدرة على استدعاء القديم والمزج بينه وبين الرؤية الحديثة له، ثم يتجاوز المبدع ذلك بمحاولاته المستمرة في العصر الحديث لأنه يصنع أسطورته الخاصة.

ويوضح حسن أنه إذا كان الشعراء قد نجحوا في توظيف الأساطير والمأثورات الشعبية توظيفا فنيا واعيا يربط بين الماضي والحاضر أو بين التاريخي والواقعي، فإن للإنسان ـ بوصفه كائنا رمزيا مزحوما بالرموز أحلاما وسلوكا وأملاـ نزعاته الذاتية وإنجازاته الفردية في صناعته عالما أسطوريا مستمدا من واقعه المعاصر. وإذا كان الإنسان بصفة عامة يشارك في صناعة التاريخي والأسطوري فإن الشاعر على وجه الخصوص هو أقدر الناس على خلق الأساطير، فالشاعر بما يملك من أدوات فنية ولغوية لا يوظف الأسطورة الجاهزة بقدر ما يعيد خلقها أو ينشئ أسطورة جديدة تعتمد على رموزه الشخصية التي هي في الوقت نفسه امتداد للصور والنماذج العليا التي يتشكل منها اللاوعي.

قوة المبدع صانع الأسطورة تكمن أساسا في اللغة واستخداماته الفنية لها؛ فهي لغة رمزية وإيحائية قادرة على الإثارة

تحليل قصائد

يقول حسن في قراءته لأسطورة مهيار الدمشقي في ديوان “أغاني مهيار الدمشقي” لأدونيس، “إن أسطورة مهيار تتداخل في تركيبتها مع مستويات متعددة، كما تقول خالدة سعيد، تجسد قلق الإنسان المعاصر وأزمته بوصفه فردا يعيش تعقد الظرف الإنساني في عصره، ثم هو على مستوى آخر يعاني تجربة التحولات والتوتر التي يعيشها العربي، وعلى مستوى ثالث يواجه مشكلات وجودية مثل الموت والحياة والحب وهنا ينقل الشاعر تجربته الخاصة إلى مستوى كوني”.

ويضيف “أهم ما يميز تجربة أدونيس فنيا في صناعته للأسطوري أنه استخدم ما يعرف بالإديوجرام أي الصور التي تقوم بالربط بين الأبعاد المتنافرة والمتابعدة بحيث يكون أحد طرفيها هو الخارجي بكل ما يحمله إلينا عن طريق الحواس، في حين يكون الطرف الآخر هو الداخلي فيما تدركه الذات متكونا من خلال الوعي بالحقائق التاريخية، التي تم نقلها من خلال الحواس، وهو بذلك استطاع أن يضيق الهوة الفاصلة بين الحقيقة والخيال، بين الماضي والحاضر، وكذلك بين الحسي وغير الحسي، بين الواقع والأسطورة”.

وفي دراسته لقصيدة “لعازر 1962” للشاعر خليل حاوي يؤكد حسن أن حاوي نجح في توظيف رموز أسطورية جاهزة متنوعة في شعره، مثل السندباد وتموز والمسيح، فقد استطاع أن يجد ضالته الحقيقية في صناعة الرمز الأسطوري، ذلك الرمز الذي انتشله الشاعر من دلالة عامة له وحوله إلى جزء من أسطورته الخاصة.

ويرى أن حاوي استطاع في قصيدة “لعازر 1962” أن يصنع أسطورته الخاصة من خلال شخصية لعازر وزوجته، تجسيدا لصراع حاوي مع ذاته، لقد كتب يقول في تصديره لهذه القصيدة الدرامية مخاطبا الذات “كنت صدى انهيار في مستهل النضال، فغنوت ضجيج انهيارات حين تطاولت مراحله، ثم راحت ملامحك تكون ذاتها في ذاتي وتعتصر من كل مناضل ينهار أخص صفاته وأهمها كذلك راح الضجيج يستقر على صورة صافية الإيقاع عن أعماقه المتعكرة”.

علاقة الشعر بالأسطورة علاقة موغلة في القدم

ويحلل حسن قصيدة “تل الزعتر” لمحمود درويش حيث يرى أنها ملحمة تأتي بوصفها نوعا من القصائد الطويلة ذات الطابع الملحمي تهدف إلى تمجيد مثل جماعية إنسانية تستوعب الديني والوطني والأخلاقي من خلال تجسيدها لهذه المثل في بطل القصيدة الملحمية، ورمزا أسطوريا ثم أصبح أسطورة تامة تكسر المألوف والعادي، إنه أحمد الزعتر الأسطوري القريب إلى حد بعيد.

ويتضح ذلك في إعلان درويش منذ البداية لموضوعها وهو الظلم والقهر الشديدان اللذان يتعرض لهما أهالي تل الزعتر، كما تخضع لأسلوب الملاحم حين يبدأها درويش بوسط أحداثها وهي أيضا ملحمة حين يخضعها لتدخل الأقدار في شؤون البشر وكذا التشبيهات المطولة والمعقدة التي عمد إليها الشاعر.

وفي تحليله للأسطورة في شعر صلاح عبدالصبور يقول حسن “إن قراءة سريعة عند عبدالصبور تكشف لنا كيف كان البعد الأسطوري بكل تجلياته ماثلا في كتاباته وكتابات غيره من رواد الشعر الجديد، ولقد برزت أسطورة إيزيس بل مثلت نموذجا أعلى قد شظى من صور متنوعة تجسد في عموميتها هذا النموذج الأعلى عند صلاح عبدالصبور”.

ويلاحظ حسن أن الأسطورة عند عبدالصبور لم تكن أبدا مجرد نوع من اقتفاء الأساطير القديمة أو نظمها في قوالب شعرية، بل محاولة وسعي جاد لإعطاء القصيدة عمقا أكثر من عمقها الظاهر كما يقول، ونقل تجربته من مستواها الشخصي الذاتي إلى مستوى إنساني جوهري.

17