الشاعرة تورية لغريب لـ"العرب": الشعر يحمل تأويلات فلسفية عميقة حول الوجود البشري

من أفكارها الوجودية الذاتية ومن هاجس الوجود الجمعي الذي يؤرق الإنسان منذ الأزل، تنظم الشاعرة المغربية تورية لغريب قصائدها، محاولة الجمع بين العقلاني والشعوري وراغبة في إحداث تغيير اجتماعي لدى كل من يقرأ لها.
الرباط - صدرت للشاعرة المغربية تورية لغريب مجموعة شعرية بعنوان “في الشارع المقابل لجرحنا القديم”، عن منشورات الراصد الوطني للنشر والقراءة بطنجة. تتألف المجموعة الشعرية من 102 صفحة من الحجم المتوسط، وتضم 20 قصيدة شعرية، من بينها “رقصة الحصاد”، “حكايتي مع الليل”، “عزف منفرد”، “نحن البسطاء”، “في النوم نحن الأصدق”، “زهرة لا تذبل”، و”مرآة القصيدة”. وتزين غلاف المجموعة صورة من تصميم الفنان علي مبارك.
وفي هذا السياق كان لصحيفة “العرب” حوار مع الشاعرة حول ديوانها الشعري، حيث تقول “في الشعر يجتمع ما هو عقلاني بما هو حسي، إنه زاوية أخرى للنظر إلى العالم، من خلاله يمكن التعبير عن مشاعر لا يمكن وصفها بطريقة أخرى، أعتقد أنه وسيلة فريدة للتفاعل مع الواقع بحيث ينمي القدرة على التفكير وفهم مشاعر الذات الشاعرة”.
وفي حديث عن اعتبار الشعر وسيلة للتغيير الاجتماعي، تقول الشاعرة المغربية “مَن منا لا تراوده تلك الأفكار عن التغيير سواء على المستوى الفردي أو الاجتماعي؟ والشعر كجنس أدبي يمكنه أن يكون وسيلة للتغيير الاجتماعي، من خلال تسليط الضوء على الجوانب التي تهم المجتمع انتصارا للإنسانية، وذلك لا يتأتّى إلا من خلال قوة النصوص التي يشتغل عليها الشاعر ليس فقط من حيث الشكل بل المضمون الذي يتجاوز التعبير عن هذه الرغبة في التغيير، إلى إيصال صوت المستضعفين إلى أصحاب القرار، وهذا رهين باستحضار رسالة الشعر التي تناشد الحس الإنساني في الشاعر”.
وتعتبر تورية لغريب أن الشعر تجربة فنية وله أبعاد أخرى عميقة في تحليل الذات والمجتمع، وقد عبرت عن هذا بقولها “الأدب عموما قصة ورواية وشعرا وسيلة فنية راقية، لكن الشكل الجمالي لهذه الأجناس الأدبية، وأولها الشعر لا بد وأن يكون له ارتباط وثيق بتحليل الذات والمجتمع، فعندما أنظم نصا شعريا بكل ما يمكن توظيفه من محسنات لغوية تجعل منه لوحة فنية تروق القارئ، فالذاتية هنا حاضرة، إنها تعبر عن ذائقتي الشعرية ومكامن الجمال من زاويتي الخاصة. هذا من حيث الشكل، أما من حيث المضمون، فإنني أعبّر عن مشاعر ووعي ذاتيين نابعين من القلق الوجودي، الذي يلازم المبدع عامة في كل حالاته النفسية”.
وتوضح “من خلال تخصص علم النفس الذي أهتم به كباحثة، كتبت مقالا عن علاقة الشعر بعلم النفس، فالشعر شكل من التداعي الحر، الذي يعكس الرغبات المكبوتة والمخاوف والصراعات الداخلية التي تعتمل داخل النفس، وبالتالي فمن خلال الشعر يمكن التعبير عما يخالج النفس من مشاعر، موازاة مع ما يؤرق الإنسان من أفكار يصعب التعبير عنها بطريقة متداولة”.
وتضيف “دور الشاعر منذ القدم وحتى عصرنا الحديث عموما هو الارتقاء بالذوق، من خلال الحفاظ على اللغة وإثرائها، ويُفترض به أن يكون سفيرا لملكة البلاغة، التي تحمل في طياتها القيم الإنسانية التي تخدم المجتمع، خصوصا في عصرنا الحالي، حيث نلاحظ تآكلا لكل ما يرمز للجمال في صيغته الأصلية. الشاعر ومن خلال قوّة شعره، يصير مؤرّخا وطبيبا ومعلمـا، وغيرها من الوظائف، إذ يتمّ ذلك من خلال حسّه العالي وتماهيه مع ما يحدث في هذا العالم من أحداث وتغيرات، هو نفس التصور الذي أحمله عن دور الشاعرة فرغم اختلاف الجنس، يظل الأمر متشابها نسبيا إلى حدّ ما، وقد يكون نقطة قوة لدى المرأة الشاعرة التي غالبا ما تلتقط مجسّاتها الإبداعية ما قد يغيب عن الرجل الشاعر، شرط توفر النضج الفكري الذي يعدل كفة الشعر إحساسا وفكرا”.
وتقول “لعل ديواني ‘في الشارع المقابل لجرحنا القديم’ يحمل تصورا واضحا عن رؤيتي للشعر، بحيث توحّدت نصوصه حول الرسالة السامية للشعر، التي تهدف إلى التعبير عن هواجس الذات والمجتمع”.
وترى لغريب أن الشعر يمكن أن يكون شكلا من أشكال المقاومة أو التمرد على القيم والتوجهات السائدة في المجتمع، وهي تقول عن ذلك “من المؤكد أنّ الشعر وليد التأمل، هذا لا يعني أنه يأخذ صبغة الهدوء والرومانسية السطحية، يمكنه أيضا أن يكون صرخة رفض، للتعبير عن فكرة ثائرة متمردة، يمكن للشعر أن يكون وسيلة أو سلاحا للمقاومة والتمرد، إن استغور الشاعر جانب التمرد فيه وهذا رهين بسماته الشخصية، ضد ما يخدم الإنسانية، ولنا في التجارب الشعرية القديمة منها والحديثة نماذج لشعراء على سبيل المثال لا الحصر: مظفر النواب وأمل دنقل وأحمد مطر وغيرهم كثير، فالتمرد على القيم والتوجهات السائدة في المجتمع، قد يأخذ شكل تمرد سياسي أو اجتماعي مرتبطا بمدى الوعي، وبالرغبة في التغيير للأفضل، أو تمرد ميتافيزيقي يسائل الوجودية، إنه إيقاع قوي لا يتناسب إلا مع من لديه قناعات راسخة وقوة شعرية تمكنه من تجاوز الإيقاع الهادئ المتداول”.
وتتابع “للشاعر إلى جانب هويته الفردية هوية جماعية، ففي الشعر الحداثي ينظر الشاعر لهويته بوصفها شخصية وجماعية من خلال ربط الأنا الشاعرة بالتجربة الحياتية، بحيث يصير تارة الذات، وتارة أخرى الآخر، أو في حالة تعارض مع شخصيات أخرى، موظّفا أنماطا من الميثولوجيا أو الأنثروبولوجيا، بحيث يتخفّف من سمة الغِنائية، لِتحلّ محلّها صفة الموضوعية التي تخدم الوعي بشكل عام”.
وفي نقاش عن التحديات التي تواجهها كشاعرة في التعبير عن القضايا الاجتماعية والسياسية، تقول تورية “الشعر تجسيد لقيم الحرية والجمال والحق، لا يمكن لقصيدة أن تتشكل وترى النور داخل زنزانة من القيود، إنه فضاء رحب لنقد الواقع، بما يعجّ به من قبح. والقضايا الاجتماعية والسياسية داخل الشعر، يمكن التعبير عنها بحرية، لأن الشعر بمثابة مرآة عاكسة لكل ما يحدث في المجتمع، وهو ما يجعل منه أيضا وسيلة للتوثيق، إلا أن تحديات كثيرة تواجه الشاعر والشاعرة بسبب التعصب لأيديولوجية معينة من طرف المتلقي، الذي غالبا ما يُسقِط من حساباته أنّ الشعر وليد الحرية، وأنّ الشاعر يعبّر بما لديه من إبداع انتصارا للإنسانية، بعيدا عن أي انتماء من شأنه أن يحدّ من رحابة هذا الفضاء، والذي يتجاوز العالم الحقيقي إلى عوالم ميتافيزيقية لا حدود لها”.
ويمكن للشعر أن يكون وسيلة للتفكير النقدي واستكشاف الحقائق العميقة، فحسب قول تورية لغريب “ميزة الشاعر الحقيقي، أنه لا يتبنى آراء الآخرين ولا يتبع القطيع، لأنه يتأمل كثيرا، ويهتم بتفاصيل كل ما يقع حوله، بحساسية ووعي بالغين، لذلك فهو يسائل كل الخاصة بعيدا عن السطحية ووفقا لتفكير معمّق”.
أما القصائد التي أثرت في الشاعرة المغربية وفي نهجها الشعري فيتضح ذلك حسب قولها “يقودني عشقي للشعر باستمرار، إلى تنوع قراءتي له، ومراعاة لاختلاف الثقافة الشعرية السائدة، فإنني أقرأ للشعراء العرب قديما وحديثا، وبعض الترجمات لشعراء أجانب أمثال س.ت. إليوت، أناشيد مالدورور لوتيريامون ، بول إيلوار، ماياكوفسكي، فيسوافا شيبورسكا… والقائمة طويلة، حتى لا أقع في أسر نموذج بعينه، أسير وراء جمالية الحس الشعري وعمق المعنى، إلى جانب أنّ إيماني بالشّعر القوي الذي يتخفف من عبء البلاغة شكلا، والبحث عن عذوبة الشعر الخالص، ممّا يجعلني أنتقي ما أقرأ دون الانصياع للأسماء الشّعرية المكرسة إعلاميا”.
ويمكن للشعر أن يلهم التفكير الفلسفي والروحاني، وقد بينت لغريب هذا بالقول “التداخل بين الشعر والفلسفة قائم تاريخيا منذ عصر الفلسفة اليونانية، لأن لديهما موقفا مماثلا من الحياة، لأن القلق الوجودي ملازم لكليهما، الفلسفة نفسها ظهرت على شكل نص شعري، رغم الاختلاف بين طبيعة وأساليب كل من الفلسفة والشعر، فهوميروس صاحب الإلياذة، كتب فلسفته بحروف الشعر، مما يعني أنّ داخل الفيلسوف يوجد شاعر، والفكر الإغريقي أيضا اتخذ من الصياغة الشعرية وسيلة للتعبير عن مضامينه، ورغم نقطة الالتقاء بين الشعر والفلسفة في ما هو جمالي، إلا أن هناك غموضا يلفّ هذه العلاقة، فالفلسفة تخاطب العقل، بينما الشعر يخاطب الوجدان والفكر أيضا، بحيث لا يمكن النّفي بأنّ الشعر يحمل بين طياته تأويلات فلسفية عميقة، تسائل العقل والعاطفة. كما أنّه لا مناص من الجزم بأهمية الجانب الفني الذي يحاكي العوالم الحسية”.