السينما محاولة لفهم العالم ومصنع للذكريات

إيمانويل إيتيس يبحث عن كيفية تلقي الجمهور للسينما.
الأحد 2022/04/03
ماذا يفعل الناس في قاعات السينما

لا شك في أن علاقتنا بالسينما وتحديدا قاعات السينما واحدة من العلاقات ذات الخصوصية، فارتياد قاعات السينما لمشاهدة عروض الأفلام، وكذلك التنّقل من مكان إلى آخر، لمتابعة عروض المهرجانات، يرتبطان بذكريات شخصية، وتجارب حياتية وعلاقات اجتماعية (صداقة/ حب/ عمل)، كانت حاضرة في مثل هذه القاعات، بل تعد السينما واحدة من الطرائق التي لجأ إليها المراهقون كتأكيد على التحرر من سطوة الأب، فكانت هي الملجأ الآمن للهروب من دكتاتورية البيت والمدرسة أيضا، فكانت الأكثر تعبيرا عن هويتنا الاجتماعيّة.

لم تكن القاعات السينمائية مجرد أماكن لعرض الأفلام المحبّبة إلينا وفقط، بل هي مكان يجمعنا بأحبة وشخصيات مختلفة، بنينا معهم أحلاما عريضة اشتبكت مع الخيالات التي تقدمها هذه القاعات، ونسجنا خيوط المستقبل وفقا لما استمددناه من قوة وأمل وإصرار على نحو ما عرض أبطال هذه العروض.

ومن ثمّ تتمثّل قوة السينما الاجتماعيّة في كونها تمنحنا إمكانية ومتعة الحديث عن الأفلام التي نحبها أو نكرهها دون أي حرج، وبناء على اعتماده على المشاركة بين الجمهور يسقط الحدود بين الخطاب العلمي وخطاب العامة.

وفي الوقت ذاته قدمت لنا خدمة غير مباشرة لمعرفة من شاركونا هوايتنا وأذواقنا السينمائيّة، وهو ما يستشف من تجربة الرؤية معا، وبذلك تمثّل هذه القاعات “مكانا محوريّا في خبرتنا الثقافية والترفيهية بالمدينة، وقبلة محببة لقضاء أوقات الفراغ، ووسيطا مهما، يتحقق من خلاله اللقاء بين المشاهدين والأفلام”، على حدّ تعبير الأكاديمية سلمى المبارك في مقدمتها الاستهلالية لترجمة كتاب “علم اجتماع السينما وجماهيرها” لإيمانويل إيتيس، الصادر مؤخرا عن دار معنى (2021).

السينما فن شعبي

الكتاب يفكك العلاقة بين الجمهور والسينما، عبر استبيانات وإحصاءات، تؤكد صدق الافتراضات التي سعى المؤلف إلى إثباتها

يأتي الكتاب من متخصص في جماهير الثقافة بجامعة أفينيون، سبق وأن رأس الجامعة، والمعهد العالي لتقنيات العروض، ويدخل الكتاب ضمن اهتمام سيوسولوجيا الجماهير، أي متصل باهتمامات علم الاجتماع، في فهم السينما كممارسة اجتماعية تتداخل حكاياتها مع حكايتنا الشخصية، فهو يدرس علاقة الجماهير بالسينما، وبالأحرى ماذا يفعل المشاهدون في السينما؟

السؤال يبدو للقارئ عاديّا، فالمشاهد لا يذهب إلا ليتابع العروض السينمائية، لكن مع قراءة الكتاب يتضح أن علاقة المشاهد بالسينما أعقد من هذا التصوّر البسيط، ولئن كان أحد الأهداف هو متابعة الأفلام، إلا أن طريقة تلقي الأفلام تختلف من شخص إلى آخر، وحضور هذه الأفلام مع آخرين، كشف عن تعدّد المنظورات، وزوايا الاستقبال، وهو ما يكشف عن الذوق السينمائي في أدق صوره، وكذلك إمكانية بناء علاقات اجتماعيّة ورابط قوي مع هؤلاء الأشخاص الذين شاركونا مشاهدة واختيار الأفلام، وتناقشنا معهم حولها.

كما يتناول الكتاب تقاليد المشاهدة منذ بدايات السينما وحتى زماننا المعاصر، وهو ما يضع الكتاب على حد قول مترجمته في مقدمتها الاستهلالية في مصاف الكتب التي تقدم “قراءة اجتماعية / تاريخية للسينما، بوصفها ممارسة جماهيرية ترتبط ارتباطا وثيقا بتاريخ بناء دور السينما وتحوّلاتها واختفائها واستبدالها”، وكأننا أمام مرجع توثيقي للظاهرة السينمائية، وعلاقتها المؤثرة بمكان العرض وجمهور العرض، وهو ما يظهر في الفصلين الخاصين بدراسة مدينة أفينيون بوصفها نموذجا للمدينة السينمائية في القرن الحادي والعشرين، وبالمثل دراسته المخصّصة لجمهور مهرجان كان، بعيدا عن التعقيدات الفنية المتعلّقة بصناعة السينما التي هي من اهتمام علم آخر.

وبالمثل يبحث الكتاب عن تأثير التوصية التي تنتج عن الفضاء الإلكتروني، حيث يتمّ توجيه المشاهد إلى فيلم أو مسلسل، أو التي تصدر عن معايشة في العالم الحقيقي. كما يلفت إلى قيمة وإدراك الوقت في السينما، حول مثل هذه الموضوعات يدور الكتاب، إضافة إلى موضوعات أخرى تتعلّق بالثقافات السينمائيّة، والسينما والحياة.. إلخ من موضوعات مثيرة وحيوية في الوقت ذاته.

يتميز المؤلف بطرح أسئلة مباشرة تكشف العلاقة الخفيّة بين جمهور السينما وقاعاتها، من قبيل: ماذا تمثل تجربة الرؤية معا في الوجدان الجمعي والذاكرة المشتركة للجماعات الثقافية المختلفة؟ فتكشف هذه التجربة من تماثل أجيال عمرية متشابهة، في مهمة البحث معا عن عوالم تشكّل خيالهم الجمعي، وما يمثّله الجوار الجغرافي من أهمية في مسألة المشاهدة معا. في رحلة تتبعه للمشاهدين وعلاقتهم بقاعات السينما، وطرائق ارتيادها، يتطرق إلى تاريخ نشأة التلفزيون واحتلاله التدريجي موقع قاعة السينما في أوقات الفراغ، وهو ما آل إلى اختفاء وتدهور الكثير من دور العرض السينمائي، وإن كان عاد الاهتمام بالسينما مع الثمانينات، إذ بدأت المنشآت السينمائية تستعيد الجمهور، وخلق مذاق جديد لنزهة السينما، من خلال إنشاء المجمعات السينمائية.

المشاهد يذهب ليتابع العروض السينمائية، لكن مع قراءة الكتاب يتضح أن علاقة المشاهد بالسينما أعقد من هذا التصوّر

فصول الكتاب تناقش الكثير من القضايا المتعلّقة بالجمهور وقاعات العرض، فالفصل الأول “السينما فن شعبي” يركز على فهم الأسباب التي جعلت السينما منذ البداية فنا شعبيّا، ويرجع المؤلف السبب في هذا إلى الثورة الصناعية بما أنتجته من قيم جاءت متناقضة لتلك الآليات التي رسختها سياسة الثورة الصناعية، بتقسيم العمل وتخصيص المهام، وبناء على هذا أصبح الفرد مكملا للآخرين، وهو الأمر الذي انطوى على معنى مناقض، فقد أدّى التكامل إلى تحلّل الفضاء الاجتماعي، ولم يعد، وفق كلام المؤلف، للأفراد روابط حقيقيّة ببعضهم البعض، وارتبط ظهور نشأة الفن السينمائي بالجمهور، وهو ما عرف بسينما السبت، تلك التي كانت أفضل وسيلة للتعبير عن تلك السينما التي كان طابعها شعبيّا، فقد كان سخط الجمهور على فيلم ما، يعتبر بمثابة فشل يتحمله صناعه. وقد أسهمت هذه الأفلام الأوساط الشعبيّة على اختيار الهوية والمخيلة الفرنسيّة ككيان وطني.

بل يمكن القول إنّ مقولة “السينما مرآة المجتمع” تحيل إلى هذه العلاقة الإشكالية بين صناعة الفن والجمهور، فصناع الفن يتمثل هدفهم الأساسي في صناعة أفلام ترضي رغبة المشاهد الآنية في التقاء عالم مألوف لديه على الشاشة، لا وجود رغبة في صنع أعمال تعيش لأجيال طويلة، وإن كان في مرحلة لاحقة سيثبت البعض أنّه من الممكن الجمع بين الشعبيّ والمشروع الفنيّ، على نحو ما سعى جان رينوار.

سينما السبت

لا يرتبط تلقي السينما فقط بمشاهدة الأفلام، بل أيضا بالطريقة التي نتعاطى بها الثقافة السينمائية
لا يرتبط تلقي السينما فقط بمشاهدة الأفلام، بل أيضا بالطريقة التي نتعاطى بها الثقافة السينمائية

ولئن كانت ثلاثينات القرن العشرين في فرنسا الرواج الأساسي للسينما الشعبية، فإن بداية الخمسينات من القرن العشرين، مع انطلاق هوليوود الواسع توارت السينما الفرنسية الشعبية في الخلفية، وهو ما تبعته ندرة في حضور الأفلام التي تستمر في تقديم القيم المرتبطة بالهوية القومية، والقادرة في نفس الوقت على جذب الجمهور الواسع إلى قاعات السينما، وعندئذ تنشأ معايير جديدة للحكم على نجاح الفيلم، فتصبح “المليون تذكرة المباعة” هي المقياس المرجعي لهذا النجاح.

تتأسس فكرة الرؤيا معا التي يقرها إيمانويل إيتيس على حقيقة الارتباط بين الوعي الجمعي والذاكرة المشتركة للجماعات الثقافية المختلفة، فمعظم دراسات علم اجتماع السينما، أكدت أن الأعمال الفنية التي تشكل تراثا مرجعيّا، وترتبط بمحطات تاريخيّة مفصليّة لدى تلك الجماعات، روّادها يفضلون الذهاب إلى القاعات في مجموعات تتشارك في نفس الشريحة العمرية، وأيضا يتشاركون في الجوار الجغرافي، وثمة حقيقة يقولها إيتيس، بأن “سينما السبت” صارت ملتقى لجماهير متنوّعة من مستويات ثقافيّة شديدة الاختلاف، وهذا الأمر كان له انعكاس على مستوى التقنيات السينمائية، إذ ساعد على تجديد الأشكال الفيلميّة وفي تنوّعها.

وثمة شيء آخر يتحدد به نجاح الأفلام، يتمثل في شباك التذاكر، وإن كان ثمة عقد ضمني بين الرواج في شباك التذاكر والنجوم التي تظهر أسماؤهم في “تيتر” الفيلم، وإن كان نظام النجوم في الأصل يعتمد على الطريقة التي تتمّ بها المراهنة على نجاح الفيلم، لا على وجود نجم أو عدة نجوم في الفيلم، وإنما على قدرة هذا الفيلم على حشد أكبر عدد من النجوم المتعاقدين مع نفس الشركة، من أجل مضاعفة التأثير الجاذب للعمل.

وعن أسباب رواج الأفلام الأميركيّة في السينما الفرنسيّة، يذكر ثلاثة أسباب، هي: قوة الشركات الكبرى في الإنتاج والتوزيع، وهيمنة اللغة الإنجليزية، ثم القوة المالية الضاربة للشركات الأميركيّة.

قاعات السينما تكتسب أهمية اجتماعية فهي المكان الذي يستقبل المتفرجين الباحثين عن علاقات اجتماعيّة لها طابع جيلي

وهناك من يرى أن هذه الحجج تقليديّة بعيدة عن الأسباب الحقيقية، على نحو ما يؤكد رينيه بونيل، بأن السبب الرئيسي وراء هذه الهيمنة يعود بسبب سوق هوليوود المحلي الذي يُعد اختبارا أوليّا للفيلم، فبوتقة الانصهار الأميركيّة تسمح للاستوديوهات بإنتاج أفلام تمّ قياس نجاحها على أصغر قاسم مشترك للتطلعات، وبعدها يصبح النجاح كوكبيا.

وتعتمد أفلام هوليوود على قصص تاريخيّة تم دمجها مع الخيال، وهو ما يسمح بوضع ديكورات يستطيع أي مشاهد على مستوى العالم التعرف عليها، وهو ما يساعد المتفرج على الانغماس في قلب العالم المتخيّل الذي تقدمه الأعمال وتمثّله. لكن النجاح الحقيقي لأيّ فيلم حقّق نجاحا جماهيريّا يتمثل في قدرته على الجمع بين الفئات الاجتماعية المختلفة، ومن ثم غدت السينما وفقا لمفهومه مصنعا للذكريات.

أما الفصل الثاني فيركز على قاعة السينما وتاريخها كفضاء للبث في علاقتها بعمران المدينة والمعنى الاجتماعي لفعل احتياز هذا الفضاء، ويؤكد أن ثمة علاقة وثيقة تحول دون فصل التاريج الاجتماعي للسينما وجماهيرها عن تاريخ إنشاء قاعاتها وتحولاتها وانتقالاتها أو اختفائها، فقاعات السينما مثلت لمرتاديها “الراحة والمساحات الواسعة، والرفاهية، والحداثة”، وقد يعود هذا إلى ما اتسمت به القاعات من فخامة تستمد طابعها المعماري من المسارح، ذات طراز النيوكلاسيك الذي يتميز بالبناء الضخم، وهذه الأبهة والفخامة سعت في أحد جوانبها إلى استقطاب جمهور شعبي، غير متعوّد على مثل هذه الفخامة والأبهة.

كما أن القواعد أو الوصايا العشر التي كانت تُعرض قبل بداية العرض، أسهمت في إكساب الجمهور من الطبقات الاجتماعيّة الشعبيّة والمتوسطة الحدّ الأدنى من النظام الاجتماعي اللازم لحضور عرض سينمائي في ظروف جيدة. وباكتساب آداب الجلوس، أسهمت السينما كما يقول إيتيس دون أي شكل فني آخر، في دمقرطة الجماهير بشكل غير مسبوق.

وقد احتلت قاعات السينما مكانة متميزة لدى المتفرجين لقضاء أوقات الفراغ، بل واعتبروها فضاء للتفاعل الاجتماعي بين الأصدقاء وحتى بين العشاق، ومكانا يسمح باللقاءات بين دوائر اجتماعية كانت تجهل بعضها البعض خارج نطاق للعمل.

جنيّة المنازل

حشد أكبر عدد من النجوم يضمن نجاح الفيلم
حشد أكبر عدد من النجوم يضمن نجاح الفيلم

لكن بدأ التغير والتحوّل في نفس الوقت يلحق بقاعات السينما، مع ظهور التلفزيون أو جنيّة المنزل، الذي وجه ضربة قاتلة لدور سينما الأحياء، فقد أتاح له استقراره في المنازل القيام بالوظائف الاجتماعية التي كانت لفترة قريبة، تقوم بها دور السينما القريبة. وكانت نتائج هذا التحول فادحة، ففي غضون بضع سنوات اختفى ما يقرب من 3500 منشأة، كما قضى ذلك على عادة التردد المنتظم على قصور السينما الكبرى.

اللافت للأمر أن مع الدخول في العصر الحديث بدأ الاهتمام بالطرز المعمارية ينقص، فصارت التصميمات المعمارية للقاعات أكثر فقرا واتجهت لتبني نمط موحّد، لم يكن الشكل هو الاختلاف الوحيد، بل ثمة جملة من الاختلافات كإنشاء قاعات أصغر، وتعدد العروض بعد أن كانت العروض تتسم بالطول.

لا يكتفي بهذا العرض في دراسة علاقة الجمهور بالقاعات السينمائية، وإنما يقدم دراسة نموذجية للجماهير السينمائية في مدينة أفينيون التي هي واحدة من أكبر المدن السينمائية في أوروبا، وهي المدينة التي ارتبطت بالفن “والفنون” منذ نشأتها، وقد اكتسبت المدينة أهميتها في العصر الحديث بسبب المهرجان المسرحي العظيم الذي تتزيّن المدينة له في شهر يوليو من كل عام.

يروم المؤلف في هذه الدراسة معرفة كيف تتكوّن الجماهير وتنمو في إطار علاقتها بتاريخ وجغرافية المدينة، وهو ما اضطره إلى إحصاء عدد القاعات بالمدينة، وتاريخ تلك الدور، وموقعها في جغرافية المدينة، وسعتها، ونسب الحضور بها وطبيعة جماهيرها، ونوعية الأفلام التي تقدّم في كل منها، والقيم الرمزية المرتبطة بالقاعات المختلفة، واستكمالا لتقديم صورة متكاملة عن عالم المدينة السينمائي، يتطرق إلى الشاشات الأخرى شائعة الاستخدام في أفينيون، كشاشة الموبايل إلى السينما المنزلية.

تكتسب قاعات السينما أهمية اجتماعية، فلئن كان التلفاز أتاح اليوم، وبشكل أساسي، خوض تجربة التشارك الانفعالي في المنزل مقارنة بالسينما، إضافة إلى كونه ناقلا للتراث السينمائي من جيل إلى آخر، فإن قاعة السينما، على نحو ما يذكر المؤلف، هي المكان الذي يستقبل المتفرجين الباحثين عن علاقات اجتماعيّة لها طابع جيلي.

الفيلم وثيقة ثقافية

Thumbnail

في الفصل الثالث يخصص إيتيس ثلاث أطروحات نظرية حاولت تفسير طبيعة السينما من منطلق علاقتها بالمجتمع، أي باعتبار الفيلم وثيقة ثقافيّة ومصدرا للمعلومات عن المجتمع الذي أنتجه، فمع بداية الفصل يتساءل كيف نفهم فيلم السينما عندما نشاهده من منظور عالم الاجتماع؟ ويستقي الجواب عبر أطروحات عالم الاجتماع والناقد السينمائي الألماني سيجفريد كراكور (1889 - 1966)، الذي يرى أن كلّ فيلم، أيّا كان نوعه، سواء أكان واقعيّا أم فنتازيّا، يعدّ وكأنّه فيلم وثائقي يعبِّر عن الاتجاهات النفسيّة للفضاء الاجتماعي الذي يحيل إليه، والتي تنعكس عليه بالطبع.

وفي نهاية عرضه لأطروحة كراكور يقدّم رأيه بأنها تتماثل مع علم اجتماع برجماتي للسينما، أما إدجار موران عالم الاجتماع والفيلسوف الفرنسي، فيعتبر السينما مرآة إنثروبولوجيّة، بوصفها مؤسسة للخيال الجمعي، يتصادم فيه اليومي والخرافي، الحقيقي والوهم، الواقعي والخيالي، وبذلك كما يقول إيمانويل إيتيس، يمكن أن نتحدث عن الطبيعة المزدوجة للفضاءات السينمائية التي تقع عند مفترق الطرق بين الواقعي والخيالي، وحسب موران يجب تحليل السينما لمعرفة كيف تمارس قدرتها على إثارة هذا الافتتان لدى مشاهديها، وفي الوقت ذاته قادرة على إعادة إحياء وحدة الجسد والذهن، ويعوِّل موران على ما يطلق عليه “مؤسسة للخيال الاجتماعي” من خلال استكشاف البعد الخيالي للسينما الذي يميّز هذا الفن من وجهة نظره عن المواد الفنيّة والثقافيّة الأخرى.

في حين يرى بيير سورلين أن السينما لا تعبر عن كل شيء، بل فقط عما يسمح لها المجتمع بالتعبير عنه، لذا يولي اهتماما كبيرا بالمنهج السيمولوجي الذي يساعده على استخلاص تجليات الرموز، التي تتكثف فيها شذرات الواقع التي يستطيع الجميع التعرُّف عليها، وهذه الرموز تولِّد صورا جديدة، وهذه الصّور تكون دليلا على تطور المرئي في المجتمع أو تطور ما يقبل هذا المجتمع رؤيته، فهو لا يعتبر القول بأن كل فيلم هو شهادة على ما يراه المجتمع غير كاف، بل يجب أن يوضع في الاعتبار أن آلة السينما، كمؤسسة إنتاج هي نفسها منتج اجتماعيّ مبني في تربة تتكوّن من تحلّل وتحوّل قيم اقتصاديّة وعقائدية وتعبيريّة.

وبناء على هذا التفاعل يؤكد أهمية التحليل الاجتماعي للأفلام (حتى مع وجود التلفزيون والأهمية التي اتخذها في العالم السمع - بصري منذ الستينات)، لما تتيحه السينما من إمكانية تبيّن العلاقة بين منتجي ومستهلكي الخيال السينمائي من جهة، ومن جهة أخرى نتعرف على السمات السائدة لنظام اتصال يستخدم الصورة والصوت، التي تظهر في شكلها الأكثر تنوعا وابتكارا.

وفي جزء من الكتاب يتحدث عن العقد السينمائي من خلال ثلاثة نماذج هي: النوع والرقابة والنجم، وفي البداية يقدّم قراءة اجتماعية لمفهوم النوع بوصفه شكلا من أشكال التعبير الجماعي الذي تتبدى فيه القيم الثقافيّة المشتركة للجماعة، والبعض من صراعاتها الفكرية، وبذلك يكون النوع صيغة تمّ الاتفاق عليها بشكل غير مُعلن بين صُنّاع الفيلم ومتلقيه، وهو ما يولّد أُفق انتظار لدى متفرج يختار فيلما بناء على توقعه.

الرقابة والتحايل

النجم هو أداة تستخدمها الأيديولوجيا السائدة في المجتمعات الصناعيّة الغربيّة للهيمنة على الجماهير  وتمرير رؤاها
النجم هو أداة تستخدمها الأيديولوجيا السائدة في المجتمعات الصناعيّة الغربيّة للهيمنة على الجماهير وتمرير رؤاها

في حديثه عن الرقابة يعتبرها مؤسسة تستحضر هذا العقد غير المعلن بين الأفلام وجماهيرها، ويؤكّد أنه لا توجد جماعة اجتماعيّة، مهما كانت درجة تحرّرها، لا تُفرز نظما من المحظورات، فالرقابة تشير إلى نظام من القيم يتمّ تقديمه بوصفه نظاما اجتماعيّا وثقافيّا مشتركا، وفي المقابل على القائمين على إنتاج عمل سينمائي احترام هذه القيم، وبذلك يضع نظام المراقبة الجمهور/ متلقي الفيلم، في الاعتبار بأن يكون “مسؤولا وضامنا… لما يمكن مشاهدته وما لا يمكن مشاهدته”.

يؤكد المؤلف أن الرقابة وُجدت قبل السينما بزمن طويل، ومع تعرُّض الكثير من الأعمال الأدبيّة والتشكيليّة والفوتوغرافية لحظر الرقيب، إلا أنّ ذلك لم يمنع من انتشارها بشكل مستتر. الغريب أن عمل الرقابة الصّارم هو ما دفع، كما يقول، إلى اختراع أساليب “حذقة في الكثير من الأحيان تهدف إلى التحايل وعمل التواطؤات المبنية على استخدام الإيحاءات بين صُنّاع الفيلم والمتفرجين”.

وفي حديثه عن النوع الذي هو بمثابة عقد ضمني يجمع بين الذين يصنعون الفيلم (كاتب السيناريو، المخرج، مدير التصوير، مؤلف الموسيقى، مهندس الصوت) وأولئك الذين يتلقون الفيلم (الموزعون، أصحاب حقوق الاستغلال، النقاد، والمتفرجون)، يقول إنه يقوم على شكل من أشكال التواصل المسبق والمسبغ، لكن لا يعني هذا أن النوع الواحد ظل هو المهيمن، فعلى العكس سعى النقاد إلى كسر أحادية النوع بإدخال أنواع متعددة داخل النوع الواحد.

أما عن ظاهرة النجم، فيصفها بالظاهرة التي تتداخل فيها طبقات سحريّة ودينيّة وجماليّة، ومن ثمّ يبحث عن الهالة التي تجعل من النجم نجما عند جماهيره، ويرى بصورة مجملة أن مجموع أسماء النجوم يعبّر عن خصائص جيل بعينه، وهو في ذلك يستعين ببعض القراءات ذات المنظور الماركسي التي تسعى إلى تفسير ظاهرة النجم في الصناعة الهوليوودية على وجه الخصوص.

ومن هذه الآراء التي يستعين بها، رأي عالم الاجتماع البريطاني ريتشارد داير الذي يرى أن النجم هو أداة تستخدمها الأيديولوجيا السائدة في المجتمعات الصناعيّة الغربيّة، للهيمنة على الجماهير وتمرير رؤى العالم التي تسعى لفرض ذاتها، بوصفها صحيحة وواحدة، وفي الوقت ذاته تعمل على إخفاء التناقضات التي يمكن أن تولد داخل تلك الأيديولوجيا. ووفقا للمنطلقات الماركسية، يقول إنه لا يمكن لأيديولوجيا أن تكون مهيمنة إلا إذا أقنعت المجتمع بأنها تدافع لا عن مصالح الطبقة السائدة وحدها، إنما في إقناعه بأن هذه المصالح هي قيم يجب أن يتفق عليها المجتمع بأسره، دون أن يغفل الجانب الاقتصادي، فالنجم يقدّم أرباحا ضخمة للمستثمرين.

النجاح مرتبط بشباك التذاكر
النجاح مرتبط بشباك التذاكر

يؤكد إيمانويل إيتيس مع داير أن الموهبة شرط أساسي للنجومية، وإن كان لا يوجد ارتباط منهجي بين مهارات التمثيل والنجومية، وبالمثل فمن المفترض أن تكون الصلة ضعيفة بين الحياة الخاصة للممثل وبين مهنته، الشيء المهم الذي يعزِّز من هذه الصورة، بل ويضخمها هو أن تحتوي الصورة على “الجوانب الحميمة في حياته: علاقات الحب، والزواج، وأذواق الملابس، والحياة الأسرية…”.

ثمة تأكيدات كثيرة من خبراء اجتماع وجمال على أن النجم ليس مصنوعا من طبيعة مختلفة عن الآخرين، لكن عوامل كثيرة هي التي تجعل من فئة بعينها نجوما، والمنطق الاقتصادي يُعد أهم هذه العوامل، لما يحققه النجم من أرباح خيالية للشركات، الاختلاف الوحيد بيننا وبين هؤلاء النجوم، أن هؤلاء النجوم لديهم “مثابرة خاصة تمكنهم من الوصول إلى ما هم عليه”.

الحقيقة الأخرى التي يؤكدها كل مَن تطرّق إلى ظاهرة النجم، أنه (أي النجم) بقدر ما يتواجد بعيدا عن أولئك الذين يعبدونه، يكون في الوقت نفسه أقرب إليهم من أي ممثل آخر، لأنهم يعدونه واحدا منهم، وهذه العلاقة تفسر أسباب نغمة التسامح التي تحلّ على الجمهور مع كل تصرف مغال فيه قد يرتكبه النجم. وقد تتجلّى أسمى أشكال هذه العلاقة في منح الآباء أبناءهم أسماء نجومهم المفضلين، وهذه العلاقة يفسّرها إيتيس بأنها بمثابة “بناء علاقة رمزيّة مع صورة العالم الذي يناسبنا”، صورة العالم الذي نريده، فنخلق معه نوعا من النسب. وإن كانت صورة تبجيل الأفراد للنجوم تعود عند إدجار موران إلى “تطور اجتماعي عميق متأصل في نبضات عالمنا المعاصر”.

ويهدف من وراء الفصل الرابع المعنون بـ”تلقي الأعمال السينمائية” إلى دراسة مفهوم الذوق السينمائي، وهو الذي ينشأ عبر الحوارات حول الأعمال السينمائية، وأسباب مشاهدتها، أو العكس: أسباب العزوف عنها، وهو ما يكشف في أحد جوانبه وعينا السينمائي، الغريب أنه يُنحي الذاتية التي تؤثر في الذوق جانبا، حيث تتمّ مراجعة وتصحيح هذا الدافع، من خلال الضغوط الممارسة من السّلطة الاجتماعيّة الخارجيّة والمعياريّة، ويعوّل في المطلق على مجموعة من المعايير تتحكم في تشكيل الذوق، وفي تقييمه لما يطلق عليه “الفيلم الجيد”، على نحو ما كتب المنظر السينمائي الفرنسي لوران جولييه، وهي لا تختلف بين المشاهد العادي أو المحترف (الناقد والخبير)، وهي تختلف عن النماذج السائدة، وأيضا تختلف من عصر إلى عصر، ومن مجتمع إلى آخر.

ويربط بين عملية التلقي والرؤية الجماعيّة أو الرؤيا معا، باعتبارها عاملا مهما في تحديد اختيارات المشاهد، بما في ذلك دور عاملة شباك التذاكر في توجيه المتلقي / الجمهور لاختيارات الفيلم “الأفضل” عبر المحادثة الاستدلاليّة “ذات الثواني المعدودة”، حيث يتجاوز دورها عملية بيع التذاكر، وفقا للوسيان سفيز، إلى ربط الشيفرات التي تولد أثناء التفكير، وسحبها داخل بعضها البعض، لتشغيل ديناميكية التحوّل الذي يقود إلى اتخاذ القرار، وهذه المفاضلة مرجعها إحصاء عدد التذاكر التي باعتها، وانصياع الجمهور لرأيها يخضع لمبدأ “منطق القيمة” لا منطق الغاية الذي يقصده البعض.

فكرة الجانب الاجتماعي داخل القاعة يستلمحه إيمانويل إيتيس عبر ملمح مهم أثناء المشاهدة، وهو مشهد الزمن، فالنظر في الساعة أثناء عرض الفيلم، وهو ما يشاركه فيه بعض الأفراد، لا يعني الشعور بالملل أو نفاد الصبر، بل يمثّل في بعض الأحيان التيه في زمن غير مـألوف، زمن الفيلم الذي يسحب المشاهد إلى زمنه، ويفقد توزانه.

فالنظر إلى الساعة بمثابة العودة إلى زمن المتفرج الخاص، وإلى طريقته في أن يحيا بشكل يومي ما يمكن تسميته بـ”هويته الزمنية الذاتية”، يخرج عبر علاقة التوتر بين المتلقي والزمن، إلى صياغة مفهوم السرد السينمائي بأنه “مادة ثقافيّة يتجسد فيها تخوفنا التاريخي والاجتماعي من التوترات الزمنية من حيث مداها وإيقاعاتها وتردداتها”، فالسينما تعمل على سدّ فراغات وملء المناطق غير الظاهرة والمساحات الخالية غير المستغلة والمتروكة لعشوائية الإيقاع والزمن التي ينشطها الفيلم.

الموهبة شرط أساسي للنجومية
الموهبة شرط أساسي للنجومية

لا يرتبط تلقي السينما فقط بمشاهدة الأفلام، بل أيضا بالطريقة التي نتعاطى بها الثقافة السينمائية من خلال الوسائط الإعلاميّة المختلفة، والتي شهدت طفرة نوعية ملحوظة في الفترة الأخيرة، وكذلك دور الهيئات الدينية والسياسية التي ساهمت في تعزيز الثقافة السينمائية، مثل دور الحزب الشيوعي الفرنسي، والمركز الكاثوليكي للسينما بعد الحرب العالمية الثانية، وهو ما يتأتى له عبر الدراسات الاستقصائية في الكشف عن الثقافة السينمائية عند شرائح المشاهدين المختلفة.

كما يتطرق إلى علاقة “السينفيل” بالشغف السينمائي، ومناقشاتهم حول مشاهداتهم السينمائية، وأيضا لارتباط البعض بأفيشات الأفلام وصور النجوم، وأيضا ارتياد المشاهدين العاديين للمهرجانات السينمائية الكبرى تأكيد على هذا الشغف، أو من خلال ممارساتهم اليومية، ويتطور الشغف بالسينما ليصل إلى مرحلة تقمص الأدوار، فيقرر بعض المشاهدين أن يصبحوا هم أنفسهم “ممثلين مؤقتين” على نحو ما يحدث في مهرجان كان.

ويتوقف في الفصل الخامس عند “رهانات توصيات السينفيل” في توليد الرغبة في المشاهدة، وأشكال التوصيات المختلفة سواء كانت على مستوى الواقع أو على المستوى الإلكتروني / الفضائي، وزاد ذلك بفضل عصر المنصات الإلكترونية فأصبحت لآفاق التوقعات وثقافات الجمهور معاني ودلالات كثيرة، وهو ما يطرح إمكانية إعادة تعريف مفاهيم: المتفرج والجمهور، على أساس خياراتنا المشتركة، فتصبح كل توصية بناء اجتماعيّا، حتى وإن كانت منبثقة من عملية برمجة للتوصيات، ويرى أنه كلما ازداد عدد الذين يقيّمون فيلما ما، كلما اقترب هذا التقييم من الاختيارات التي تمت في قلب مجموع الجماهير التي يأتي المقيم منها.

في نهاية الكتاب، يؤكد مقولة كانط “ضرورة فهم كل ما يصوغه المجتمع باعتباره ثقافة”، ومن ثم يخلص الفصل الأخير إلى أن فكرة “من السينما إلى الحياة ومن الحياة إلى السينما”، تعني أننا إذا انغمسنا في مشاهدة فيلم، فإننا نقوم بعمليتين: نستلمح النماذج والمواقف التمثيلية التي يحدثنا الفيلم من خلالها من ناحية، ونسكنه جانبا من ذواتنا من ناحية ثانية، أي كيف نفلسف حياتنا، بأن يضحى الفيلم مجازا، حيث تتقاطع تجربة التلقي للفيلم مع حياة المتفرج، فيحمله أسئلته الفكرية والوجودية وشواغله الفكرية والأخلاقية، وهو دور جديد مستقى من مشاهدة الأفلام.

الكتاب ثري بالمعنى الحرفي، يفكك العلاقة بين الجمهور والسينما، عبر استبيانات وإحصاءات، تؤكد صدق الافتراضات التي سعى المؤلف إلى إثباتها، وهو مهم لكل دارس للسينما، وبالمثل للقارئ العادي، ليكتشف أبعادا أخرى للفن السابع بعيدة عن زاوية المتعة وتزجية وقت الفراغ، وجاءت متعة الكتاب من ثراء موضوعاته وجدتها، وأيضا من رونق الترجمة البديعة التي اضطلعت بها الدكتورة سلمى المبارك صاحبة الإنجازات المهمّة في علاقة الإبداع بالسينما مثل: النص والصورة – السينما والأدب في مفترق الطرق (2016)، والاقتباس من الأدب للسينما (بالاشتراك مع وليد الخشاب) (2021).

14