السينما المصرية تفضح انتهاك حقوق الإنسان

دراسة عن عشر سنوات من الأفلام التي كشفت عذابات المهمشين.
الاثنين 2021/12/27
{صرخة نملة} سينما ترسم صورة قاتمة للمواطن المهمش

تحظى قضايا حقوق الإنسان باهتمام عالمي واسع النطاق، ومن ثم بأهمية كبرى بين القضايا التي تطرح على مستوى مناقشات الدول والمؤسسات والمنظمات الدولية والمحلية، كما تعد من أكثر القضايا تناولًا في الساحات الإبداعية والإعلامية. والسينما من أهم الفنون التي تناولت هذه القضايا بأشكال مختلفة.

تعد دراسة “الخطاب الحقوقي في السينما المصرية” للباحثة رحاب سلامة الأولى من نوعها التي تجمع بين تحليل الخطاب السينمائي وقضايا حقوق الإنسان، حيث تناقش المجهودات الإبداعية والسينمائية للمبدعين المصريين في التعبير عن الواقع الحقوقي والحالة الحقوقية خلال السنوات الماضية، وبشكل خاص التناول السينمائي لهذا الواقع. وذلك انطلاقا من كون السينما إحدى الوسائل الاتصالية التي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالنظام الاجتماعي والثقافي لأي بلد.

تركز الدراسة، الصادرة عن دار العربي للنشر، في فصولها الخمسة على رصد ما قدمته السينما المصرية فيما يختص بالخطاب الحقوقي في مصر من خلال الأحداث والقصص والشخصيات التي قدمت في الأفلام، والوقوف على الأطروحات التي قدمتها السينما في مجال حقوق الإنسان والصدى الذي حققته. وذلك بتحليل الأفلام التي تم إنتاجها بين عامي 2007 ـ 2017 وهي الفترة التي شهدت مجموعة كبيرة من التغيرات والتطورات في المجتمع المصري قبل وأثناء وبعد ثورة الخامس والعشرين من يناير.

غياب حقوق الإنسان

ماذا قدمت السينما المصرية فيما يخص الخطاب الحقوقي؟

تؤكد سلامة أن قضايا حقوق الإنسان في مصر أصبحت هي أساس النهوض بالمجتمع الآن، خاصة بعد التغيرات السياسية الهامة التي شهدها بقيام ثورتي الخامس والعشرين من يناير والثلاثين من يونيو، فكانت المناداة بمبادئها “عيش، حرية، كرامة إنسانية” هي أساس الثورة التي نادى بها الشباب في مختلف الميادين. وبناء على ذلك أصبحت قضايا حقوق الإنسان محط اهتمام وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة بصورة كبيرة لما للإعلام من دور هام في توضيح مفاهيمها ونشر مبادئها والدفاع عنها، بل وتوعية الجماهير بأهمية احترامها والتمسك بحقوق المواطنين ورعايتها، وذلك انطلاقًا من كونه مصدرا هاما للتثقيف والتوجيه في أي مجتمع.

تحلل سلامة أفلاما تغطي مختلف قضايا حقوق الإنسان المهدورة في مصر سواء ما ارتبط منها بالشق السياسي أو الأمني أو التعليمي أو الصحي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو الديني، والأفلام أيضا تغطي الفترة الزمنية الممتدة من 2007 إلى 2017، وهي: “حين ميسرة”، “الماجيك”، “التوربيني”، “قص ولصق”، “حسن ومرقص”، “طباخ الريس”، “بلطيه العايمة”، “حسن طيارة”، “الغابة”، “واحد صفر”، “عسل أسود”، “678”، “بنتين من مصر”، “صرخة نملة”، “أسماء”، “حظ سعيد”، “ساعة ونص”، “فبراير الأسود”، “الشتا اللي فات”، “لا مؤاخذة”، “سالم أبو أخته”، “هز وسط البلد”، “اشتباك”، “نوارة”، “مولانا”.

تشير سلامة إلى أن الأفلام السينمائية تطرقت إلى مؤسسات الأمن التي تمثلت في “أمن الدولة والشرطة ورجالها حيث احتلت المرتبة الأولى من حيث انتهاكها لحقوق الإنسان، وقد ظهر هذا بجلاء في مجموعة كبيرة من الأفلام مثل ‘هي فوضى، سالم أبو أخته، الغابة، حين ميسرة، الشتا اللي فات، اشتباك’، فكانت السمة الغالبة عليها هي السمة السلبية، وقد تم التأكيد على ذلك من خلال مشاهد الضرب والإهانة والمعاملة غير الآدمية للسجناء والموقوفين والمعتقلين علاوة على المتظاهرين في الشوارع، وكانت من أبرز الشخصيات التي جسدت هذه الأدوار شخصية أمين الشرطة حاتم في فيلم ‘هي فوضى‘ والضابط خليل في فيلم ‘سالم أبو أخته'”.

وتضيف أن أفلام العينة عبرت عن المؤسسة التعليمية ممثلة في “المدارس ووزارة التربية والتعليم” بالسمة “السلبية”، وقد ظهر هذا في مجموعة من الأفلام مثل “هي فوضى، لا مؤاخذة، طباخ الريس” والتي عبرت عن ضعف المستوى الدراسي للطلاب وسوء المناهج والمستوى المتدني للمدارس الحكومية، وعرضت أيضًا ضعف مستوى المدرسين أنفسهم، وشعورهم بالظلم لعدم وجود من يدافع عن حقوقهم وعبرت عن ذلك شخصية “انتصار” في فيلم “طباخ الريس” و”نور” في فيلم “هي فوضى”.

كما عبرت أفلام عينة الدراسة عن السمات “السلبية” للمؤسسات الصحية التي تمثلت في “المستشفيات الحكومية”، حيث تطرقت إلى ضعف مستوى هذه المستشفيات وسوء معاملة المرضى بها، مع انتشار الرشاوى والوساطة لمساعدة المرضى، وقد تمثل هذا في أفلام “أسماء، نوارة، حظ سعيد”، حيث تجسد مثلا مشهد إلقاء المرضى في “دورات المياه” و”طرق المستشفيات” حتى يتم توفير “سرير للعلاج” في فيلم “نوارة”، في دلالة على انعدام حقوق الإنسان في هذه المستشفيات، وعكس هذا أيضًا عبارة “اللي عاوز يتعالج يقف في الطابور” في فيلم “أسماء” وكذلك إلقاؤها من غرفة العمليات “لجهل الطبيب بكيفية التعامل مع مريض الإيدز، وبرهن مشهد خلو المستشفى من الأطباء والممرضين لمتابعتهم “ماتش كرة القدم” بدلًا من متابعة المرضى في فيلم “واحد صفر” على اللامبالاة التي يلاقيها المواطنون في المستشفيات الحكومية وإهدار حقوقهم، كما عبر فيلم “حظ سعيد” عن انتشار المحسوبية التي منعت والدة “سعيد” من تلقي العلاج على نفقة الدولة وإعطاء فرصتها في العلاج لأحد رجال الأعمال.

وتلفت هذه الأفلام إلى أن المؤسستين الإعلاميتين “التلفزيون والصحافة” في عينة الدراسة قد انقسمت السمات الخاصة بكليهما، حيث اتسمت الصحف المعارضة بالإيجابية، واتضح هذا في فيلم “طباخ الريس” و”بنتين من مصر” من خلال “المانشيتات” التي كانت تفضح السلطة وتؤكد على الوضع الاقتصادي المتردي الذي وصلت إليه البلاد في فترة حكم الرئيس حسني مبارك، مما يؤكد على دورها في توعية الرأي العام بما يدور حوله.

قضايا مسكوت عنها

وعلى النقيض من ذلك تم التعبير عن سمات التلفزيون “سلبيًا”، وجاء هذا من خلال التسييس والتعتيم الإعلامي والحوارات المضللة التي كانت تذاع من خلاله أثناء “الثورة”، وقد ظهر هذا في أفلام “الشتا قبل اللي فات” و”حظ سعيد”؛ فقد جسدت “فرح” شخصية المذيعة التي تقوم بتضليل الجهور وتزييف الحقائق تجاه الأوضاع السياسية في مصر لكي تستطيع الاستمرار والنجاح في عملها، كما أشار “سعيد” في فيلم “حظ سعيد” إلى أن الأوضاع التي تنقل إليه من التلفزيون تسير في اتجاه وميدان الثورة يسير في اتجاه آخر وأن الإعلام أصبح يكذب على الجمهور في كل ما ينقله إليه.

وترى سلامة أن الأفلام عينة الدراسة تناولت صورة المحامين التي اتسم بعضها “بالسلبية” أحيانًا، وقد اتضح هذا من خلال فيلم “التوربيني” الذي عرض استغلال المحامين للخلل العقلي عند مريض التوحد للاستيلاء على ميراثه وأمواله، وكذلك فيلم “الماجيك “الذي أظهر انعدام الضمير عند بعض المحامين الذين يقومون باستغلال الحاجة المادية للقاصرات ويزوجونهن للأثرياء من العرب، كما أنها ظهرت أيضًا بالسمة “الإيجابية” من خلال فيلم “حسن طيارة” الذي تناول دور المحامي في الدفاع عن حقوق الإنسان، خاصة شريحة العمال والموظفين البسطاء، وحمايتهم من استيلاء رجال الأعمال على المال العام وخصخصة شركاتهم وطردهم منها.

كما عبرت أفلام العينة عن وكلاء النيابة والقضاة بالسمة “الإيجابية” وقد ظهر ذلك في فيلم “فبراير الأسود” الذي رفض فيه القاضي “عادل” التزوير في الانتخابات، وفيلم “هي فوضى” الذي راعى فيه وكيل النيابة “شريف” حقوق الموقوفين والمعتقلين وحمايتهم من التعدي عليها في قسم الشرطة سواء بعرض المتهم على طبيب السجن لمرضه أو عندما طلب الإفراج عن المعتقلين لعدم وجود جريمة منسوبة لهم، وأيضًا حزمه في رفض ضرب العساكر للشباب الموقوفين في الحبس.

وتؤكد أن صورة رجال الأعمال جاءت “سلبية” في الأفلام التي تناولتها، حيث تطرقت أفلام “صرخة نملة، حسن طيارة، نوارة، حظ سعيد، مولانا”إلى مشكلة استيلائهم على المال العام، والزيادة المفرطة في ثرواتهم التي مثلت فجوة كبيرة بينهم وبين فئات الشعب الأخرى، كذلك عرضت الأفلام مسألة عدم حرصهم على الدولة ومصالحها، بل حرصهم على مصالحهم الخاصة فقط.

ومن جانب آخر كانت السمة الغالبة للتعبير عن الوزراء في أفلام العينة هي “السلبية”، واتضح هذا في فيلميْ “طباخ الريس، نوارة” اللذين عبرا عن استيلائهم على المال العام واستغلالهم لطبيعة وظائفهم الحكومية والتضليل الذي يقومون به لإخفاء الحقائق عن رئيس الجمهورية، وسعيهم للقضاء على أي شخص في سبيل المحافظة على مكانتهم. كما اتسمت صورة الشعب المصري في أفلام العينة بالصورة “الإيجابية” واتضح ذلك من خلال سعي المواطنين للحصول على حقوقهم المهدورة في المجتمع المصري، ولقيامهم في بعض الأفلام بالثورة مثل فيلم “الشتا اللي فات، حظ سعيد” أو بالتظاهر ضد الأوضاع المجتمعية الظالمة مثل فيلميْ “حسن طيارة، وهي فوضى”.

وتوضح سلامة أن الأفلام عينة الدراسة أظهرت الأحزاب السياسية بالسمة “السلبية” وتم التعبير عن هذا من خلال فيلم “هي فوضى”؛ فقد تم نعت الحزب الحاكم بـ”الدكتاتورية” والرغبة في الفوز بالانتخابات بأي طريقة ورغمًا عن أي معارض له، كما ظهرت الأحزاب الدينية أيضًا برغبتها في الحصول على مقعد مجلس الشعب من خلال ترهيب الناخبين من عذاب الآخرة والنار إذا لم ينتخبوهم.

كتابة سينمائية توعوية

إزالة الصورة القاتمة لانتهاكات حقوق الإنسان

تقر سلامة بأنه اتضح من الدراسة التحليلية أن معظم الأفلام التي عرضت قضايا حقوق الانسان كانت قصصًا مؤلفة خصيصًا للعمل السينمائي، بينما جاء فيلم واحد ليمثل القصص المترجمة وهو فيلم “التوربيني” المنقول من قصة فيلم أميركي يدعى “رجل المطر”، وتلتها القصص المأخوذة عن روايات والتي عبر عنها فيلم “مولانا” للكاتب الصحافي إبراهيم عيسى. وبذلك نجد أن المؤلفين كان لديهم اتجاه نحو الكتابة خصيصًا للسينما، وذلك لحرصهم على أن يدمجوا أحداث الواقع وخبراتهم الحياتية في قصصهم المقدمة في السينما، وخاصة بعد الثورة التي تعد حدثا فريدا للأجيال الجديدة بجميع تفاصيله.

وتكشف سلامة أن معظم أفلام العينة التي تطرقت إلى قضايا حقوق الإنسان طُرحت من خلال مشاهد الحوار الرئيسية، والتي يكون عليها الدور الأساسي في إيصال المعلومة إلى المشاهد، ويدل ذلك على اهتمام السينمائيين بالتركيز على تلك القضايا لما لها من أهمية لدى المشاهد المصري ولرغبتهم أيضًا في أن يدفعوا المشاهد لإعادة صياغة تلك المشكلات وربطها بالأحداث التي يمكن أن يكون قد تعرض لها من قبل في حياته بشكل غير مباشر.

 كما يمكن أن يكون الغرض من التركيز على تلك القضايا نقل مفاهيم حقوق الإنسان وتعريف الجمهور بها عبر توضيحها له من خلال المشاهد والصور والأفعال المباشرة التي تستطيع تثبيت المعلومة في الذهن بشكل أكبر، ليستطيع الفيلم بذلك أن يستخدم مقوماته فيزيد من وعي الجمهور بقضايا حقوق الإنسان.

 والملاحظ أن التركيز على عرض خطاب حقوق الإنسان في المشاهد الرئيسية قد ظهر بصورة واضحة في أفلام العينة التي سبقت الثورة مثل “هي فوضي، حين ميسرة” حيث أنها عرضت لحالة الاحتقان التي وصل إليها المجتمع المصري من جهة وممهدة ومتنبئة بأحداث الثورة من جهة أخرى، وهو ما يتفق مع نتائج الدراسة الميدانية حيث أشار الشباب الجامعيون إلى أن السينما قد قامت بعرض قضايا حقوق الإنسان بصورة مباشرة في مضمونها.

الدراسة ترصد الخطاب الحقوقي في مصر الذي قدمته السينما المصرية من خلال الأحداث والقصص والشخصيات

وتلاحظ سلامة أن عرض عدد كبير من أفلام الدراسة قضايا حقوق الإنسان بالصورة السلبية يعود إلى ارتفاع معدلات التعدي على حقوق الإنسان في مصر -خلال فترة الدراسة- وهذا ما جعل الكتاب السينمائيين يبرزون هذه الانتهاكات كما بينت  أفلام “بنتين من مصر، حين ميسرة، ساعة ونص، واحد صفر”، بينما وجدت الدراسة أن بعض الأفلام قد قامت بالدمج بين الطريقة السلبية والطريقة الإيجابية في عرضها لقضايا حقوق الإنسان حيث أن هذه الأفلام قد طرحت الطرق الإيجابية التي يتم التعامل بها مع حقوق الإنسان في مصر والتي تمثلت في “الثورة المصرية” أو تفعيل الدور المجتمعي كأفلام “التوربيني، أسماء، الشتا اللي فات”.

حاولت بعض الأفلام إزالة الصورة القاتمة لانتهاكات حقوق الإنسان في مصر، وقد بدأ هذا الاتجاه في الظهور في الفترة التي سبقت ثورة الخامس والعشرين من يناير لشعور المصريين بضرورة احترام حقوق الإنسان في مصر وبأن الثورة أصبحت ضرورة وحاجة مجتمعية مما جعل الأفلام تتكهن بحدوثها من ناحية وتعرض لتفاصيلها من ناحية أخرى، وبذلك تؤكد هذه النتيجة على ما توصلت إليه الدراسة الميدانية حيث أن الظروف الاجتماعية والسياسية التي يمر بها المجتمع تعد من العوامل التي تؤثر على معالجة السينما لقضايا حقوق الإنسان بشكل كبير.

13