السير ريدلي سكوت الغاضب من الحروب الصليبية ومن جيل الألفية

لا يزال ريدلي سكوت، مخرج الأعمال الإشكالية والمثيرة للجدل في عصرنا الحالي، عالقا في قصة حروب الفرنجة والتي يطلق عليها جزافا “الحروب الصليبية”، يعتقد مثل قليلين حول العالم أن تلك الحروب لم تنته بعد، ولذلك تجده يعود إلى سيرة تلك الحروب، ولم يكد جمهوره ينسى عمله “مملكة السماء” الذي صوّر فيه الصراع على القدس بين الحملة الصليبية والعرب المسلمين وأظهر الحكمة التي اتّسم بها بطل معركة “حطين”، الملك الشهير في العالمين العربي والغربي معا صلاح الدين الأيوبي، حتى عاد إلى تلك الحروب بفيلمه الأحدث “المبارزة الأخيرة”.
لكن الفيلم الذي صُرفت عليه أموال طائلة قدّرها البعض بـ100 مليون دولار، وعلّق المخرج والنجوم الكبار المشاركون فيه آمالا كبيرة عليه، لم يحقق المتوقع منه على شباك التذاكر، ولم يحصد أكثر من 27 مليون دولار حتى تاريخ كتابة هذا المقال. وهو ما أثار غضب سكوت ودفعه إلى إلقاء اللوم على الجيل الجديد من المشاهدين الذين ينشغلون بالهواتف المحمولة، على حد قوله، والذين تسببوا بفشل الفيلم.
أسلوبيته المشوقة تبقى هي العامل المشترك بين أعماله البارزة مثل "كيان من الأكاذيب" و"رجال عود الثقاب" و"بلاك هوك داون" و"المريخي"، وصولا إلى فيلمه "بروميثيوس" شديد التعقيد والمشحون بفلسفة كونية فائقة
يقول سكوت “قامت ديزني بعمل ترويجي رائع، ولكنني أعتقد أن السبب وراء فشل العمل في تحقيق الأرباح هو الجيل الجديد الذي يحمل هاتفه المحمول في كل مكان، مما أدى إلى تسريب الفيلم الجديد من دور العرض بسببه، كما أن أغلب هذا الجيل لا يمكنه أن يفهم المعاني الموجودة في الفيلم بسبب سطحية تعامله مع الأمور”.
كان هذا الفيلم سابع أفلام سكوت التاريخية، والمفارقة أن نجومه هم من كتبوه هذه المرة، ولم يكن من اقتراح سكوت، فالنص بتوقيع بن أفلك ومات دامون الذي كان صاحب الفكرة من لحظة البداية.
بصمات خاصة
سكوت قدّم هذا العام أيضا فيلمه الأكبر “بيت غوتشي” مع ليدي غاغا وآل باتشينو والذي من المتوقع إطلاقه هذه الأيام، ليروي قصة مقتل ماوريتسيو غوتشي، عن رواية سارة غاي فوردن والتي تتناول جريمة أودت بحياة حفيد مؤسس العلامة التجارية الشهيرة.
أفلام سكوت جميعها تشترك في كونها ذات بعد آخر، تفارق الواقعية إلى ما وراءها، وتذهب بعيدا في الرمز والأسطورة والتاريخ وطبعا في الإنسان وأعماقه. ولشدة تنوعها لا تكاد تعرف أنها للمخرج ذاته لولا أن أسلوبيته المشوقة تبقى هي العامل المشترك بين تلك الأعمال البارزة مثل “كيان من الأكاذيب” و”رجال عود الثقاب” و”بلاك هوك داون” و”المريخي” وكذلك السلسلة الفضائية التي عُرف سكوت بها وصولا إلى فيلمه “بروميثيوس” شديد التعقيد والمشحون بفلسفة كونية فائقة.
العنف الذي يقدّمه سكوت مبني على فكرة العنف ذاتها لا تجلياتها الدموية التي طاب للسينما الأميركية تقديمها واستثمارها طويلا. فيلمه “المجالد” مع راسل كرو الذي لعب دور جنرال روماني يدعى ماكسيموس يكافأ على انتصاراته بعزله واستعباده. ولم يكن بعيدا عن تلك الأزمنة حين قدّم “روبين هود” مع كرو أيضا إلى جانب كايت بلانشت، وعندها لم يتوقف عند قصة اللص النبيل الذي يسرق من الأغنياء ليوزع غنائمه على الفقراء، بل ذهب نحو البعد السياسي الذي لم تسلّط عليه الحكاية الأصلية الضوء الكافي، لكن عين سكوت التقطته.
الفارس وشغفه
ولد سكوت عام 1937 في ساوث شيلد في إنجلترا، لأب ضابط حمل رتبة عقيد في الجيش الملكي، وكانت أولى مغامراته نهاية السبعينات مع الفضاء والفضائيين، وهو القادم من عالم الإعلانات التلفزيونية والإبهار البصري العالي. وعبر أربعة عقود من العمل الشاق، تم ترشيحه ثلاث مرات لنيل أوسكار أفضل مخرج، وحصد العديد من الجوائز البريطانية والعالمية وكذلك على الغولدن غلوب مرتين، وكان من بين أبرز تكريماته منحه لقب فارس لقاء خدماته في مجال صناعة الأفلام البريطاني. أما قناة “بي.بي.سي” فأعلنت أن سكوت، ووفقا لتصويت أجرته بين الجمهور، يحتل المرتبة العاشرة بين الشخصيات المؤثرة في الحياة الثقافية البريطانية.
سنوات الحرب صنعت ذاكرة سكوت الأولى، فوالده وشقيقه كانا غائبين في الحياة العسكرية أكثر من حضورهما في حياة سكوت، وفوق ذلك فقد عاش في أماكن عديدة خلال تلك المرحلة بين إنجلترا وألمانيا. ويبدو أن جيل الكتاب والمبدعين الذي شهد الحرب في أوروبا تمتع بخيال هارب من القارة العجوز المدمرة بأسرها، ولكن هذه المرة إلى البعيد حيث المجرّات والفضاء الخارجي، وهي السمة التي طبعت سكوت وارتبطت باسمه حتى هذه اللحظة.
ذلك الشغف دفع سكوت إلى دراسة التصاميم وأسهم بتأسيس قسم السينما في الكلية الملكية للفنون، أما مشروع تخرجّه فكان فيلما عن صبي ودراجة. وسرعان ما أسس شركته الخاصة مع شقيقه توني، وبدأ بتقديم الأعمال التي لن يستغرب القارئ إن عرف أنها بدأت عام 1977 بحكاية “مبارزة”، أيضا مثل فيمله الحالي، وآنذاك تم ترشيح الفيلم للجائزة الرئيسية في مهرجان كان السينمائي وفاز بجائزة أفضل فيلم.
النجمة سيغورني ويفر ستتألق مع سكوت وكائناتها التي تقع في حبّها وتريد إنجاب طفل منها، نصفه إنسان ونصف وحش فضائي. أما الوحش الذي لم يتمكن سكوت من استيلاده ككائن هجين من ويفر والفضائيين، فقد قدّمه في سلسة أفلام “هانيبال” مع أنتوني هوبكنز. ومن ثم مع دينزل واشنطن في “رجل عصابة أميركي”، ومع براد بيت في “المستشار”.
الصورة المبهرة هي لعبة سكوت، لا يقاوم جاذبيتها، حتى أنه بعد مسيرته الطويلة والكبيرة، قدّم إعلانا تجاريا لعطر جديد حمل اسم ليدي غاغا. وقبله بالطبع وفي وقت مبكّر، قدّم إعلان قهوة ماكسويل هاوس مع شاكيرا باكش، وقد شاهد الإعلان آنذاك الممثل القدير مايكل كاين ويقال إن شاكيرا سلبته عقله، فصار يبحث عنها في كل مكان إلى أن عثر عليها وتزوجها وهما يعيشان معا حتى هذه اللحظة بفضل لقطة عبقرية لكاميرا سكوت.
لن يتوقف سكوت يوما عن طرق حديد المواضيع الحساسة، كما في “الخروج – آلهة وملوك” الذي قدّم فيه رواية مختلفة لقصص التوراة، ولعب فيه دور موسى كريستيان بيل وجويل إدغيرتون دور الفرعون رمسيس. كان سكوت يعرف أن مثل هذا الموضوع غير قابل للتحويل إلى قصة غير خارقة، لكنه قرّر مواجهة التحدي فأثار الفيلم جدلا واسعا وحمل لصاحبه اتهامات لا حصر لها.
ماذا يريد سكوت؟
الفيلم الذي أزعج تفاعل الجمهور معه مخرجه سكوت تدور أحداثه في فرنسا خلال العصور الوسطى سنة 1386، وقصته يتواجه خلالها فارسان في مبارزة قضائية بعدما اتهم أحدهما جان دو كاروج الآخر جاك لو غري بأنه اغتصب زوجته مارغريت دو كاروج.
وتبقى الخلفية العسكرية التي يذكّر سكوت بها الصحافيين دوما، تلعب الدور الأساسي في حشد المشاهد القتالية داخل الفيلم، وكان يتوقّع حتى وقت قريب قبل عرض الفيلم أن نجاحه سيكون منقطع النظير، وقال حينها “من الواضح أن هذا النوع من الأفلام الموجه للجمهور العريض سيكون له أثر، فالفيلم يضم الكثير من التفاصيل الدقيقة التي يجب التنبّه بشدة لها”.
لم ينتبه جمهور هذا العصر إلى ما أراد سكوت أن يراه. وعلينا ألا نقلّل من أهمية الصدمة التي يعيشها سكوت، فهو صاحب مشروع هام جدا تجسّد في تغيير الصورة النمطية للأبطال في هوليوود. وهو مشروع فرعي من مشاريعه العديدة التي نجح فيها كلّها، ولهذا فحين يطلق سكوت صرخة غضب وتوبيخ بحق الجمهور الجديد، فإن هذا يعني شيئا بكل تأكيد.
هل يمكن الاستنتاج أن المعادلات الثرية التي يقدمها سكوت لم تعد بضاعة مناسبة لذائقة الجيل الجديد من الجمهور، وهو ما سماه سكوت بجيل الموبايل؟
قال سكوت إن “الجيل الذي نشأ على هذه الهواتف المحمولة اللعينة. جيل الألفية لا يريدون أبدا أن يتعلموا أي شيء ما لم تخبرهم بذلك عبر الهاتف الخلوي”.
وجيل الألفية هذا الذي بات اليوم في مطالع العقد الثالث من العمر، قد لا يتحمّل التحديات الكبيرة التي تطرحها أعمال سكوت أمام عقل المشاهد، ليس لأنه جيل غير مثقف، بل لأن ثقافته مختلفة، حجما وشكلا وبالتأكيد في طريقة العرض والاستهلاك.
ما نوع التواصل الذي يخفق سكوت في خلقه بينه وبين هذا الجيل؟ هي الهوة ذاتها التي تواجه الإعلام والثقافة والعلوم والسياسة وكافة صنوف المعرفة، فالخوارزميات حسمت الأمر من زمن، وقامت بضغط المعرفة إلى كبسولات صغيرة تمثلها التغريدات والبوستات ضاربة تقاليد القراءة والمشاهدة والتحليل.
هو صراع إذن، بين سكوت وجيله وأجيال من مشاهديه، وبين عقل جديد، لا يبدو أن سكوت وأمثاله يقبلون فيه الهزيمة، وهم أبناء المجالدة التاريخية، لذلك تراه يعدّ العدة لتحويل أعماله السينمائية القديمة إلى مسلسلات تعرض على المنصات، ومن الواضح أنها لن تكون مبارزته الأخيرة كما هو عنوان فيلمه الذي لم يثير إعجاب جيل اليوم.