السيرة الفكريّة كتابة شعرية تفضح الأسرار

تفرّعت عن السيرة الذاتيّة الخالصة أنواع أدبية قريبة قد تنفصل عنها، فلا تشترك معها إلا في الاسم، كرواية السّيرة الذاتيّة التي تعدّ النقيض التام للسيرة الذاتيّة الخالصة، وقد أغرت الكتابة عن الذات الكثير من الكتاب لتقديم أدب مكاشفات لاقى انتشارا واسعا بين القراء.
هناك فارق بين السيرة الذاتيّة الخالصة ورواية السّيرة الذاتيّة، يتمثّل في أن إحداهما تنهض على الواقع المرجعي بشكل أساسي، في حين تلجأ رواية السيرة إلى الخيال كقناع، يكون بمثابة نقض للميثاق السيري أو العهد، الذي يحيل إلى المطابقة بين الهُويات الثلاث (المؤلف، الشخصية والراوي).
شدة الاقتراب بين السيرة الذاتيّة والسيرة الفكريّة، تجعل من المفهوميْن يتداخلان إلى الحدّ الذي لا يمكن معه الفصل بينهما، لدرجة أن التعريف الذي حدَّد به فيليب لوجون السيرة الذاتيّة ينطبق تمام الانطباق على السيرة الذهنيّة، كما يقول محمد الداهي.
مراجعة وتأمّل
“السّيرة الذهنية” بمفهوم محمد الدّاهي الذي قدَّم كتابًا تناولَ فيه بالتنظير والممارسة كل ما يتعلّق بهذا النوع الوليد؛ هي صنفٌ من السّيرة وامتداد مباشر لها، ويعرِّفها بأنها حكاية نثرية تترصّد أطوار حيوات أفراد واقعيين معروفين بمناقبهم ومآثرهم ومجهوداتهم. وهي تهتمُ، في المقام الأوّل، بالجانب الإخباري أو التحليلي الصرفي، وبتسريح النادرة أو الأحدوثة، وبتقصّي مكونات وأسرار النزوع الأدبيّ والفكريّ للمترجم له، بالاطلاع على الشواهد اللازمة كالمذكّرات واليوميّات والشهادت وغيرها وبالبرهنة على صِحّة بعض الطروح والحقائق الفكريّة والفنيّة.
من أنواع السيرة الذهنيّة ما يمكن أن يُطلق عليه السيرة الذاتيّة الموضوعّية التي تتعلَّق بشخصية فكرية معروفة تستأثر بالاهتمام وبقطب من أقطاب التأليف والفكر الذي يحظى بمقومات وَقِيم تميّزه عن غيره من الأعلام، ويُعتبر قدوة حسنة للشباب المُتمسّك بالمبادئ السّامية والمتطلّع إلى العُلا. وهذا النوع يهتمُّ برصد مسار المسرود عنه التعليمي والثقافي والمهني، ويتوخى تتبّع أطوار حياته منذ نشأته وطفولته إلى أن استوفى حظه من هذه الدنيا ثمّ وافاه الأجل.
حفلتْ كتب التراث العربي بالكثير من نماذج السير الفكريّة، على نحو ما كتبه بعض المحدثين والفقهاء لبيان معاناتهم في تحصيل العلم، ومن هذا “مناقب الإمام أحمد بن حنبل” لأبي الفرج عبدالرحمن بن الجوزي، ومنها “المنقذ من الضلال”، للغزالي و“التعريف بابن خلدون عن رحلته شرقًا وغربًا والفوائد الجمّة” لعبدالرحمن التنمارتي، و“أنا” العقاد، و”تربية سلامة موسى”، و“سيرة ذاتية فكرية” لسمير أمين، و”في الطريق” لريمي هيس، و“رحلة نحو البداية” لكولن ولسون، و“الكلمات” لجون بول سارتر، وغيرها الكثير من الأعمال التي تندرج تحت هذا النوع.
وإن كان محمد الداهي خلط بين الأنواع التي تنتمي إلى هذا النوع وبين أخرى تندرج تحت نوع السيرة الذاتية، فأدرج “سبعون” ميخائيل نعيمة و“رحلة جبلية رحلة صعبة” لفدوى طوقان، و”أوراق العمر” للويس عوض، إلى هذا النوع، وهو أمر صعب، لا يمكن تقبُّله بسهولة؛ فمجمل هذه الأعمال تناولت المسيرة الحياتية بإسهاب شديد، وهو ما لا تلتزم به السيرة الفكرية، وحتى وإن تطرقت للتكوين الفكري في استعراضها للحياة الذاتية، فهذا لا يمنحها استقلاليتها عن السيرة الذاتية، وإدراجها إلى السيرة الذهنية.
الأثر المهمُّ في ما يسرده الكتّاب عن مكوناتهم الفكريّة والثقافيّة، يتمثّل في ما يمنحه السّرد من بُعد تربوي لطلاب العلم، إلى جانب البُعد المعرفي، بما يقدّمه من إضاءات عن الأوضاع السياسيّة والاجتماعيّة، وعن التأثيرات الثقافية المُتباينة وَفْقًا لموارد العلم، وإن كان يسعى البعض ليجعل من هذه السيرة بمثابة المراجعة الفكريّة للآراء والقضايا التي طُرحت سابقًا، على نحو ما فعل سمير أمين في سيرته بأن جعل غرضه منها بمثابة “إعادة كتابة وتطور أطروحاته في الرأسمالية والاشتراكية”. نفس الشيء فعله صلاح فضل عبر تساؤله “أكتب هذه الكلمات من الذاكّرة، وأسأل نفسي: ماذا عساك أن تكون قد قدمتَ للفكر النقدي العربي، هل اقتصرت في الكتب النظرية على تقديم تلخيص للتطورات العلمية ولمنجزاتها، وهل جئت بما يستحق البقاء في عشرات الكتب ومئات المقالات التطبيقية؟”.
بعد مرحلة انقطاع لا نعلم أسبابها عاد الاهتمام بهذا النوع من جديد، فظهرت سير لكُتَّاب وَمُفكِّرين، توضع على أغلفتها الخارجيّة عبارة “سيرة ذاتية فكرية” على نحو ما فعل عبدالوهاب المسيري في كتابه “رحلتي الفكرية في البذور الجذور والثمر”، وصلاح فضل في سيرته “عين النقد” وإن كان بنسالم حِميش في سيرته “الذات بين الوجود والإيجاد”، اكتفى بوضع سيرة ذاتية، وهو نفس ما فعله جابر عصفور في كتابيه “من هناك” و“بعيدًا عن مصر”.
سير ومكاشفات
في بداية سيرته “الذات بين الوجود والإيجاد” يعترف بنسالم حميش أنه كان عازفًا عن السُّبوح في الحياة الجوانيّة، لأنه ليس في حالة صُلْحٍ وَوِفَاقٍ مع لحظات وبؤر في وجوده، ومع عزمه عدم الخوض في كتابة الذات، خاصة أنه يرى أن عددًا ممّن مارسوا الأوتوبيوغرافيا، أفرزتْ مجمل كتاباتهم سيرًا ذاتية مباشرة أو مُقنَّعة، هي في معظمها سير اللهج الأنا الصرف.
في حديثه عن مرحلة الطفولة، ينتقي من هذه المرحلة المؤثرات المهمّة، كأن يتذكّر المعلمين الفرنسيين وعنصريتهم وذهنيتهم الاستعمارية. حتى في استذكاره للوسط النسائي الذي نشأ بينه، لا يستحضره مجرّدًا من طقوسه الخصوصية وعاداته، كما يربط بين طفولته والأماكن المتعدّدة التي تنقل إليها. ويستمر حميش في استعراضه لكافة المؤثرات الثقافيّة، التي أسهمت في تشكيل وعيه الثقافي والفكري، ويدين لكتابات عبدالله العروي في مرحلة التلمذة الجامعية. كما يتطرق إلى إسهاماته الثقافيّة الفاعلة في الثقافة كإنشاء دوريّتيْن هما الزمان المغربي والبديل.
أما الدكتور صلاح فضل فيبتعد في سيرته الفكرية “عين النقد وعشق التميز” (2019، دار بتانة) عن الحديث عن الأمور الشخصية، بقدر ما يقترب من التكوين الفكري له، والعوامل التي أسهمت في بروز الحثّ النقدي لديه. فيعرض لظروف وفاة والده، لا كنوع من الرثاء، وإنما لأثرها في تغيير مساره التعليمي، حيث نقله جده من التعليم الحكومي إلى التعليم الأزهري كي يستكمل مهمّة أبيه الذي رحل وهو في عامه الأخير في تخصص القضاء الشرعي.
ثمّ يسهب في شرح المؤثرات التي شكّلت ذائقته النقدية، كمجلة الرِّسالة التي عثر عليها في خزانة جده، ودور عمه الذي ساعده بطريقة غير مباشرة في الاطلاع على كتب القانون الدستوري والمدني والجنائي والإجراءات والاقتصاد الدولي والنظريات المطولة عن القانون الروماني، ثم تأتي الخطوة الأهم بدخوله كلية دار العلوم، وكانت بمثابة نقلة من الجُبّة والعِمامة، إلى رحاب الجامعة المختلطة، وقد وصفها بهذه الفترة بأنها فتنة دار العلوم.
الحاجة إلى كتابة السيرة الفكرية تماثل الحاجة إلى كتابة السيرة الذاتية، لما فيها من نفع للقارئ والباحث معا
الهدف من كتابة السيرة الفكرية، هو استعراض المسيرة العلمية الحافلة، بذكر ثمارها العلمية، المتمثلة في ولادة الأفكار. فيحدثنا صلاح فضل عن الأفكار الأولى لكتبه كيف جاءته، وكيف فرض عليه زخم التيارات الاشتغال بالمناهج الحديثة، رغم معرفته بأنه سوف يصطدم بمعسكر التقليديين.
السّمة البارزة للسيرة الذهنيّة، هي قدرتها على تجسيد الشخصية في صراعها ليس مع واقعها وظروفها التي استطاعت التغلّب عليها لتصل إلى ما وصلت إليه، وإنما في إبراز الصراع الأهم، وهي تدخل معسكر البنى التقليدية، وتحملها في دأب مواصلة عملها التنويري رغم كافة المعوقات، وهو ما يمثّل انتصارًا للثوابت العلمية والمرجعيات الفكرية والثقافيّة التي نهلت منها الذات، في وقوفها صلبة أمام الأفكار الرجعيّة.
كما تحتوى السير الفكرية على بعد معرفي، لا فقط في ما يذكره المؤلف عن كتاباته ومناهجه، وإنما في ما يقدمه من ملامح جغرافية وثقافية للأماكن التي انتقلوا فيها، فصلاح فضل يتحدث عن إسبانيا وعن انبهاره بحضارتها، ويصحح المعلومات ويقرّ بأن العرب لم يخرجوا من الأندلس، فمن خرجوا من شبه الجزيرية الأيبيرية نهاية القرن الخامس عشر، ليسوا عربًا وإنما كانوا أشتاتًا من الموريسكيين، أما العرب فقد اضطروا تحت وطأة القهر ومحاكم التفتيش إلى الذوبان في الجسد الإسباني. وجابر عصفور في سيرته “بعيدًا عن مصر” يُفتن بمدينة ماديسون ويصف معالمها.
تماثل الحاجة إلى كتابة السيرة الفكرية، الحاجة إلى كتابة السيرة الذاتية، لما فيها من نفع للدارس والباحث معًا، لكن على الكُتّاب أن يخففوا من نبرة الأنا، والافتخار بتخطي الصعاب، فهذه أشياء لا حاجة للتنويه بها، بقدر ما يستخلصها القارئ بنفسه، وأيضا الابتعاد عن تلخيص كتبهم، وإنما الاكتفاء باستعراض دواعي الكتابة والمناهج المستخدمة، لأنها أفيد للقارئ.