السوق العالمية والأيام الحرام
بأبسط الأفكار والقيم التي تعود إلى تاريخ العرب القديم، ما قبل الإسلام، تعاهد الناس على تحريم الأذى في أوقات معينة من السنة، والأصل أنها حرام في كل وقت طيلة العام، لكن لم يكن لديهم مفر من وضع شهور أسموها بالأشهر الحرم، وكانت أربعة لا تحارب فيها ولا سفك دماء ولا ترويع، ومن بينها هذه التي تمرّ بنا الآن.
لكن ماذا كان عرب تلك الأيام يفعلون في الأشهر التي لا حرب ولا غزو فيها؟
كانت لديهم حياة من نوع آخر. يذكر التاريخ أنهم كانوا ”يقعدون“ فيها عن كل فعل يمكن أن يُربك الآخرين، يزورون بعضهم بعضا، وينظمون برنامجا سمي آنذاك بسوق عكاظ، وهو مهرجان شعري له نظائر مشابهة لتبادل الثقافات والتجارب، وكان من تقاليد الحج إلى مكة.
وبعد انفضاض سوق عكاظ، كانت تُعقد سوق مجنّة وسوق ذي المجاز، وخلاصة القول إن تلك الأفكار التي تستمر حتى هذه الأيام، وإن بمسميات أخرى، تعني أن العرب توصّلت منذ وقت مبكر إلى أن المعرفة خير من القوة، وأن البلاغة والبيع والشراء ومقايضة الخبرات أفضل من فرضها فرضا على الآخرين، وهي مكارم الأخلاق التي جاء النبي ليتمّمها كما قال بنفسه.
بفقدان تلك الروح في تحمّل المسؤولية الاجتماعية، وبانتشار التحليل والتحريم للقضايا الأقل أهمية من حياة الإنسان، وهي الأعظم والأجل، ومع انحسار الإحساس بالهوية العربية بمعناها الحضاري، انتشرت الغريزية وعمّ الخراب، أما غير العرب من الشعوب المتخالطة معهم والتي تحاول اقتحام عالمهم، فلا يفهمون معنى تلك الأشهر ولا معنى الحرام حين لا يكون دينيا، بل يفهمونه بالمعنى الطقسي الذي جلبوه من أساطيرهم القديمة.
تعامل مثقفو القرن الماضي في العالم العربي مع مفردات اللغة العربية بالقليل من المخزون والعدّة اللازمة لتناولها في أبحاثهم وكتبهم وأطروحاتهم، فأصبح التحريم كلمة مرتبطة بالفتوى الدينية لا بالامتناع عن الفعل، وهذا مردّه إلى استسهال النقد والتجرؤ على الكتابة بعناوين عريضة، وأيضا وهو المهم أن هذا الخطاب كان يعجب الغرب والتيارات الدينية السياسية في الشرق، وهو بضاعة لها سوقها عند الاثنين، بغض النظر إن كان ما تقوله دقيقا أو لا.
معنى السوق بحد ذاته معنى يكتشفه البشر الآن، بطغيان السوق العالمية وما يجري فيها من اضطراب هذه الأيام بسبب أزمة الطاقة والمحاصيل بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، ولأن السوق مرتبطة بالإنسان منذ الأزل فتذكير الناس بحرمة الدم والإيذاء واجب يومي، مثل فنجان القهوة وغسيل الوجه، والتكاسل عن ذلك هو الجاهلية، فالأيام هي الناس ولو كان الناس أفضل مما هم عليه الآن لكانت أيامهم أفضل.
