السوري غسان النعنع: الفنان انعكاس صادق لما يحصل في المجتمع

فنان يراهن على ضرورة أن تعكس لوحاته حقيقة مجتمعه وتاريخه.
السبت 2023/02/04
فنان يصور قصصا من مجتمعه

يعتبر فن الجداريات أحد أشكال الفن التشكيلي الأصيل. نشأ مبكرا في تاريخ الإنسانية ليتحول عبر الزمن إلى زخارف فنية تحمل إبداعات الأمم، ولوحات تؤرخ لقصص وحيوات قادة وأبطال ومشاهير وحتى مشاهد عامة. وفي دمشق يقدم الفنان التشكيلي غسان النعنع هذا النموذج من الفن ليعبر من خلاله عن عوالم فكرية ودينية وفلسفية وصوفية، تكشف مدى حساسية الفنان تجاه العالم المحيط به وتجاه الذاكرة الجماعية والتاريخ الإنساني المشترك.

"من يعرفني ويعرف حياتي الشخصية، يكتشف أن ما أرسمه قريب جدا منها"، هكذا يتحدث الفنان التشكيلي السوري غسان النعنع عن نفسه، وهو الذي ولد في مدينة حمص عام 1953 وتخرج في كلية الفنون بدمشق عام 1978 من قسم التصوير. وهو معروف في جيله الفني كأحد أكثر الفنانين قربا من الحياة اليومية، وتجلى اهتمامه بهموم الحياة اليومية بدءا من معرضه الأول في التخرج، وبه شارك في عمل حمل اسم "العمال المنتظرون على الأرصفة"، وهو يولي اهتماما كبيرا وواضحا بموضوعي الحياة الإنسانية اليومية وكذلك المرأة، التي خصها بمعرض كامل في الموسم الفائت سماه "العروس" قدم فيه تجليات هذا المفهوم في شرقنا ومجتمعنا.

غسان النعنع، افتتح مساء الثامن والعشرين من يناير الجاري في صالة جورج كامل في دمشق معرضا فنيا جديدا له، قدم فيه لوحة جدارية كبيرة واحدة، استوحاها من كتاب الأديب اللبناني الشهير جبران خليل جبران "يسوع ابن الإنسان" الذي صدر باللغة الإنجليزية في الولايات المتحدة منذ ما يقارب المئة عام.

تبدو أجواء المعرض مليئة بالغرابة والدهشة، كونه قدم لوحة فنية واحدة بشكل أساسي، وقدم موضوعا يتداخل فيه البيئي مع الديني والصوفي، فصاحب المعرض متميز بريشة مرهفة تنتج فنا خاصا به، يحمل عمقا فكريا كبيرا متغلفا برهافة واضحة في التعامل مع درجات اللون ومواضعه.

أجواء المعرض مليئة بالغرابة والدهشة، كونه قدم لوحة فنية واحدة وموضوعا يتداخل فيه البيئي مع الديني والصوفي
أجواء المعرض مليئة بالغرابة والدهشة، كونه قدم لوحة فنية واحدة وموضوعا يتداخل فيه البيئي مع الديني والصوفي

في كتاب جبران، يسوع مختلف، يمثل إنسانا حرا عنيدا يتحدى المخاطر ويتقرب من الناس ويعيش معهم كل تفاصيل حيواتهم، آلامهم وأفراحهم ومخاوفهم، وهو المنظور الذي سار عليه النعنع في جداريته التي تشكلت على أربع لوحات كبيرة متصلة 160/200 سم، وفي مقابل هذه الجدارية، شارك بلوحة رسمها في نفس الوقت وبنفس المزاج وتحمل ذات البيئة الفنية، قدمها في ركن قريب، وهي تماثل في قياساتها واحدة من اللوحات الأربع. كما قدم النعنع كروكي اللوحة الجدارية في ركن قريب بمقياس صغير 40/8.

يرى غسان النعنع أن الفكر الإنساني متصل ومنفصل معا، فالزمن والجغرافيا قد يباعدان بين مبدع وآخر، لكن الروح الإبداعية تلتقي حتما ولا يمكنها الانعزال طويلا. من هنا يبرر سبب توجهه للعمل على مؤلف جبران خليل جبران "يسوع ابن الإنسان".

يقول الفنان السوري لصحيفة “العرب”، “عاش السيد المسيح في حياته كثيرا من محطات الألم والصعاب، لكنه تجاوزها كلها، وكتاب جبران يحكي بلغة الإنسان عن المحيطين به وكيف عاش بينهم شخصا طبيعيا يتفاعل معهم، من خلال هذه التوليفة يمكن فهم بعض تفاصيل حياته، وكيفية معالجته لما واجهه في الحياة وكيف تقبل الناس حوله أفكاره. في اللوحة الجدارية، رصد لتفاصيل العلاقة التي وجدت بين السيد المسيح والناس ممن كانوا حوله، وكيف كان منارة فكرية وإنسانية بينهم”.ويضيف “جبران خليل جبران يحب التأمل والماورائيات، وأنا كذلك، في هذه المساحة التقينا وأوجدت العمل في ضوء كتابه الذي ينسج من نفس الروح".

ويراهن النعنع على ضرورة تناول الفنان للوحاته بمقدار كبير من تفهم مجتمعه ومحيطه، حيث يقول عن ذلك “هاجسي في الفن أن أقدم الواقع الذي أعيش فيه إلى الجمهور، فالمحيط مليء بالتفاصيل الحياتية التي تكون في متناول اليد، الفرح والحزن والألم والحنين. الفنان بالضرورة منعكس لما يجري حوله، وكلما اقترب أكثر من جوهر بيئته سيكون أكثر صدقا ونجاحا، وضروري أن يكون ذلك مغلفا بروح فنية خاصة، تميز الفنان عن غيره حتى لو كان الموضوع المتناول ذاته". ويتابع "الفنان يعيش الحزن والفرح مع الناس، لكنه يرسمهما للجمهور بشكل يحمل سمات الاختلاف والدهشة، والهدف الأبعد للفنان هو إيصال الأفكار للجمهور ليحقق الجمال والمتعة والفائدة".

◙ تجربة غسان النعنع تبدو متفردة، حيث يراهن على ضرورة تناول الفنان للوحاته بمقدار كبير من تفهم مجتمعه ومحيطه

وعن سبب اختياره لرسم لوحات جدارية كبيرة الحجم يقول "اللوحة الجدارية تعطي مساحة أكبر في التعبير عن الفكرة، والذات الجوانية للفنان، هنالك الكثير من التفاصيل التي تجمعني مع جبران خليل جبران والحالة التي يحملها إبداعيا وفكريا، وهذا ما استلزم مني تحضيرا طويلا وعميقا، استغرق وقتا وجهدا طويلا، وعندما بدأت الرسم، كنت متأكدا أنه سينال وقتا طويلا، وضعت في اللوحات الجدارية التي رسمتها خلال عدة أشهر كل مكوناتي الفكرية والتقاطعات الذهنية التي تجمعني مع جبران خليل جبران وخاصة في كتابه عن السيد المسيح، فأظهرته في مواقف حياتية حادة عاشها وواجهها، ضمن تركيبة فنية خاصة".

تبدو تجربة غسان النعنع متفردة من حيث آلية تنفيذه لأعماله، فرغم الدراسة الأكاديمية في الفنون الجميلة التي تحصل عليها، وقيامه بالتحضير الفكري المسبق لما يريد أن يرسمه، لكن حالة الفطرة لا تغيب عن تنفيذ اللوحة، وهو يترك للإحساس والذاكرة دورا هاما في العمل “أحضر للفكرة التي أريد أن أرسمها جيدا حتى تصبح جزءا من كياني، وعندا أبدأ الرسم أترك كل هذه التفاصيل جانبا، تاركا المساحة للحدس والذاكرة، التي ستأتي بكل مكنونات النفس وتضعها عبر تناغمات خاصة في العمل، أحاول في اللوحات التي أقدمها نقل ما أعرف وما أشعر به للجمهور، بشكل انسيابي عفوي".

هنا، لا بد أن نشير إلى أن فن الجداريات الذي اعتمده الفنان فن عريق، عرف في التاريخ البشري قبل أن يصنف في إطار الفن، حيث كان أسلوبا من التأريخ والتعبير والتوثيق يلجأ إليه إنسان الكهوف للكتابة ونقل المعرفة عبر الأجيال، ثم وجد في أماكن العبادة، مجسدا لبعض التعاليم أو القصص الدينية، واستعملته الشعوب لتوثيق الماضي.

جدارية عملاقة عن قصة المسيح
جدارية عملاقة عن قصة المسيح

13