"السنة المفقودة" لوحة فنية وأدبية في عالم سري على ضفة النهر

عودنا روائيو أميركا اللاتينية بروايات ساحرة تقوم على أحداث وشخصيات من عمق البيئة اللاتينية، وتحولهم إلى أبطال عابرين للثقافات، أناس بسطاء، أغلبهم، لكنهم مع صنعة السرد والعوالم التي ينقلها الكتّاب يصبحون أبطالا مؤثرين، من هؤلاء الروائيين بيدرو ميرال الذي يتحول بطل روايته “السنة المفقودة” من رسام راحل إلى صاحب أسرار يقتفيها ابنه.
في روايته القصيرة بقدر ما هي قوية “السنة المفقودة” يستكشف الروائي والشاعر الأرجنتيني بيدرو ميرال العلاقة بين الفن والحياة من خلال حياة أب خوان سالفاتييرا الذي استخدم الفن كوسيلة وحيدة للتعبير عن رؤيته للعالم، ورفض عرض عمله أثناء حياته. حيث يتوقف ابناه ميغيل (الراوي) ولويس مصادفة وبعد تشييع جنازة والدتهما أمام كوخه “دخلنا سائلين الإذن من شبح سالفاتييرا، كما لو كان المكان هيكلا. كانت لفات القماش هناك، متدلية بعناية من عوارض السقف. عددناها. فكانت أكثر من ستين لفافة. حياة رجا برمتها. جميع أيامه ملفوفة ومخبأة هناك”.
الرواية التي ترجمها الشاعر أشرف القرقني وصدرت عن دار مسكيلياني للنشر مبنية على لوحة فنية وأدبية وتصويرية رائعة، للنهر أهمية كبيرة فيها، كمشهد للحركة: النهر الذي يفصل بين الأرجنتين وأوروغواي، ولعبة الفن، اللوحة ـ النهر، والنهر حياة، النهر الإنساني بكل أسراره وحيوات كائناته المتناقضة، النهر الفاصل بين الأكاذيب والحقيقة، بين الذاكرة الودية والاكتشاف المؤلم للغامض والخفي، بين الماضي والمستقبل المختلف عما نتذكره وما كان متوقعا.
اكتشاف الأسرار
في سن التاسعة يترك خوان سالفاتييرا وحيدا منعزلا وصامتا بعد تعرضه لحادثة حصان أثناء نزهة مع أبناء عمومته، يخرج منها محطما فلا يجد الطبيب مدمن الكحول له مخرجا سوى أن يترك له علب ألوان مائية، وبعد أن يتعافي يفقد القدرة على الكلام، يخرس، فيبدأ الرسم بعد أن تم الاستغناء عنه في العمل العائلي، في العشرين من عمره يحرق ما رسمه في طفولته ومراهقته، وأثناء عمله بمكتب البريد يعتاد أن يذهب كل صباح إلى حيث تعمل زوجته هيلينا راميراز في مكتبة الحي ليقرأ عن حيوات الرسامين العظام ويبحث عن الكتب التي تتضمن صورا ونقوشا، ليبدأ سرًا رسم سلسلة من لفائف القماش الطويلة جدا التي سجل عليها بدقة حياته وحياة بلدة ساحلية؛ بمشاهدها اللليلية والنهارية.
على نسيج عاطفي دقيق، ومن خلال مراجعة اللوحة الطويلة جدا لأبيه يستحضر ميغيل علاقته مع والده وماضي العائلة وماضيه. وسرعان ما يكتشف أن عمل والده يحتوي على أكثر بكثير مما يعرفه ويتذكره. ومن ثم يبدأ تحقيقا بين جيران بارانكاليس وأقاربه وزملاء أبيه في العمل بحثا عن لفافة مفقودة مما يثير ردود فعل قاسية وعابسة وعدائية أحيانا.
اللوحة التي تركها خوان سالفاتييرا في كوخ كان بمثابة ورشة مهجورة على ضفاف نهر على الحدود مع أوروغواي، حيث تعيش الأسرة، عبارة عن جدارية ضخمة تشغل ما يقرب من أربعة كيلومترات من لفائف القماش رسمها سرا حتى يوم وفاته. عند اكتشاف أن جزءا منها مفقودا، يتعمق ميغيل في ألغاز ماضي أبيه/ الفنان في مغامرة ستقوده، من الأرجنتين إلى أوروغواي، لإعادة بناء التاريخ الحقيقي لعائلته وإعادة التفكير في حياته.
ميغيل، الراوي – المطلق، وكيل عقارات ولديه ابن، هو الأكثر اهتماما من شقيقه لويس بإنقاذ وضبط اللوحة الضخمة دون توقيع، والتي بغض النظر عن تفردها التشكيلي، فإنها تمثل الدليل الحقيقي للعثور على بيانات جوهرية وغير متوقعة، مذكرات حميمة، سيرة الذاتية أو وقائع شخصية لوجود كامل لفنان ولأب عزيز عاش وحيدا وغير شفاف إلى حد ما وساحق ربما بسبب صمته.
النهاية المأساوية
الرواية التي تشكل قطعة فنية تتدفق كتيار في نهر عذب بصورها الشاعرية المشحونة بالحيوات الإنسانية لفنانها خوان سالفاتييرا، والبالغ عدد صفحاتها 126، حظيت بالعديد من القراءات، وقد قدم لها الكاتب والشاعر زياد عبدالقادر، الذي قال “تكون في راحة من عقلك وبمجرد أن تتصفح الكتاب يختل توازنك، وتمضي في نهر الحكاية مسحوبا باندفاع التيار، بعيدا عن غرفتك، عن طاولتك وكرسيك ومصباح مكتبك، وأنت تجدّف خلف الراوي (الابن ميغيل)، باحثا عن لفافة الرسم الضائعة. تجتاز قرى أرجنتينية، تقابل صيادين ومهربين، تمشي على طول أنهار موحلة وتركب عبّارة صدئة في جنح الظلام قبل أن تهتدي إلى أنك كنت بصدد البحث عن قصيدة رسمها بيدرو ميرال وكتبتها عيناك على الطريق وأنت تقرأ”.
وأضاف “رسام أبكم، لا يظهر في رسوماته الخاصة ولا وجود لأي بورتريه له في أثره بأكمله، لا يتواصل مع جمهور ولا يتحدث إلى نقاد. لقد رفض حتى أن يوقع على إلغاء فاعلية التسمية إزاءه، الغياب الذي يبطل النطق حين يعدم المنطوق ذاته. وها هو خوان يسقط عن ظهر الحصان ليفقد القدرة على النطق وينتهي به الأمر إلى الصمت المطبق مثل كبار المتصوفة. يظل خوان مجرد قوس فارغ، فلفافة سنة 1961 التي تشكل حلقة ضرورية لاكتمال شريط رسوماته لم تكن حيث يفترض لها أن تكون. الرسام خارج الزمن ولفافته خارج المكان. لحظتان مطلوبتان لاكتمال تشكل نظام أنظمة النسيان”.
ويتابع عبدالقادر “لعل ذلك ما يفسر عدم اهتمام خوان بتوقيع أعماله. ولما كان التوقيع هو الختم الذي يثبت أصلية الاسم فإن من شأن غيابه أن يحدث اضطرابا سلاليا لا يولد اليتم وإنما إشكالات أخرى كاللقاطة. هذا الاضطراب السلالي الذي انكشف كأوضح ما يكون إثر المحادثة النهرية بين تشي وليبانيز، أظهر أن الختم كما الاسم ليس وسما فحسب بل علاقة جنيالوجية، افتقار متى سعينا إلى فك أسراره فإنه لن يعدم الذرائع التي تدمره ليستمر في الاحتماء بألغازه: من نفسه ينتقم الغائب عندما ندفعه عنوة إلى الظهور”.
بطل الرواية يسقط عن ظهر الحصان ليفقد القدرة على النطق وينتهي به الأمر إلى الصمت المطبق فيلجأ للرسم
ولعل هذا ما يفسر المصير المأساوي الذي لقيته اللفائف في ختام الراوية. كان الكوخ يحترق ومعه كيلومترات من الأقمشة، ومن بين ألسنة النيران كانت جملة فريدريك نيتشه تتراقص في اللهب “إن أقصى ما يبلغه أكبر المتنورين لم يتجاوز كونهم تحرروا من الميتافيزيقا وأصبحوا ينظرون إليها بعين المتفوق نظرتهم إلى شيء خلفهم، بينما ينبغي، هنا أيضا كما في ميدان سباق الخيل، أن تتم الدورة حتى العودة إلى نقطة الانطلاق كي تبلغ نهاية السباق”.
وأوضح عبدالقادر أنه على ضوء هذا القول هل كان من باب الصدفة أن يفقد خوان سالفاتييرا نطقه إثر سقوطه من فوق ظهر الحصان؟ وتزامن إنقاذ لفافة سنة 1961 مع احتراق كوخ بارانكاليس، هل كان مصادفة؟ ألا يعيدنا ذلك إلى نقطة الصفر؟ لقد تمت تسوية الأمر بالنار في مبادلة عجيبة مع القدر أشبه بنسخ الآيات المقدسة. هلاك أطنان من الأقمشة مقابل نجاة لفافة واحدة.
وتابع “دينيا جرى الأمر وفق آلية الناسخ والمنسوخ. فلسفيا وفق ما يسميه جورج باطاي بـ ‘مبدأ التلف’ إذ ليس في قدرة الجزء اللعين تعطيل قوى الإخفاء والحظر إلا بمثل هذا الإنفاق الرمزي القريب من طقس الأضحية. لهذا كان لا بد من دفع ثمن باهظ لرفع الحظر عن سر سنة 1961، ليس أقل من ضياع جهد 60 سنة من الرسم. غير أن الطريف في الأمر هو ضياع ذلك الجهد سيغدو الأفق الذي لا يني يذكر بلا تناهي الأثر أفضل من أي أثر آخر. والأطرف من كل هذا أن حريق برانكاليس لم يأت على مجرد لفائف الرسم، إنما على الأصل الذي يستحيل من دونه تصديق حقيقة لفافة سنة 1961”.