السقوط المهني.. من التأخْون الطوعي إلى الكفر بالصحافة

ما كتبه الصحافي أنيس منصور في صحيفة “أخبار اليوم” عام 1988، عن سيد قطب نكاية بجمال عبدالناصر، لم يكتب مثله عتاةُ الإخوان المسلمين في مديح قطب، أو في لعن عبدالناصر. تأخْون ذاتي، طوعي وكيدي وانتهازي ومؤقت، دفعه إلى هذا السلوك، (السقوط إن شئت الدقة والموضوعية)، ولكن آثاره لم تقتصر على الممدوح والمذموم، وإنما حفرتْ عميقا في نهر الإخوان، فتطايرت من المجرى مقذوفات حجرية صرفت القارئ عن الصحافة، وأفقدته الثقة بها، وأكدت مقولة تاريخية تسخّف ما تنشره الصحف وتصفه بأنه “كلام جرايد”.
وفي واقعة اقتحام الشرطة لمقر نقابة الصحافيين بالقاهرة، عام 2016، ثبت أن الصحافة مستباحة، والصحافيين يتامى لا يحميهم قارئ.
في 1 مايو 2016 اُختبرت الصحافة، باقتحام النقابة. وفي السكرة المهنية أدانت الصحافة الحكومية “الجريمة”. وعالجتها مجلة “المصور” في ملف من 60 صفحة، وحمل الغلاف عناوين: “تكميم الأفواه.. الحرية في خطر.. أين الرئيس من جريمة اقتحام نقابة الصحفيين؟”. ونشرت “الأهرام” تغطية موسعة مصورة لجمعية عمومية طارئة طالبت “بإقالة وزير الداخلية”، واستنكرت افتتاحيتها السلوك “المشين باقتحام نقابة الصحافيين.. ارتكبت وزارة الداخلية أخطاء عدة خلال الفترة الماضية واختتمتها بتصرفها المؤسف في حق الصحافيين والإعلاميين، فهي لن تنجح في مرادها الخبيث بتكميم الأفواه.. وإذا هبّ هذا الشعب لنيل حريته لا يوقفه أحد ولا أعتى متاريس الأمن وسلاحه”. خطاب مرجعيته ثورة 25 يناير 2011.
ذهبت السكرة، وجاءت الفكرة. ففي اليوم التالي، كتب رئيس تحرير الأهرام مقالا في الصفحة الأولى، بعنوان “ضد تسييس نقابة الصحافيين”، رافضا “افتعال الأزمات والصدام مع الدولة”. وأسفل المقال تقرير عن “فشل عقد جمعية عمومية للصحافيين”. ورفعت الأهرام شعار “تصحيح المسار”، وتبناه “دهاة” موالون لسياسات حسني مبارك وبالطبع عبدالفتاح السيسي. واجتمعوا بالأهرام، ولم يدفعوا إيجار القاعة الكبرى لخزينة مؤسسة تعاني ماديا. واختير بقية الحضور رؤساء لتحرير الصحف والمجلات الحكومية، بعد اجتماع طالب بسحب الثقة من مجلس نقابة الصحافيين، وأكد فيه رئيس تحرير الأهرام حرص الحاضرين على احترام “رئيس الجمهورية البطل الشعبي الذي تقدم الصفوف لإنقاذ هوية الوطن والدولة من جماعة فاشية”.
ما علاقة “جماعة فاشية” باقتحام النقابة؟ وهل يصدق القارئ صحفا أشادت بجماعة الإخوان، قبل الوصول إلى السلطة وطوال سنة حكمهم لمصر؟ وكيف يحترم صحافيين افتعلوا تاريخا من التأخْون، واختلقوا أدوارا وطنية للجماعة، وأشادوا بمؤسسها ورموزها؟ لا وقت ولا صبر لدى القارئ لكي ينتقي من “مواقف” الكاتب ما يستدعي الاحترام، ويكفيه خطأ، خطأ بعمق الخطيئة لإصرار الكاتب عليه، لكي يلعن الكاتب والصحيفة والصحافة كلها، ثم يترك الصحافيين لمصائرهم في مواجهة بطش السلطة، فيقف بلطجية في شارع طلعت حرب، أمام النقابة، يوجهون السباب الوقح إلى الصحافيين، في حماية شرطة تحظر التظاهر بقانون غير دستوري ابتدعه الرئيس المؤقت عدلي منصور في نوفمبر 2013.
التأخوْن سُنة ابتدعها أنيس منصور، وقد توفي في أكتوبر 2011 قبل صعود الإخوان، فلم يشهد بنين وأحفادا مشوا في طريق مهّده عام 1988 بمقالات “عبدالناصر.. المفترى عليه والمفتري علينا”، وقد جمعها بالعنوان نفسه في كتاب طافح بحقائق وأكاذيب وأساطير منحت طعما حرّيفا لكتاب “حواوشي”، لذيذ بلا فائدة، وتلك مقتلة أنيس منصور وعقدته، ألا يأخذه أحد برصانة وجدية، في الإبداع وأدب الرحلة والترجمة، رغم نحو مئتي كتاب بلغة رشيقة، ومعها صداقات حول العالم، ومناصب لا يحلم بها صحافي في مصر. وفي كتابه يرسم ما يسميه مسرح الرعب الأكبر “كلاب وكرابيج.. ومسامير وجرادل البول والبراز تيجان على رؤوس المؤمنين بالله، الكافرين بالطاغية”.
معروف أن سجن سيد قطب كان في مستشفى السجن، وأتيحت له وسائل التأليف من مراجع وأدوات كتابة، وأكمل تفسيره “في ظلال القرآن”، إلى أن قرأ عبدالناصر “معالم في الطريق”، فشعر بحسه الأمني أن وراء الكتاب تنظيما. ولا ينشغل أنيس منصور بتحقيق الأمر، وإنما يردد شائعة إخوانية لم تثبتها شهادة شاهد، تنسب إلى قطب قوله قبيل إعدامه “اللهم اجعل دمي لعنة عليه إلى يوم القيامة.. اللهم إني على دينك، وفي سبيلك، وأموت عليه.. اللهم هذا الطاغوت تكبّر وتجبّر”. وتلح أدبيات الإخوان على أن شكواه نبوءة بهزيمة 1967. وكأن الله عجز عن الانتقام من عبدالناصر إلا بهزيمة مصر، مكافأة لعدو يغتصب فلسطين.
قطب، في هذا التأخْون الكيدي، “كان علما وقرآنا.. لم يكن بشرا، لقد كان جبلا من الإيمان والصبر واليقين… سيد قطب العالم الجليل والشهيد الكريم.. أحد الأنوار الكاشفة للإيمان والغضب النبيل من أجل الله وفي سبيله… عندما دخل.. نزل.. مشى.. سحب أرواحنا.. فأصبحنا أشباحا.. موتى وهو الحي الحقيقي… لم يشفع له علمه العظيم، لم تشفع له شيخوخته الحكيمة”. شهد التاريخان الأدبي والاجتماعي بكّائين ونائحات بأجر، ولا أظن المؤلف مأجورا، بل حاقدا على عبدالناصر. ولكنه لم يكن ذكورا، فنسي أن الصحف سجلٌ لا يُطوى، وفي السجل مديحه لعبدالناصر بعد وفاته بأسبوعين، في عموده “مواقف”، 13 أكتوبر 1970، واصفا سياساته بأنها “هي الطريق”.
القارئ لا يرحم، وفقدان الثقة بمشاهير المهنة يتجاوز الأشخاص، ويهدر هيبة المهنة. اللوثة الإخوانية سابقة على سنة حكمهم لمصر. في برنامجه التلفزيوني بقناة النادي الأهلي، أكتوبر 2012، احتفل ياسر أيوب، وهو طبيب احترف الصحافة، بذكرى “ميلاد الإمام حسن البنا” الذي أدرك مدى تأثير كرة القدم، “وأسس 99 فريقا كرويا” في عموم مصر. وقارن بين البنا وهنري كيسنجر في رؤيتهما لدور الكرة كسلاح دبلوماسي. وقال “كل الناس تعرف قيمة حسن البنا دينيا وسياسيا واجتماعيا، ولكنني اليوم في ذكرى ميلاده (14 أكتوبر)، أردّ له الاعتبار كرويا ورياضيا”. وتساءل “هل تريد جماعة الإخوان الآن أن تحكم إدارة النادي الأهلي؛ استجابة لوصايا الإمام المؤسس؟”.
وفي فضائية خاصة، ظل الصحافي سيد علي يندد بمعتصمي ميدان التحرير “الرئيس مبارك خط أحمر”. ورغم المعارضة الشعبية لحكم الإخوان قال لفضائية سلفية إنه “ابن المشروع الإسلامي. أعداؤنا، أعداء المشروع الإسلامي، كتير جدا جدا جدا جدا”. وفي “اليوم السابع”، كتب الصحافي خالد صلاح في 6 يناير 2013 “يؤسفني أن بعض القوى المدنية في مصر تعيش خرافة نادرة ومزعجة ومحبطة إذ تتوهم في نفسها القدرة على الإطاحة بالتيار الإسلامي من السلطة وإسقاط النظام المؤسس على انتخابات حرة”. وتجاهل مشهد الرفض، وقال إن إطاحة الإخوان “سقوط في محظور تاريخي وسياسي وفكري… هذا الوهم خارج عن حدود التصورات المنطقية… خطر… يؤسس للمنطق الانقلابي”.
الإخوان ليسوا مجرد تنظيم، ولكنهم غواية للضعفاء، خوفا أو طمعا أو كيدا لعدو مشترك. والتأخْون خطيئة لم يغفرها القارئ للصحافة، ولم يبال بهزيمتها في واقعة الاقتحام. ومنذ مايو 2016 تقف عارية، عزلاء مجردة من رصيدها الشعبي؛ فالقارئ يقارن بين “مواقف” الكاتب نفسه، ويراه جديرا باللعنة أو التجاهل، وعليه أن يحتمل مصيره ما دام يخون الأمانة. ويرى القارئ في اختلاف السلطات وصراعها رحمة، فخارا يكسر بعضه بعضا، فينتقم الله من منافق بظالم يؤمن بالمثل القائل “شراء العبد ولا تربيته”، ولا يستحق الشفقة عبدٌ مستعد لتقديم خدماته المجانية. وليس غريبا أن يصير عابرو الأنظمة من رموز إعلام كسيح دالّ على الحالة المصرية.