السعودية تعدّل التوازنات: تحريك النفط لتثبيت النفوذ

الرياض تتحرك استراتيجيا لدعم رهانات التغيير وتبديد الصورة القديمة.
الأحد 2020/04/12
السعودية تفوز في حرب الأسعار والإنتاج

انخرطت السعودية وروسيا في مارس الماضي في لعبة مواجهة عالية المخاطر كان بيدقها إنتاج النفط. بعد شدّ وجذب بدا أن اللعبة حسمت لصالح السعودية، التي كسبت نقاطا جديدة في استراتيجيتها الدفاعية متعددة الجوانب ورهاناتها طويلة المدى. كشفت المغامرة جدية الحديث عن التغيير في السعودية وأن الأمر لا يقتصر على الإصلاحات الداخلية المجتمعية بل يغطي كل الجوانب، ومنها الحضور الإقليمي والدولي، كما أن المرور بأمان إلى مرحلة الاقتصاد غير النفطي لن يكون إلا عبر استغلال ورقة النفط بشكل جيد وناجح اليوم.

انتهت أزمة ليّ الأذرع بواسطة ورقة النفط إلى انتصار سعودي واضح سواء في مواجهة روسيا أو الولايات المتحدة اللتين اضطرتا في الأخيرة إلى القبول بمطالب السعودية والجلوس إلى طاولة التفاوض دون مكابرة أو تعال، في مؤشر قويّ على أن السعودية الجديدة بقيادة الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي العهد الأمير محمد بن سلمان قد أعادت وضع المملكة في مسار القوة الإقليمية والدولية الفاعلة بما تمتلكه من أوراق اقتصادية واستراتيجية مختلفة ستحولها في المستقبل إلى لاعب رئيسي في ملفات الإقليم.

وبدأت أزمة النفط في مارس الماضي حين دعت السعودية خلال اجتماع بفيينا إلى خفض إضافي قدّر بـ1.5 مليون برميل لمواجهة التراجع الكبير في الأسعار على خلفية انتشار فايروس كورونا، لكن روسيا رفضت الأمر، ما اضطرّ إلى تخفيض أسعار النفط المطروح للبيع لديها إلى أدنى مستوياتها.

وعزا مراقبون قرار السعودية بإغراق السوق بكميات كبيرة وما تبعها من تهاو للأسعار إلى حدود 21 دولارا للبرميل إلى كونه رسالة سياسية لدول كبرى ما زالت تتعامل مع المملكة بآليات قديمة، مفاد هذه الرسالة أن الرياض تدير القضايا المختلفة، ومنها موضوع النفط، وفق مصالحها، وأن لا أحد يمكن أن يكيّف مواقفها وفق أجنداته الخاصة.

السياسة تفجر أزمة النفط

تصريحات روسية تؤكد أن موسكو لن تتأثر بأيّ تخفيضات في إنتاج النفط
تصريحات روسية تؤكد أن موسكو لن تتأثر بأيّ تخفيضات في إنتاج النفط

إذا كانت أوبك+ التي ضمت منتجي أوبك بقيادة السعودية وأحد المنتجين البارزين من خارجها (روسيا) قد نجحت في تحقيق توازن السوق والتحكم في الأسعار، فهذا يعود بالأساس إلى التقارب السياسي السعودي الروسي في السنوات الأخيرة، وهو تقارب ناجم عن رؤية سعودية جديدة تقوم على بناء علاقات خارجية متنوعة على قاعدة المصالح المتبادلة مع العديد من الدول مثل الصين وروسيا والهند وفرنسا، وكسر الارتهان لشراكة وحيدة مع الولايات المتحدة.

جاء هذا الخيار في جانب منه ردّا على سياسة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما تجاه إيران، وهي سياسة لم تراع المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة مع حلفائها التقليديين في الشرق الأوسط في مقابل الانفتاح على طهران والتوصل إلى اتفاق حول برنامجها النووي دون أيّ التزام أميركي بإجبار الإيرانيين على تغيير أجنداتهم الإقليمية القائمة على تغذية التوترات ودعم ميليشيات حليفة لتخريب الأمن القومي للعديد من الدول بالمنطقة مثل البحرين والعراق واليمن.

ودعّمت السعودية علاقات قوية مع روسيا مع تتالي الزيارات بين البلدين وكان أبرزها زيارة الملك سلمان إلى موسكو في أكتوبر 2017، والتي استمرت أربعة أيام، وما رافقها من اهتمام إعلامي كونها تمثل انعطافة في علاقة أحد أهم حلفاء الولايات المتحدة مع روسيا. لكن تطوّر العلاقات الاقتصادية لم ينعكس على البعد السياسي في العلاقة بين البلدين وخاصة ما تعلق بمقاربة ملفات المنطقة بدءا من الملف السوري، وصولا إلى علاقة روسيا بإيران وتركيا، وهي الملفات التي أعادت البرود للدور الروسي الذي سعت دول الخليج لأن يكون عامل توازن في المنطقة.

كما أن موسكو لم تغادر مربع التعاطي مع السعودية كدولة غنية توفّر فرص الاستفادة القصوى دون أيّ التزامات تجاهها، وهي المقاربة التي دفعت الرياض من قبل إلى كسر الارتباط التقليدي مع الولايات المتحدة في فترة أوباما، فالمملكة تبحث عن تغيير صورتها من مجرّد دولة ثرية تفتح أبواب الاستثمارات أمام الدول الكبرى إلى لاعب استراتيجي مؤثر في قضايا الشرق الأوسط بسبب الإمكانيات الاقتصادية الهائلة التي تحوزها إلى جانب دورها الديني.

ويشير المراقبون إلى أن عوامل البرود في العلاقات الروسية السعودية تراكمت بشكل طال الشراكة النفطية التي تأسست مع تحالف أوبك+ في نوفمبر 2016، وكانت بدورها ثمرة تقارب سياسي استثمره كلاهما في توجيه رسائل كل بطريقته إلى الولايات المتحدة في فترة الرئيس أوباما.

واعتبروا أن النهاية الدراماتيكية لأوبك+ هي بشكل أو بآخر علامة على تراجع التنسيق الروسي السعودي في قضايا الشرق الأوسط خاصة مع استمرار موسكو في التحالف مع طهران وأنقرة وتبدد وعود الكرملين في التوصل إلى حل سياسي متوازن في سوريا مثلما روجّت لذلك الدبلوماسية الروسية في رسائل الطمأنة لدول الخليج ما بعد تدخلها في سوريا في 2015.

ولم تفلح تصريحات روسية تؤكد أن موسكو لن تتأثر بأيّ تخفيضات في إنتاج النفط، وأن لديها ما يكفي من احتياطي العملة الصعبة في إثناء السعودية عن الاستمرار في لعبة عض الأصابع إلى أن نجحت في دفع روسيا والولايات المتحدة ومنتجين آخرين إلى الهرولة بحثا عن حلّ سريع لوقف إغراق السوق وتدني الأسعار.

ضعف التعاطي مع الدور السعودي في ملف اليمن يثير استغرابا حقيقيا قياسا بحجم الإنفاق السعودي على الإعلام من أجل الدفاع عن صورة المملكة ومواقفها

وبالنتيجة، فإن السعودية خلقت صدمة قوية في الأسواق ولدى الشركاء، وبدت لاعبا محوريا تدور حوله كل الخطط والسيناريوهات في الملف النفطي.

وفي ذلك تبديد للصورة القديمة عنها كبلد ثري وواعد اقتصاديا وبلا أدوار سياسية، ما سيدفع اللاعبين في قضايا الشرق الأوسط إلى قراءة حساب هذا التطور في المستقبل.

واعتبر جون ديفتيريوس، محلل شؤون الأسواق الناشئة في شبكة “سي أن أن” الأميركية، أن الرياض وسط هذه المعركة بعثت رسالة إلى العالم مفادها أن المملكة تبقى مستعدة لفرد عضلاتها وتذكير الجميع بما ستؤول إليه الأوضاع في أسواق النفط إن قررت التوقف عن لعب دورها في الحفاظ على استقرار أسعار الخام والحيلولة دون إغراق الأسواق.

وغادر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أزمة النفط الحالية أسلوبه القديم في الدفع بالوزراء والمسؤولين الروس للتواصل وحلحلة القضايا، وأجرى في أقل من 24 ساعة اتصالين، الأول كان مع الملك سلمان في شكل اتصال ثلاثي بمشاركة ترامب، والثاني مباشر مع الأمير محمد بن سلمان في مسعى للتوصل إلى حل سريع وتبديد مخاوف السعودية بشأن الحصص الخاصة بالتخفيضات، خاصة ما تعلق بتلكؤ المكسيك.

وقال الكرملين، الجمعة، إن بوتين بحث مع الأمير محمد بن سلمان خفض إنتاج النفط الذي تعتزمه أوبك+، وإنهما اتفقا على مواصلة الاتصالات في هذا الصدد.

لم يكن الرئيس الروسي وحده من سعى لتبديد غضب الرياض، فقد سبق الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى لعب دور الوسيط لجسر الهوة بين السعودية وروسيا في أزمة إغراق السوق، لكن هذه الوساطة ليست في الواقع سوى تحرّك لإنقاذ مصالح الولايات المتحدة كبلد منتج ومصالح الشركات الأميركية الكبرى العاملة في مجال النفط التي تنادت للاجتماع مع ترامب لبحث سبل إيقاف تهاوي الأسعار والتحذير من استمرار الأزمة.

وبددت تصريحات ترامب ووزير الطاقة دان برويليت الاتهامات الموجهة إلى واشنطن بأنها تقف وراء أزمة إغراق السوق من خلال الإيعاز للسعودية بذلك في سياق تسجيل النقاط على موسكو بسبب خلافات تقليدية بشأن أوكرانيا وسوريا والصراع مع الناتو وقنوات الغاز إلى أوروبا.

تبديد الصورة القديمة

بيل كاسيدي العضو بمجلس الشيوخ يقدم مشروع قانون لسحب القوات الأميركية من السعودية
بيل كاسيدي العضو بمجلس الشيوخ يقدم مشروع قانون لسحب القوات الأميركية من السعودية

بات واضحا أن الرياض تصرّفت بقرار يخصّ مصالحها وحساباتها، وأن علاقتها بواشنطن خرجت بصفة نهائية من دائرة المجاملة والأخذ بالخاطر إلى ملعب المصالح وتبادل المنافع، وكسرت الصورة التقليدية التي تروّج لها وسائل إعلام غربية في سياق ابتزاز المملكة ومحاولة الإبقاء عليها في دائرة التحكم والتوظيف في المعارك الخاسرة.

وتحرّكت الدوائر المعادية للسعودية في الولايات المتحدة، وهي دوائر في أغلبها تشتغل لحساب منافسين إقليميين مثل إيران وتركيا، لمهاجمة المملكة والدعوة إلى إجراءات عاجلة لمعاقبتها وإجبارها على مراجعة سياستها النفطية، وإظهار أنّ ما يجري من صراع في ملعب النفط يستهدف بالأساس ضرب الشركات المنتجة للنفط الصخري في الولايات المتحدة، وأن هناك تواطؤا بين الرياض وموسكو لضرب هذا القطاع الناشئ الذي لا يتحمّل تبعات نزول أسعار النفط إلى ما دون 50 دولارا.

وقال كريستيان مالك، رئيس قسم أبحاث النفط والغاز لأوروبا والشرق الأوسط وأفريقيا لدى جيه بي مورجان، إن هذه الأزمة “تكشف عن أن السعودية ليست راغبة في دعم منتجي النفط الصخري وغيره. (إنهم) يعجّلون التباطؤ في النفط الصخري”.

وأيّا كانت نوايا السعودية من إثارة أزمة النفط، وهل هدفت إلى ضرب خيار النفط الصخري كبديل مستقبلي في المدى المنظور، فإن خطتها حرّكت لوبيات الابتزاز المعروفة، التي دأبت على التلويح بأوراق من مثل استدعاء القوات الأميركية الموجودة في الرياض، أو وقف تزويد المملكة بالأسلحة، أو استدعاء قانون جاستا (المتعلق بتفجيرات الـ11 من سبتمبر 2001).

وقدّم بيل كاسيدي، العضو بمجلس الشيوخ، مشروع قانون، الخميس، لسحب القوات الأميركية من السعودية معتبرا أن النفط السعودي الإضافي جعل من المستحيل على شركات الطاقة الأميركية، أكبر منتج للنفط والغاز في العالم، أن تنافس في السوق.  وأضاف أن “سحب القوات الموجودة لحماية آخرين إقرار بأن الصداقة والدعم طريق ذو اتجاهين”. لكن مشروع قانون كاسيدي سيواجه معركة صعبة وسيتعين عليه الحصول على موافقة مجلسي الشيوخ والنواب ثم إقرار الرئيس ترامب ليصبح قانونا.

ويعتقد المتابعون للجدل داخل الولايات المتحدة بشأن أزمة النفط أن السعودية نجحت في إظهار نفسها قوة حقيقية تحتاج الولايات المتحدة إلى كسب ودّها وبناء علاقة متوازنة معها على قاعدة المصالح، وأن صورة السعودية في المخيال الأميركي القديم القائمة على ضخ الأموال لاسترضاء واشنطن تتغيّر بسرعة وتصبح من الماضي خاصة بعد أن نجحت بهدوء في تجاوز عاصفة خاشقجي دون تنازلات أو خضوع للابتزاز.

تغيير الأدوات

جدل أزمة النفط خدم السعودية بقوة
جدل أزمة النفط خدم السعودية بقوة

لا شك أن جدل أزمة النفط خدم السعودية بقوة وأعاد تشكيل صورتها كقوة فاعلة في أنظار الروس والأميركيين، ما ستكون له نتائج مهمة في المستقبل على التوازنات في الشرق الأوسط.

لكن الأمر لا يقف هنا، فالرّياض تحتاج إلى تأكيد هذه المنزلة بأن تذهب أبعد ما يكون في معالجة مخلفات الصورة القديمة التي ما تزال ترتسم في الغرب بشأن قضايا التشدد وحقوق الإنسان ووضع المرأة مع أن السعودية الجديدة قطعت خطوات مهمة على الأرض باتجاه تجذير إصلاحاتها المجتمعية بتقليص نفوذ المتشددين داخل أجهزة الدولة من خلال تفكيك أخطبوط هيئة “المطاوعة” وتعديل القوانين المجحفة التي كانت تمس من حقوق المرأة وصورتها.

لكن الصورة الجديدة لم تخرج بعد إلى الغرب، وحتى في المحيط الإقليمي ما تزال مثار شكوك بسبب قصف إعلامي للمتشددين الذين يمسكون بآلة إعلامية كبيرة من خلال نفوذهم على مواقع التواصل وفق استراتيجية متعددة الوسائط والأشكال، لكنها تلتقي في إثارة المزيد من الشكوك بشأن ما يجري في السعودية والتلبيس على الإصلاحات في وقت لم يخرج فيه الإعلام السعودي بعد من دائرة ارتباكه وأساليبه القديمة وتجنب مناقشة الدعاوى في العلن ودحضها، والاتكاء على وسائل إعلام غربية للعب دوره في الدفاع عن بلاده.

يعرف السعوديون، ولديهم حضور طاغ في مواقع التواصل الاجتماعي، كل التفاصيل عن الاتهامات الموجهة إلى بلادهم، والأفضل للإعلام السعودي الرسمي، الذي تغدق عليه الدولة الكثير، أن يتولى تبديد تلك التهم بمناقشتها بشكل مفصّل وبناء استراتيجية إعلامية واضحة المعالم للتسويق للإصلاحات التي يتولاها الأمير محمد بن سلمان، خاصة ما تعلق بمقاومة التشدد والتخلص من صورة الدولة المنغلقة على ذاتها، والترويج لمشاريع الانفتاح والتسامح الديني والتصالح مع حقوق الإنسان.

قد تكون خطى الإصلاحات أسرع من خطوات إعلام تعوّد على التعليمات والتغيير الموجّه، لكن المثير للتساؤل هو الاكتفاء بإيكال مهمة مواجهة الخصوم، خاصة من جمهور جماعة الإخوان المسلمين والقاعدة وداعش وإعلام قطر، إلى نشطاء مواقع التواصل الذين يغلب عليهم الحماس وغياب الحجة وأدوات الحوار ما قد يحوّل دورهم إلى عنصر سلبي، فيما يكتفي أغلب الإعلام الرسمي بالمشاهدة وتجنب المواجهة، وكأنه لم يحسم أمره بعد أو ما يزال تحت تأثير النفوذ القديم للمتشددين.

وإذا كان لتواضع الأداء الإعلامي في ملفات الداخل مبررات تتعلق بعدم القدرة على التخلص من الأداء التقليدي القائم على المديح، فإن ضعف التعاطي مع الدور السعودي في ملف اليمن يثير استغرابا حقيقيا قياسا بحجم الإنفاق السعودي على الإعلام من أجل الدفاع عن صورة المملكة ومواقفها، خاصة أنها تواجه أعداء متعددين وبأجندات مختلفة لكنها تلتقي في استهداف المملكة ومنعها من لعب الدور الإقليمي القادر على مواجهة مشاريع إيرانية وتركية وغربية، فضلا عن مواجهة الإرهاب كونه المعركة الأولى التي على السعودية أن تربحها لتبديد الصورة القديمة التي من بوابتها يتم استهداف المملكة وابتزازها.

6