السخرية لم تعد سلاحا فتاكا

أين ذاك "التعايش المخصب اللطيف" بين الدمعة والابتسامة مثل ما كان يحدث في حرب لبنان مثلا.
الثلاثاء 2022/03/15
أجمل ما في الحرب هو أن تتوقف

مدافع الحرب الدائرة في أوكرانيا حسمت الأمر لصالح الحيرة والخوف والرعب مما حدث وسوف يحدث.

فشل كل من حاول تطرية المشهد وإضحاك جمهور المتابعين عبر إطلاق نكتة سمجة، ذلك أن عيون العالم ورقابه وجميع جوارحه مشدودة إلى قمح أوكرانيا وغاز روسيا قبل جمال نساء الأولى وقوة تأثير فودكا الثانية.

السخرية من الحروب والأزمات بكل ما تخلّفه من مآس إنسانية لم تعد مجدية بل صارت ضربا من السماجة وقلة الحياء.

لم تعد النكتة سلاحا فتاكا في مواجهة هذا الدمار البشري. فقدت الأقلام الساخرة قدرة الرد على الرصاص الحقيقي بالرسم وبالكلام، وتخلى المتهكمون عن دورهم الطليعي في "جبهات الصمود والتصدي" أمام هول ما يحدث.

لا يمكن أن نرش على الموت سكّرا، وليس بوسع الواحد، مهما كانت قدرته على الضحك والإضحاك، أن يبخّ المعطرات الكاذبة في هذا الجو المعفر برائحة القتل والدمار.

لا يمكن أن نرش على الموت سكّرا، وليس بوسع الواحد، مهما كانت قدرته على الضحك والإضحاك، أن يبخّ المعطرات الكاذبة في هذا الجو المعفر برائحة القتل والدمار

يبدو أن الأزمنة التي كانت تولد فيها الابتسامة من رحم الفجائع قد ولت إلى غير رجعة، وبات فن الكاريكاتير مقطّب الوجه، عديم الخيال يسابق الواقع فلا يلحق به إلا على شكل ملامح باهتة تثير الملل والغثيان.

أين منّا تلك الأزمات التي تثير فينا شهية السخرية والضحك؟ أين ذاك "التعايش المخصب اللطيف" بين الدمعة والابتسامة مثل ما كان يحدث في حرب لبنان مثلا، فعلى الرغم من التمزق الذي أصاب السلم الأهلي، إلاّ أن المفارقات الطريفة لم تغب من تحت سماء بيروت.

كانت تطلق نكتة مع كل قذيفة، ويطلع كتاب أو أغنية بعد كل قنبلة تنفجر.. ومع ذلك، فأجمل ما في الحرب هو أن تتوقف.

وفي هذا الصدد، أتذكر ما رواه لي الصديق المرحوم الكاتب السوري الساخر وليد معماري، إذ كان ضمن كتيبة مدفعية في حرب أكتوبر 1973 مع مجنّد مدمن على إطلاق النكات تحت القصف. وفي إحدى الغارات تمكنت القوات المعادية من دك الموقع، استشهد كثيرون، وبعد انقضاء الغارة بدأوا بإسعاف الجرحى وإحصاء القتلى فمسك هذا المجند برأس رفيقه المقطوع وتوجه بالسؤال إلى زملائه "رأس مين يا شباب؟ في حدا منكم ضيّع رأسه؟".

إنها هستيريا الحرب في أقصى حالاتها، والإصرار على الحياة في قضية يعتقد أصحابها أنها عادلة.

اليوم، فقدت السخرية معناها ونكهتها وبريقها، وأصبحت لا تسخر إلا من نفسها، بالإضافة إلى أن لا وظيفة ترجى منها سوى العبث، تماما مثل حوارات الرؤوس المقطوعة والوقفات الاحتجاجية للجثث المتدلية من أعمدة المشانق.

أمام هذه الحالة السديمية التي نعيشها اليوم، والتي تنعدم فيها الملامح، أصبح ينطبق على البشرية قول الأخطل الصغير "يـبـكـي ويـضـحـك لا حزنا ولا فرحا كـعـاشـق خـطَّ سطرا في الهوى ومحا".

20