السجين والخال

فكرة الخلاص من السجن تكبر في عقل كل سجين.
الأحد 2021/09/12
فرار ناجح من سجن ”الخزنة الحديدية”

تكبر فكرة الخلاص من السجن في عقل كل سجين. وقد مرت في حياة الفلسطينيين في سجونهم وقائع فرار ومحاولات فرار، منها ما يندرج في خانة الدراما التي تستحق الإنتاج السينمائي، وأخرى لا تخلو من نهايات طريفة. وللتسرية عن النفس الحزينة، بإعادة اعتقال الأسرى الفلسطينيين الذين أنجزوا عملاً إعجازياً، بالخروج من سجن محصّن يوصف بـ”الخزنة الحديدية” إذ انسلّوا من فتحة نفق طويل، ثابروا على حفره لمدة سنة؛ تذكرت حكاية مختلفة لمحاولة فرار نجحت لكنها انتهت بشكلٍ طريف لا يخلو من نُبل ومروءة!

كان صديقي متطيراً من السجن، على الرغم من محدودية المدة التي سيقضيها فيه. اهتدى إلى خطة للفرار تبدأ بمبادرة من زوجته، إذ أقنعها بأن ترفع ضده قضية طلاق مع استرجاع حقوق، وذلك نوعٌ من القضايا أطرافها يمثلون أمام قاضي الصلح المحلي بحراسة الشرطة المدنية المحلية. فقد أضمر صديقي الفرار من قاعة المحكمة، وسيكون إطلاق النار عليه صعباً لأسباب عشائرية أو وطنية كامنة في أعماق الشرطي، وعندئذٍ يسهل الفرار. استمرت إجراءات رفع القضية شهوراً، ولما حان موعد التقاضي، نُقل السجين مخفوراً بعربة عسكرية للاحتلال. وفي مركز شرطة خان يونس، سلمه الإسرائيليون لمركز الشرطة المحلية، لكي تنقله بدورها إلى محكمة الصلح. ولم يكن صاحبي، في مرحلة التخطيط، يفكر في تداعيات ما بعد الفرار على الشرطة من أهل البلد، ولم يطرأ على ذهنه ما سيحدث لهم بعد أن يفر من بين أيديهم. فهؤلاء كانوا بعيدين عن الفكرة، ولا استحضار لأصواتهم وردود أفعالهم في مخيلة الراغب في الفرار!

وصل السجين إلى قاعة المحكمة مخفوراً من عناصر محلية. وعند بدء التقاضي، قفز السجين من القاعة إلى فناء المحكمة ثم تخطى السور المنخفض، وأطلق ساقيه للريح. تصادف أن للشرطي الأقرب إليه علاقة خؤولة معه، لذا كان حريصاً على ملاطفته والسؤال عن صحته والدعاء له بالثبات والصبر والفرج القريب. وبعد أن أصبح السجين في الشارع، ركض الشرطي وراءه منادياً “يا خال.. لا تخرب بيتي يا خال”، ثم “إرحم أولادي يا خال، أنت ابن حلال لا ترضى بقطع رزقهم يا خال”. ظل السجين يركض، والشرطي وراءه ينادي، ثم بدأ هذا الأخير يتعب، وتحول صياحه إلى ما يشبه العويل “تعبت يا خال.. أرجوك أنت محترم ولا ترضى أن تستريح على أنقاض حياتي”. عندئذٍ انهارت قوى الشرطي المتقدم في السن، وانطرح أرضاً، وبدا الفرار ناجزاً. التفت السجين إلى الوراء وتوقف. تأمل حال الخال، فخالجه إحساس بأنه يرتكب إثماً وأن أسرة من بلاده ستكون ضحيته. فالرجل محض شرطي قديم، من أيام الإدارة المصرية، وأحد الذين أبقت عليهم سلطة الاحتلال العسكرية لحفظ النظام وتسيير حركة مرور المركبات. عاد السجين إلى الشرطي المطروح أرضاً. عانقه بحرارة، وأجهش الرجلان بالبكاء، واحد على فشل محاولة الفرار بتأثير عاطفة طيبة، والثاني بسبب النجاة من خراب البيت، مع التأسي على السجين الذي منحه فرصة الاستمرار في تحصيل رزقه، ولو كلفه ذلك سجناً لعدة سنوات. تشابكت أيديهما عائدين إلى قاعة المحكمة، وكانا يتبادلان أطراف الحديث. الشرطي يقول إنه خاف على السجين من الملاحقة التي ربما تنتهي بقتله، والسجين يقول إنه لا يخشى الموت، لكنه شعر بصعوبة الإضرار بالخال وبرزقة وبأولاده. رسم الإثنان، في حديثهما القصير، معادلة صعبة، واكتشف السجين أنه ركز على الفرار ولم يحسب لما بعده. فالحرية كانت عنده هي الأهم.

 
24