السبسي وخطاب الوداع

على مدى سنوات وعقود التحرر الوطني والاستقلال وبناء الدولة، أنجبت تونس الكثير من رجالات الدولة وصانعي المؤسسات الوطنية، والكثير أيضا من المعارضين السياسيين الذين ناضلوا ضد أحادية وشمولية الأنظمة السياسية الاستبدادية، ولكنها في المقابل أنجبت “قلة قليلة” من رجالات الدولة القادرين على لعب دور المعارضة القوية، والمعارضين القادرين على أن يتمثلوا الدولة فكرا وممارسة.
ينتمي الباجي قائد السبسي إلى هذه “القلة القليلة” من الفاعلين السياسيين في البلاد، فالرجل تملك منطق الدولة على مدى عقود من الزمان، كما أنه أدى بشكل حصيف دور المناوئ لمنظومة الحكم إبان حكم الترويكا.
يكفي أنّ الرجل أسس كتلة تاريخية تحت مسمى “نداء تونس” فرضت التوازن في المشهد السياسي في البلاد، وأجبرت حركة النهضة على القبول بمعادلات جديدة في اللعبة السياسية.
اقترف قائد السبسي أخطاء وهفوات في الحكم، كما في المعارضة، ولكنه بقي رقما صعبا وشخصية سياسية استثنائية صنعت الفارق عندما انحسر الهامش وخلقت البديل عندما عزّت الخيارات.
ويبدو أن الخيارات التي عزت على البلاد والعباد، في سنوات الربيع العربي، استحكمت اليوم على قائد السبسي الذي اختار المؤتمر الانتخابي لحزب نداء تونس للإعلان عن عدم رغبته في الترشح لولاية رئاسية ثانية.
المتابع لخطاب قائد السبسي السبت في مدينة المنستير، يلاحظ أنّ الخطاب اصطبغ بطابع التوديع الناعم والهادئ، وارتسم بسمات الوصايا السياسية، من شخصية تنفيذية حاكمة عجزت عن التنفيذ والحكم، وقصرت عن تأمين الفعل المرتقب في ظلّ منظومة حكم مستعصية.
لا أحد يجادل في إدراك الرئيس الباجي قائد السبسي أن السن يمثل حاجزا أمام الترشح للرئاسية، وورقة سياسية رابحة لأعدائه في حال أقدم على الخطوة، ولا أحد يجادل أيضا في معرفة السبسي بأن هذا السياق هو سياق أحقية الشباب في الوصول إلى مقاليد السلطة، وقد برهنت الانتخابات البلدية على هذا المعطى.
ولئن سلمت بمصداقية هاتين المقدمتين، إلا أنهما تبقيان عاجزتين عن استيفاء المسألة واستيعاب سؤال إحجام قائد السبسي عن الترشح للانتخابات الرئاسية في 2019 رغم أنّ فعل الزمن المتقدم وطموحات الشباب كانت ماثلة أمامه في 2014؟
سعى قائد السبسي إلى تغيير التوازنات والمشهدية السياسية من خلال استبدال ميكانزمات الحكم في البلاد، كان شعاره الأساسي تحويل النظام من هجين إلى رئاسي صرف، وفق النموذج الفرنسي أو الأميركي.
لتحقيق هذا الأمر كان لا بد له من فرضيتين، إما تحقيق الغالبية البرلمانية القادرة على تغيير الدستور، وإما إقناع حركة النهضة بالمشروع، وفي الحالتين عجز قائد السبسي عن تحقيق المبتغى. فلا حزب نداء تونس قادر اليوم على تنظيم مؤتمر انتخابي مقنع للجمهور قبل الخصوم، ناهيك عن فرض كلمته في البرلمان، ولا النهضة مقتنعة بتغيير الدستور سيما وأن النظام الحالي يسمح لها بالسيطرة على جوهر الحكم في البرلمان، وتوزيع البيض السياسي على كافة سلل المتسابقين على قصر قرطاج.
ولأن الولاية الرئاسية الأولى أثبتت للباجي قائد السبسي أنّ الرئيس في العهد الجديد، مماثل تقريبا لوضعية الملوك في الديمقراطيات الغربية، غير أنه لا يورث لأبنائه وأحفاده، فلا يبدو أنّ قائد السبسي متحمس لتجربة سياسية تجعل منه رئيسا على جمهورية تدار دواليبها بين مقرات الأحزاب وبعيدا عن سمعه وبصره ويده.
كما أن الوضعية الصعبة التي عليها نداء تونس، تجعل من الأخير حصانا سياسيا خاسرا لأي مرشّح، فما قيمة الوصول إلى الرئاسة والغالبية البرلمانية لدى حزب آخر، وما قيمة الأحزاب التي تقام على شخصية وكاريزما الفرد، في حين أنّها عاجزة عن الحشد وصناعة الرأي العام. وهنا أيضا لا يبدو أيضا أن قائد السبسي متحمّس لاستدرار نموذج البطة العرجاء الحاكم اليوم في البلاد، حيث أنّ الرئيس من لون سياسي ورئيس الحكومة من لون ثان والغالبية البرلمانية من لون ثالث.
حيال هذا الواقع اختار قائد السبسي أن ينسحب بهدوء، دون هزيمة انتخابية صريحة أو انتخاب يورث هزيمة في الصلاحيات والمشمولات، أو إشارة من طرف خفي بأن الدرس الجزائري درس بليغ لمن نسي سطوة الزمان وسيطرة العمر.