السبسي وحوار الحيرة

من الواضح أن مناخا من انعدام الثقة بات يسيطر على العلاقة بين حركة النهضة والسبسي، وهي وضعية من الصعب أن تتواصل إلى حدود الانتخابات الرئاسية القادمة.
الأربعاء 2018/09/26
القطيعة مع الحليف

في الوقت الذي انتظر الكثير من التونسيين الإطلالة التلفزيونية للرئيس الباجي قائد السبسي قصد تقديم رسائل طمأنة ورسم أفق للحلول، زاد الحوار من مناخ الريبة والقلق المثقل للمشهد الوطني في كافة زواياه ومفصلياته.

ولأول مرة يظهر السبسي في ثوب المحلل السياسي أكثر من رئيس الدولة. فالرجل عكف على توصيف المشهد وتحديد المخاطر الاقتصادية والاجتماعية وتشخيص الأزمات السياسية العاصفة بالحكومة وبحزب نداء تونس، مع الإسهاب في السرديات التاريخية الموغلة في القدم والتطرق إلى الأبيات الشعرية، فيما كان المطلوب منه إحداث الرجّة الإيجابية لتغيير المشهد وأخذ زمام المبادرة عبر إطلاق المقترحات اللازمة لحل الأزمات المركبة والمتراكمة على البلاد.

وحتى المزيّة الوحيدة المميزة للمشهد السياسي التونسي الكامنة في مقولة التوافق، أطلق عليها السبسي رصاصة الرحمة من خلال التأكيد بأن التوافق بينه وبين النهضة انتهى بطلب من الأخيرة، الأمر الذي نفته النهضة في وقت لاحق.

ودون دخول في معترك التكذيب أو التصديق، وبمنأى عن حرب البيانات بين الجبهات السياسية على خلفية هذا الموقف، فإنه من الواضح أن مناخا من انعدام الثقة بات يسيطر على العلاقة بين النهضة والسبسي، وهي وضعية من الصعب أن تتواصل إلى حدود الانتخابات الرئاسية القادمة، ومن المستحيل بناء عليها تحالفات جديدة برسم نتائج الاستحقاق الاقتراعي.

يدرك السبسي أن النهضة بدأت تفكّر جديا في حصان جديد للسباق الرئاسي، وأن جزءا من التحالفات القائمة حاليا يرسم هذا الرهان، وكما وضع توافق خريف عام 2013 بين راشد الغنوشي والسبسي اللبنات الأولى لمشهد برلماني ورئاسي في 2014، يرى السبسي كيف تهندس النهضة مشهد 2019 بتوافق تحت الطاولة في 2018، مرّة مع الشاهد وأخرى مع فريق الغاضبين والمغادرين لسفينة آل السبسي. وكما رفعت النهضة في 2013 الفيتو بوجه قانون إقصاء التجمعيين وضد تسقيف سن الترشح للانتخابات الرئاسية من أجل التمهيد للتحالف مع السبسي في 2014، ترفع اليوم الفيتو في وجه إسقاط يوسف الشاهد وتضمن له حزاما برلمانيا بإدراك منها، أو هكذا يتصور السبسي، أنّه الأقرب لخلافة “السبسيين”، الابن في الحزب والأب في قرطاج.

الفرق بين السياقين أنّ الرئيس السابق المنصف المرزوقي الذي كان يتجرّع كأس السم وهو يرى بأم عينيه تفتّت حزبه وتحالف النهضة مع عدوه اللدود آنذاك، آثر الصمت والخروج من بوابة الشرعية الانتخابية، في حين أن السبسي اختار أن يعلن القطيعة مع النهضة وأن يدفع بالأسباب والمقدمات التي تظهرها النهضة نحوه إلى نهاياتها.

صحيح أن النهضة نفت أي قرار رسمي بإنهاء التوافق مع السبسي، وصحيح أيضا أن الأخير تحدّث بشكل نسبي وترجيحي عن القرار، لكن الأكيد أن حالة من التشرذم والتباين باتت ترسم علاقة الطرفين، وهي حالة يصعب جسر هوتها في حال وجود إرادة التوافق فما بالنا بعدمها.

في الجزء الثاني من المشهد، صورة مترهلة ومتهاوية لحزب سياسي يفقد كل يوم شعبيته وشرعيته ومشروعيته في الحكم، وتتساقط عليه الاستقالات باطراد، مرة تحت عنوان التوريث المقنع وأخرى برسم محدودية الكاريزما السياسية لدى السبسي الابن، وهو واقع تعيس لا يشجّع الأطراف السياسية، ومنها النهضة، على الاستمرار في التحالف.

حيال هذا الواقع، ترتسم أسئلة محيّرة، كيف سيتعايش رأسا الحكم التنفيذي (الحكومة والرئاسة) وهما متنافران، وكيف ستكون العلاقة بين النهضة والسبسي خلال الفترة المتبقية قبل الانتخابات الرئاسية؟ وما مدى قدرة منظومة حكم مترهلة على أن تصمد أمام الأزمات الاجتماعية القائمة والقادمة؟ وهل أن المؤتمر الذي بشّر به السبسي سيكون قادرا على رص صفوف الندائيين من جديد؟ وهل يمتلك النداء الشخصيات الوازنة القادرة على جمع الندائيين في مؤتمر واحد؟ ثم ألا تحتاج تونس اليوم إلى رباعي أو خماسي جديد للحوار بين الفرقاء السياسيين؟

في وقت الأزمات تصير الأسئلة أكثر أهمية من الأجوبة، وأصعب الأسئلة التي يرددها الرأي العام التونسي دون أن تجد إجابة لدى السياسيين ورجالات الدولة هي تونس إلى أين؟

9