"الروبة" رؤية سوداوية لواقع العدالة في تونس ما بعد الثورة

المسرحي التونسي حمادي الوهايبي يواصل النبش في القضايا المسكوت عنها اجتماعيا وسياسيا في تونس.
السبت 2021/01/30
محاكمة مسرحية للسلطة القضائية
 

استكمل المخرج المسرحي التونسي حمادي الوهايبي عبر عرضه المسرحي الجديد “الروبة” الذي قدّمه مؤخرا في فضاء التياترو بالعاصمة تونس ثلاثيته المسرحية، التي انطلقت في العام 2015 من خلال مسرحية “الصابرات”، تلتها مسرحية “جويف” في العام 2018، وأخيرا “الروبة”، مواصلا النبش في القضايا المسكوت عنها اجتماعيا وسياسيا في تونس ما بعد ثورة 14 يناير 2011.

تونس – على امتداد ساعة و15 دقيقة قدّم مركز الفنون الدرامية والركحية بالقيروان، في فضاء التياترو بالعاصمة تونس، مؤخرا، عمله المسرحي الجديد “الروبة” (عباءة المحاماة) عن نص وإخراج للمسرحي التونسي حمادي الوهايبي، وتمثيل كل من محمد شوقي خوجة وسامية بوقرة ونورالدين همامي وخلود بديرة وعواطف العبيدي ولطفي المساهلي.

تنطلق أحداث المسرحية من الصورة الراسخة في ذهن كل الذين يمرّون من أمام مقرات المحاكم وبهوها؛ قضاة ومحامون يسرعون الخطى إلى قاعات الجلسات، متقاضون من مختلف الأعمار في حركة دؤوبة يمشون جيئة وذهابا في هذا الاتجاه وذاك، كل يبحث عن مقصده.

وفجأة يحصل ما يشبه الانفجار، تتساقط الأسقف والحيطان، موتى وجرحى ودماء كثيرة تغمر الفضاء، يتعالى الصراخ من هنا وهناك، الكل تحت وقع الصدمة والذهول لا يصدّق ما الذي حصل؟

يعود الهدوء إلى الخشبة، لكن في زاوية أخرى من فضاءات المحاكم والجلسات، حيث يكتشف بعض الناجين من الانفجار، محامين وقضاة وموقوفين ومتهمين، أنهم أسرى في دهاليزها، ينتظرون مصيرهم المحتوم، ربما الموت والفناء واللحاق بضحايا الانفجار في الأعلى، أو النجاة من مأزق الحصار الذي وجد السداسي نفسه فيه عنوة؛ أربعة محامين وقاضية ومتهم.

في القبو، تتحرّر الشخصيات من كل القيود وتنتفي كل الاعتبارات الإدارية والأخلاقية، وتنطلق حكاية تبادل كشف المستور بين فضائح وحقائق، في علاقة أصحاب العباءة السوداء ببعضهم البعض أو في علاقتهم بالمتهم الذي يصبح هو سيد الموقف والمسيطر على المحامين الأربعة والقاضية العالقين جميعا في القبو والساعين إلى الخلاص منه.

ومن هناك تنطلق المسرحية في سرد معقّد يكشف بعضا من الأفكار السائدة التي كان يحملها المواطن التونسي تجاه سيادة السلطة القضائية بالبلد قبل ثورة 14 يناير 2011، ومدى خضوعها لسطوة الرجل الواحد، في مقارنة بما شابها من فساد أفقدها هيبتها وقدسيتها إثر الثورة.

حمادي الوهايبي: العرض محاولة لإثارة النقاشات حول ماهية العدالة في تونس
حمادي الوهايبي: العرض محاولة لإثارة النقاشات حول ماهية العدالة في تونس

لتبدو العدالة التونسية في الحالتين وفي زمنين مختلفين، ما قبل الثورة وما بعدها، غير مستقلة، مهترئة ومنتهكة تحكمها الإملاءات والمحسوبية والمصالح الذاتية والفئوية الضيقة.

تداع حرّ بين السداسي أملاه هذا الحصار الذي لا تُعرف له نهاية، فالقاضية التي تعوّدت إصدار حكمها على المتهمين إما بالسجن أو السراح تجد نفسها مسجونة مع متهم، هو الوحيد العارف بمسلك الخروج من الدهليز العميق، فتنقلب الأدوار ليغدو المتهم ماسكا بزمام حريته، والقاضية ومن ثمة المحامون الأربعة خاضعون لسطوته المبشّرة بحريتهم.

إرباك بين المحامين الأربعة وتراشق بالتهم وكشف للفضائح المهنية والأخلاقية، التي لم تستثن أيّ رذيلة ممكنة: هتك للأعراض، فساد مالي وإداري، رشاوى، اتجار بأرزاق الناس وحيواتهم حتى البسيطة منها كالحق في الميراث والطلاق وغيرهما من القضايا المسكوت عنها طرحتها المسرحية بجرأة مربكة للسلطة القضائية والتنفيذية، وربما التشريعية أيضا وإن رمزيا، ليسائل المسرح السلطات الثلاث في سعي ضمني إلى إعادة هيكلتها ومراجعتها وفق مشهدية بصرية كان بطلها الأول اللون الأسود، لون عباءة المحامي والقاضي على السواء.

واللون الأسود بدا طاغيا على الخشبة عبر الملابس والإضاءة والديكور في إحالة رمزية إلى سوداوية المشهد القضائي وما يكتنفه من لبس وانسداد لأفق الانفراج والتغيير، طالما لم يتحرّر من سلطة الوعد والوعيد.

وعن المسرحية يقول كاتب نصها ومخرجها حمادي الوهايبي “العرض محاولة لتحريك السواكن وإثارة النقاشات والتساؤلات حول ماهية العدالة ومدى التزامها بقدسية دورها في زمن بات فيه الكل يصارع الكل، وهذا في رأيي من أوكد مهام المسرح”.

ويؤكّد الوهايبي أن مسرحية “الروبة” أتت استكمالا لثلاثيته، بعد “الصابرات” و”جويف” (يهود) اللتين أنتجهما مركز الفنون الدرامية والركحية بالقيروان في العامين 2015 و2018 على الترتيب، في سعي من المركز الذي يشرف على إدارته، إلى الغوص عميقا في القضايا الاجتماعية والسياسية المسكوت عنها بشكل مسرحي جمالي، وهو الذي تطرّق في مسرحية “الصابرات” (إنتاج 2015) إلى مصير بائعات الهوى عندما أغلقت أبواب المواخير إثر هجمة المتطرّفين دينيا عليهنّ في العام 2012، بدعوى تطهير المجتمع من سوءاتهنّ.

في حين ناقش في مسرحية “جويف” (إنتاج 2018) مدى إمكانية التعايش السلمي بين غالبية المجتمع التونسي المسلم مع الجالية اليهودية المقيمة بالبلد منذ مئات السنين، في سعي إلى دحض النظرة الدونية التي تكنّها الغالبية تجاه الأقلية، رغم عشق هذه الأخيرة لتونس والدفاع عنها وعن تاريخها.

وحمادي الوهايبي فنان مسرحي درس في المعهد العالي للفن المسرحي بتونس، درّس في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالقيروان، قبل أن يشرف على إدارة مركز الفنون الدرامية والركحية بالقيروان، وهو إلى ذلك كاتب عام لاتحاد الممثلين المحترفين ورئيس سابق لجمعية مهرجان ربيع الفنون الدولي بالقيروان، ويستعدّ حاليا لإصدار كتابه الأول “مسارات النقد المسرحي في تونس”، كما قدّم العديد من الأدوار التمثيلية في مجموعة من المسلسلات التونسية على غرار: “عاشق السراب”، “قمرة سيدي محروس”، “الريحانة”، “شورّب” و”إخوة وزمان” وغيرها.

14