الرواية والفيلم جدل في سرديّات الأزمنة الحديثة

جدل الإعداد السينمائي للرواية يبقى قائما بشأن النقاش حول أي مستوى كان الفيلم أمينا في نقل الرواية إلى الشاشة.
الأحد 2021/03/14
الرواية قدمت أعمالا عظيمة للسينما (فيلم 1984)

تبحث السينما عن موضوعاتها وقصصها من الحياة ومن مصادر شتى، ولا تتوقف عن بحثها عن محتوى سردي ودرامي وقصصي رفيع ومؤثر لتقدمه إلى جمهور متعطش للترفيه من جهة ومتعة الاكتشاف من جهة أخرى.

لهذا تتجدّد صلة الرواية بالفيلم ولا تنقطع تلك العلاقة العميقة بين أرقى نوعين إبداعيين، هما قمة ما أبدعه العقل البشري حتى الساعة، ولا يزالان يتربّعان على القمة في قدرتهما الفائقة على التفاعل مع الحياة والتغلغل في مسالكها المعقدة والمتشعبة.

من السرد إلى الوصف إلى الشخصيات والحبكة والزمان والمكان، هي محطّات لا بد أن يمرّ بها مبدعو كلا النوعين التعبيريين والوسيطين الجماليين، هو جدل الأزمنة الحديثة ما بين النوعين الإبداعيين.

وبكل ما يحملانه من صورة وإرث وسيرة للإنسان، يريد الفيلم من الرواية قوة التعبير وما هو مرئي ومُدرك وحسّي بصفة عامة، وليس باطنيا وذهنيا، وتريد الرواية من الفيلم الحفاظ على مكوّناتها الأساسية، في وقت يبسط بعض الروائيين العلاقة بأن الرواية ما هي إلا فيلم يُعرض في عقل القارئ.

ولعل التراكم الجمالي للرواية يعدنا بالكثير، ذلك الاندفاع من طرف السينمائيين لنقل الروايات إلى الشاشة منذ عقود، وها قد خلدوا روايات مثل “مرتفعات ويذرنج” و”ذهب مع الريح” و”عناقيد الغضب” و”جسر على نهر كواي” و”أوليفر تويست” و”الظهيرة العالية” و”البؤساء” و”الشيخ والبحر” وغيرها.

الفيلم يريد من الرواية قوة التعبير وما هو مرئي وحسي، وتريد الرواية من الفيلم الحفاظ على مكوّناتها الأساسية

لكن في المقابل بقي جدل الإعداد السينمائي للرواية قائما، يناقش إلى أي حد وأي مستوى كان الفيلم أمينا في نقل الرواية إلى الشاشة، بينما يفاخر مخرجون وسينمائيون بأنهم ارتقوا بروايات مهمة إلى مستويات أرفع.

ومن ذلك مثلا سلسلة العرّاب للروائي ماريو بوزو، والتي أخرجها فرنسيس فورد كوبولا (1974)، وحيث يكتسب الصراع شكلا آخر سينمائيا، وفي الأصل هي رواية صراع وتأكيد للذات والعائلة في مواجهة الآخر والمجتمع.

في المقابل هنالك السكينة الإنسانية العميقة والذات الباحثة لنفسها عن ملاذ في رواية “بقايا النهار” للروائي الأنجليزي – الياباني كازو إيشيغورو التي أخرجها جيمس إيفوري (1993)، هنا الروتين الحياتي في الرواية يقابله نبض إنساني ظاهر وعذابات ظاهرة وأخرى في شكل معاناة في الداخل.

 بينما نجد من جهة أخرى أن جدلية الصراع الاجتماعي تتجسم بقوة في رواية “الدكتور جيفاغو” للروائي بوريس باسترناك ومن إخراج ديفيد لين (1965)، فما بين زمنين وبين عالمين متناقضين يمضي خط الشقاء الإنساني وحيث تتحول الشخصيىة إلى مرآة حقيقية لما هو أفضع، ولهذا كان الفيلم مخيفا في قصته من طرف السلطات السوفييتية آنذاك فمنعت عرضه بأي شكل.

 هناك حس إنساني عميق بواقع مرير وبلحظة تحوّل وانتقال مريرة سواء على الصعيد الفردي أو الجماعي، صراع البلاشفة مع خصومهم وتلك التراجيديا المروعة وسط الثلوج حيث كل شخصية تبحث عن خلاصها ونافذة أمل تجد نفسها من خلالها، وفي المقابل هنالك ذلك الإحساس بالتمزّق واللاجدوى من طرف جيفاغو الشاعر – الطبيب – العاشق المتكامل الحس والمغترب عن واقعه والباحث عن ذاته ومستقبله في دوامة لا يعرف نهاياتها.

وأما إذا انتقلنا إلى ما هو أشد وطأة في ما يتعلق بالنسق الاجتماعي الجمعي فيمكن القول إن رواية “1984” لجورج أورويل للمخرج الإنجليزي ميخائيل راد فورد (1984) هي تعبير عن تكامل الذات المحاصرة والوجود الجمعي الخاوي والمضطرب. 

هنا يسعى السرد الفيلمي إلى مقاربة النسق الاجتماعي بطريقة ما، يوازن فيها بين الصراخ الصامت للحشود وصوت الفرد في لحظته الراهنة، وهنا أيضا تتكامل قيمتان جماليتان تتوازيان تماما ولا تجد أن الفيلم على مسافة من السرد الروائي إن لم يكن قد عمق الصراع ودفع بنا إلى منطقة الشاهد للمأساة والتراجيديا.

في الفيلم الألماني، “طبل الصفيح” الذي جمع عبقريتين إحداهما روائية والأخرى سينمائية هما الروائي غونتر غراس والمخرج وولكر شولندروف (1979) ها نحن مع سرد فيلمي/ روائي يشمل جميع الشخصيات التي بدأت وطأة الحرب تأكل من جرفها، لاشيء يبقى له معنى، الخيانة الزوجية مجرد فعل هامشي والحوار بين الشخصيات يقرّبها من حافة الهذيان الكامل بينما يشهد ضارب الطبل، الطفل الذي يتعطل نموّه ولا يريد أن يكبر ليكابد المزيد، يشهد الخيانات والأفق المسدود واللاجدوى وحتى عدم الانتماء في كل تراجيدي متكامل يقدم نسيجا سرديا – صوريا عميقا.

من المؤكد هنا أن المرور على السردية الروائية في مقابل السردية الفيلمية هو انتقال الى مساحات إبداعية واسعة لا يزال اشتغال الروائيين والسينمائيين معا قائما عليها، ولا يزال هنالك كمّ متزايد من الأعمال التي يتفاعل فيها النوعان السرديان ليقدما متعة خالصة تتجدد ولا تريد أن تنتهي.

لهذا فإن المرور السريع على عيّنات ونماذج من الممكن أن يتسع إلى المزيد من الإضاءات النقدية والقراءات الجمالية لاسيما وأن كل تلك الأعمال هي تكامل في التراث الإنساني الذي يتكامل فيه أرقى الإبداعين على الإطلاق ليتكاملا أو يفترقا ولكنهما موجودان وليبقى هنالك من يرحب بنقل الرواية إلى الفيلم أو يجد المتعة في ما هو مكتوب بينما الشاشة تكتظ بالمزيد والمزيد من تلك الروايات المعدّة خصيصا من أجلها.

15