الرواية من تمثيل الواقع إلى تمثيل نفسها

اتجه الكثير من الكتاب المنظرين للحداثة إلى الواقعية في أدبهم، معلنين أن ما عدا ذلك هو نوع من الارتداد إلى الأساطير والخرافات القديمة، فصارت الواقعية بذلك علامة من علامات الحداثة، لكن كتابا آخرين أثبتوا زيف ذلك الادعاء، فمن يقرأ جيمس جويس أو مارسيل بروست أو فرانز كافكا أو فرجينيا وولف، وتمردهم على الواقعية وعودتهم إلى أصول السرد بطرق مبتكرة، يكتشف أن هناك أصالة سردية تفتح إمكانات كبيرة للتجديد والتجريب.
إن أهمية القاعدة في التنظير للعمل الروائي يؤكدها التنوع في النظام السردي ومعه يتنوع المشوار الذي على المؤلف قاصا وروائيا أن يتبعه. ولا مشوار من دون نهج يتخذ نقطة شروعه من أصل، له تقاليد. فكان أن جرَّب بورخس ونابوكوف وبيكت -عبر الاستغراق في الخيال والاتجاه نحو الاستعارية والرمزية والأحلام- إيجاد بعض الحلول للأزمة الواقعية، وتمكَّنوا من استعادة تقاليد السرد القديم.
إن هذا التجريب هو إدراك حقيقي لما في هذه التقاليد من ممكنات خيالية يمكن للروائي أن يستثمرها على مستوى تحبيك الزمان والمكان، والتعبير عن الإنسان تعبيرا واقعيا من دون جعل القارئ صريع الأوهام تغريبا وعجائبية، بل هو في الصورة مباشرة أمامه الخيالية يستقبلها مقتنعا بها. والاقتناع يعني ترجمة الخيالي ترجمة واقعية موضوعية.
التحرر من الضوابط
إماطة اللثام عن التقاليد السردية التي استعادها بروست وجويس وكافكا في أعمالهم أمر مهم لفهم أصالة الرواية
لا مراء في قولنا إن الواقع ليس مطلب الرواية المعاصرة، فلقد أخذت تبحث منذ الربع الأول من القرن العشرين عن التحرر من ضوابط كتابة أراد لها المنظرون في الغرب أن تكون تقاليد حديثة. وما التحرر سوى البحث عن الانطلاق في تصوير ما هو غير مصور، وتغيير نمطية التصوير بلا نمطية التعبير عن هذا التغيير. من هنا لا يأتي التجريب من فراغ، بل هو نتيجة سعي به يكشف الكاتب عن مسارات استيعابه لحقيقة دوره كمؤلف لا يكتب السرد إلا عن تفكير، والتفكير معرفة، وبهما تكمن السعادة فتبدو الحياة أرحب من كل واقعياتها. وهكذا استعمل تولستوي وديستويفسكي وتوماس مان اللاواقعية التي بها قطعوا حبل الواقع السري، وغيّروا شكل الواقع المعيش تغييرا جذريا متحررين من سطحيته وابتذاليته وقيوده.
وبسبب ذلك بدت روايات فرجينيا وولف مثل “السيدة دالواي” (1925) و”المنارة” (1927) و”الأمواج” (1931) لا نمطية. وهو ما أدركه أيضا بروست وجويس وغيرهما من الروائيين الذين عرفوا كيف يسيرون عكس تيار الواقعية، عائدين إلى الاستقاء من المنبع الأصل وهو اللاواقع، كقاعدة سردية غائرة في التاريخ. وليس كما سعى منظرو الرواية الى تفسيره بالمنهج النفسي وأطلقوا “تيار الوعي” على الرواية الحداثية وعدوا التداعي الحر تجريبا جديدا فيها، في حين أنه محصلة من محصلات تحرر الكاتب في عملية التخييل وصورة من صور استيعاب ذاك التراكم الطويل من تقاليد السرد القديم ثم تمثلها بوعي عميق داخل السرد الروائي.
وأي وعي بتاريخ السرد يعني إدراك تقاليده التي باتباعها يتمرد الكاتب على السائد ويراوغ المتعارف عليه، وكنوع من الشعور بتفاهة ذاك السائد مع اللاثقة بهذا المتعارف عليه. وبسبب ذلك كله غدت الرواية غير معنية بتمثيل الواقع، بل معنية بتمثيل نفسها داخليا، صانعة لها عالما يتجاوز الواقع وفي الآن نفسه يساعد في فهمه وإن كان من دون محاكاته.
وهذه هي مغامرة توظيف تيار الوعي في الرواية الأوروبية بعد أن صارت لتجنيسها ضوابط واقعية لا صيرورة لها من دونها. وهو ما جعل استجابة الروائي الأوروبي لهذه الضوابط متفاوتة، وبعضهم فضل أن يكون مغامرا، لأنه وجد في التعلق بالواقع قتلا للسرد وإماتة للشكل بالمضمون أيا كان المضمون ساخرا أو تراجيديا. وأدرك أن ما هو جدير بالإقناع هو تجريب الجديد عبر البناء على الأصل لا على ما تفرع من ذاك الأصل. فكانت العودة لا بتأثير علم النفس، بل بتأثير الجذور وتراكماتها التي فيها تلعب العفوية وحرية التخييل دورا كبيرا في التعبير عن عناصر لا واقع لها، بل هي مستقلة عن أي واقع يمكن الحديث عنه أو وصفه.
الأصل اللاواقعي
إن واقعية الرواية هي التي جعلتها تجد تحجرها في الارتباط بالواقع، فشط عن الخط الواقعي كتّاب غربيون كثر، لعل أهمهم مارسيل بروست في روايته “البحث عن الزمن المفقود” التي لم تكن وثيقة واقعية عن حياة المجتمع الباريسي الأرستقراطي، بل هي نافرة عنه كنفور بروست من التفاعل مع هذا الوسط، مجسدا معاناته المرضية في المصح الذي قضى فيه بضعة أعوام، متخذا من اللاواقعية طريقا للتعايش معهما سوية كمواطن ارستقراطي ونزيل مصح طبي من خلال أفعال غير ممكنة.
وعلى الرغم من أن رفاقه وأقرانه كبروا وطعنوا في السن، فإنه ظل كما هو في سنه نفسها لم يكبر. ثم فجأة يبلغ من الكبر عتيا في حين يموت رفاقه جميعهم. وكل هذا يجري في لحظة حضوره حفلة الاستقبال. إن هذا التجسيد التخييلي للزمان هو غير معقول الحدوث لكن التحبيك السردي له قوانينه التي تجعلنا نتقبل السرد غير الواقعي على أنه حقيقي فيه الأسباب تؤدي إلى النتائج. وفي هذه النتائج تتجلى حقيقة الحياة فيصبح ما هو مجهول معلوما، وكأن اللحظة هي الحياة، وما قبلها وما بعدها ضائع وغير مهم.
إن جعل اللحظة هي الحياة وتفسير الحياة على أنها لحظة، هو نظر واقعي تماما كالنظر إلى الحياة على أنها رحلة يمكن أن تطول وقد تقصر. وكل رحلة لها منطلق تبدأ منه ومنتهى تقف عنده. لكن ميزة اللحظة على الرحلة هي السرعة في الاختزال الذي هو كالبرق، لا يُعرف له أول ولا آخر.
قد لا نكاد نلمح اللحظة لسرعتها مما لا يمكن لأي مشهد واقعي أن يجسده، فكيف إذا كانت في الرواية مئات المشاهد المجسدة لتلك السرعة؟ إنها بالتأكيد ستكون رواية غير واقعية محبوكة أحداثها المستحيلة حبكا منطقيا فلا عرضية ولا طارئية، بل هي بدايات تأخذنا إلى ذروة التحبيك التي عندها تنفرج الحبكة وتصل الرواية الى الخاتمة. وبهذه التسلسلية يكون السارد قادرا على كسب ثقة القارئ بواقعية هذا السرد وبشكل لا شعوري.
إن الانتظام السردي يولّد مشاعر واقعية إزاء أحداث محتملة فنيا هي ليست وليدة الواقع إنما وليدة مخيلة المؤلف الروائي الذي عرف كيف يمسك باللحظة بذهن انفلت من قبضة الواقع فحلّق قلمه بعيدا ليكون صانع اللحظة التي فيها تتجلى الحياة بكل تعقيداتها.
النقاد الكلاسيكيون فاتهم أن الطبيعة هي واحدة سواء في زمن الأساطير أو زمن التنوير أو زمن العولمة
هذه الصنعة وتلك الثقة امتلكهما مارسيل بروست بالتخييل الذي لا تحده مواضعات التجنيس الروائي فكشف عما للسرد الروائي من سعة، تجعل المؤلف فاعلا متنوع الصور؛ فهو الحكاء والسارد والمؤرخ والمفكر ضمن عالم لاواقعي تنبعث فيه الحياة غرابة وسحرا.
لقد عرف بروست قوة الأصل الذي عليه ترتكز الرواية وهو اللاواقعية وأن منها تتفرع التقاليد ومنها الواقعية. فانجذب بروست إلى الأصل أكثر مما انشغل بالفرع، مما هيأ له فرصة إظهار قدراته التخييلية في التعبير الموضوعي والتحفيز الإبداعي فكان بحق أشهر روائيي القرن العشرين.
ومثل مارسيل بروست في الارتكان إلى الأصل اللاواقعي جيمس جويس الذي ترك بصمته المميزة واحتل مساحة خاصة في عالم الرواية، جاعلا الخيالي ضديد الواقعي، وإن انسيابية الخيالي لا تكون إلا بمجاراته واقعيا كمعادلة إبداعية تمكَّن جويس من التدليل عليها واقعيا.
وإذا كان الروائيون الواقعيون يرون في الأشكال أوعية للمضامين، فإن جويس وجد أن المضامين نفسها يمكن أن تكون أشكالا، وذلك حين يحسن الكاتب ربط البناء السردي بروابط يبتكرها ابتكارا سواء من ناحية جعل الشكل موحيا بالتحول أو من ناحية جعل المضمون موحيا.
الانتظام السردي يولّد مشاعر واقعية إزاء أحداث محتملة فنيا هي ليست وليدة الواقع إنما وليدة مخيلة المؤلف
إن مناهضة جويس للواقعية لم تأت من باب الشطح عن تلك التقاليد التي حددها منظرو الرواية الكلاسيكية ونقادها، بل هي العودة إلى تقاليد وأصول قديمة، حاولت الرواية الأوروبية أن تؤسس عليها تقاليد جديدة، فعدت الخرافات والأساطير لا تفي بالغرض في تمثيل الواقع ومن ثم يكون مهما النزول إلى أرض الواقع مباشرة توثيقا وتمثيلا معا.
وفات هؤلاء النقاد أن الطبيعة هي واحدة سواء في زمن الأساطير أو زمن التنوير أو زمن العولمة. أما الخيال فوحده القادر على جعل الأزمنة متماهية حيث لا أسطورة ولا علم ولا عولمة. فيتجاوز السرد الزمان إلى اللازمان ويندفع بعيدا عن المكان المعتاد ويتداخل السحري والمجهول الذي هو الأساس في ما عليه تقوم العوالم السردية ذات القاعدة اللاواقعية. وبهذا يكون السرد غير الواقعي هو الأب الشرعي للسرد الواقعي.
لقد عبر كافكا في قصة “التحول” عن معاداته للواقعية بسبب ماديتها وتوحشها واستعاض عنها بموضوعات لا عقلانية. فصوّر شخصيات غير طبيعية برؤى فنية تكافئ ما في الواقع من توحش وظلم وفساد. ولهذا غدت هذه الرواية سابقة مرحلتها وظهرت بوجهين متناقضين.
وليس قبح كريكور سامسا سوى قبح الواقع الذي يجعل الفنان يستجدي الحياة وقد تناقض لديه البعد الروحي مع البعد الأخلاقي، وبانهيار القيم وتحللها يصبح المستقبل مأساويا. ولو كان كافكا مهتما بالشكل فقط أو لم ينظر إلى الوجهين معا لما استشرف بالرواية ما هو قادم، فانتقل بالموضوع من محاكاة الواقع إلى اللاواقع فكان لفنه وجهان هما على طرفي نقيض؛ واحد عملي إنجازي والآخر رؤيوي وجداني. وليس أحدهما أفضل من الآخر كما لا توسطية يريد كافكا للقارئ أن يتوصل إليها بل هي مفارقة ألا يصل إلى أي توافق بين الوجهين.
ولقد جعلت لاواقعية كافكا منه بالمحصلة الأخيرة كاتبا واقعيا بامتياز، يخترق الواقع بالوهم ويحول الوهم إلى يقين. ولا شك في أن هناك كتّابا آخرين سخروا من الواقعية، مما نجده في الرواية الفرنسية الجديدة والرواية الأميركية المعاصرة. وهو ما يعني أن اللاواقعية كتقليد أساس لم يختف أو يمت، وإنما تطور ليكون موضوعا يغلفه الكاتب بالوهم أو الإيهام ويقصد من وراء ذلك بلوغ أبعاد رؤيوية ووجدانية معينة.
سرد ذو وجهين
إن مقياس جودة التعبير ليس في تمثيل الرواية للواقع بل هو في تمثيل الرواية لنفسها، وهذا هو المأزق الذي جعل بعض الروائيين يتوجسون كثيرا من الطريقة التي بها يجعلون الشكل محبوكا حبكا يضع بين يدي القارئ واقعا منظما ومقنعا. فكان المتحصل روايات غير نمطية، جرّب كتّابها تحبيك اللاواقعي هربا من الواقعي وطوعوا التحبيك فنيا لواقع غير موضوعي. وما يجعل الرواية فنا لانمطيّا هو نفسه الذي يجعل السرد فنا لا يقيده شكل أدبي معين، بل هو حر في التطويل والإفاضة أو التقصير والكثافة أو التمثيل تسجيلا أو تخييلا.
وبسبب هذه الحرية صارت أجناسية الرواية عابرة على أنواع أخرى من السرد كالقصة القصيرة والرحلة والمذكرات والسيرة والتاريخ وغيرها. وغدت لها تقنياتها الخاصة ومنها المتوالية السردية التي هي تبعة من تبعات البناء الإطاري الذي عرفه السرد القديم، وهي إحدى الطرائق التي منحت القصة طولا وتطويلا أدى إلى ابتكار الرواية. وما العبور والتوالي سوى دليلين من مجموعة أدلة تقوض مزاعم ابتداع تقاليد واقعية خالصة لا سابق لها، ومنها تأسس السرد الروائي في العصر الحديث.
وما مفاهيم تيار الوعي والإيهام الواقعي والعجائبي والغرائبي سوى مداراة على تلك الجذور عبر إلباسها اللبوس النفسية والميثولوجية كمحاولة للتباهي بالتجديد والابتكار في النهج الواقعي مع أن لا مجال لمثل هذا النهج أن يكون من دون تصعيد السرد على مستوى التخييل، فيتجاوز الكاتب الحدود المعقولة جاعلا روايته تدور في منطقة اللامعقول والتخريفي.
إن إماطة اللثام عن التقاليد السردية التي استعادها بروست وجويس وكافكا في رواياتهم وقصصهم أمر مهم في فهم أصالة فن الرواية، وأن هذه الأصالة ليست في السرد الواقعي مما تصوره أدبيات البنيوية وما بعدها، بل هي في ما استعاده المؤلف فيها من أصول تجعلها ذات وجهين، فتقول ما لا يُتوقع منها أن تقوله ولكنها في الآن نفسه متحكمة في هذا الذي تقوله.
وقد يقال إن هذه اللانمطية هي خلاصة التجريب الفني في الواقع وتسخيره للسرد بطريقة واقعية جديدة تجرد الواقع من إنسانيته وتجعله يبدو لاواقعيا، وهو قول مردود عليه بما تسفر عنه المسببات اللاواقعية من نتائج واقعية، تشي بأن الواقع هو نفسه غير حقيقي، يصنع نفسه سرديا فلا يقر بما هو حاصل وقائم فعليا.