الرواية الجديدة ثورة مستمرة على بلزاك

الشكل الروائي يُعتبر من حيث المباشرة والفورية، أكثر الأشكال الأدبيّة ارتباطا بالنيات الاقتصادية أي بنيات التبادل والإنتاج للسوق.
السبت 2019/03/02
الكاتب لا يملك حلولاً بل يبحث جاهلا بحقيقة ما يبحث عنه

لم يكن ظهور الرواية الجديدة – في وقتها -  ترفا، وإنما كان استجابة للمتغيرات التي حلّت على الواقع، بحلول الآلة محل الإنسان، والأهم فقدان العالم لقوى التوازن الذي حدث بعد حربين كونيتين، وقد نتج عن هذا تضاؤل ذات الإنسان، فشعر بأنه فقد وجوده وإنسانيته، فالواقع لم يعد واقعا بتعبير ناتالي ساروت نفسها. فجاءت الرواية الجديدة تعبيرا لهذه المتغيّرات، وقد صار يقينا أن الرواية التقليدية التي سادت في القرن التاسع عشر، ومطلع القرن العشرين، لم تعد ملبية لحاجات العصر الجديد.

قوبلت محاولة التمرد على الرواية البلزاكيّة بهجوم شديد، خاصة وهي تسعى لصياغة واقع جديد بعدما صعُب الإمساك بالواقع، وهو ما استدعى أشكالا جديدة ملائمة تعبّر عنه، وتكون أكثر خصوصية.

من أهم ملامح القطيعة مع المدرسة الواقعية البلزاكية، هو الابتعاد عن اللغة التسجيليّة التقريريّة التي كانت سائدة، وتنقل الواقع إلى لغة بيضاء ترصد الواقع في درجته الصفر. وهو ما كان بمثابة إعادة نظر جذرية في علاقة الكلمات بأشياء العالم، فصارت علاقة استعلاء تباعدي. كما هجر السرد الراوي العليم ذا المعرفة الكلية، إلى راو بوليفوني، تتناوب عليه أصوات متداخلة، أما الزمن فقد تخلّص من الكرونولوجيّة القاسية في الرواية الواقعية، ليتحول إلى سيرورة تزامنية فيها أزمنة الاستذكار (الماضي) والاستشراف (المستقبل) والكتابة (الحاضر).

كما أن الشخصية في الرواية الجديدة صارت كفكاوية، توحي بفقدان الشخصيات لكل بوصلة تحدّد لها وجهة ما، أو تسعفها بالعثور على معنى ما لعالم سديمي ولوجود عبثي، دون قيم. كما أن الرواية تخلَّت عن المونولوجيّة المنغلقة على نفسها، إلى ديالوجيّة منفتحة.

أربعة نقاد يفككون علاقة الروايات بالواقع
أربعة نقاد يفككون علاقة الروايات بالواقع

قطيعة بلزاك

مؤخرا أعيد نشر كتاب بعنوان “الرواية الجديدة والواقع” الذي يضم عددا من مداخلات النقاد، وهو من ترجمة رشيد بنحدو. وعلى الرغم  من قدم موضوع الكتاب إلا أن أهميته تتجلّى في أن معظم القضايا والموضوعات التي عولجت فيه، ما زالت تتردد الآن، بل إن الكثير من قضايا الماضي محل تساؤلات، خاصّة أن كتابنا العرب لم يتمكنوا بعد من تجاوزها أو تجاوزوها من غير إلمام بها. كما أن هناك من الروائيين مَن أساءوا تقدير الرّهانات الجماليّة والفكريّة، التي قامت عليها تجربة الرواية الجديدة، علاوة على أن المداخلات بمثابة وثيقة أساسية يمكن أن يستفيد منها كل مهتم بالرواية.

الكتاب في أصله ترجمة لأشغال ندوة علمية انعقدت خلال مطلع ستينات القرن الماضي بمدينة بروكسل البلجيكية حول موضوع “الرواية الجديدة والواقع”، وأعيد نشره سنة 1963 على صفحات “مجلة معهد السوسيولوجيا” (1963) بجامعة بروكسل المفتوحة تحت عنوان “إشكالات في سوسيولوجية الرواية”. يحتوى الكتاب على ترجمات مداخلات لكل من ناتالي ساروت وآلان روب غرييه ولوسيان غولدمان. أما المداخلة الأخيرة فهي لجينيفيان مويلو.

وقد اعتنت المداخلات الأربع بالأسئلة الآتية: ما التصور السائد لعلاقة الروائي بالواقع؟ وما طبيعة الواقع الروائي؟ وما هي دلالته؟ هل للتحولات الاجتماعية والاقتصادية أثر ما في البنيات الروائية؟ والأهم: هل يتنافى مطلب البحث والتجريب مع الواقع والواقعية والالتزام؟ وأخيرا كيف تكون القراءة المثلى للرواية الجديدة؟

الرواية والواقع

تأتي أهمية مداخلة ناتالي ساروت في كون صاحبتها روائيّة، أي تقدم رؤية واقعية للتجريب الذي مورس على الرواية، فالكتابة عندها في الأساس بحث دائم، وهذا البحث يسعى إلى تعرية واقع مجهول، وإلى إيجاد هذا الواقع المجهول. كما أنها ترى أن واقع الروائي يختلف عن الواقع الذي يراه الناس ويدركونه بشكل فوري ومباشر، فواقع الروائي مجرد مظهر يوهم بالواقع، أي هو المجهول واللامرئي هو ما رآه بمفرده، فالواقع لديه ما تعجز الأشكال التعبيرية المألوفة والمستهلكة عن التقاطه، مستلزما طرائق وأشكالا جديدة، ليكشف عن نفسه. وهذا البحث يحفّز الكاتب الروائي على تجاوز الأشكال المستهلكة والعقيمة، وعلى تجريب أدوات جديدة وخلق أشكال حيّة، وبقدر ما يكون البحث عسيرا يكون الواقع الذي يستكشفه الروائي جديدا.

ويقرّ آلان روب غرييه بأن عالم الأشياء الذي تعجّ به رواياته، هو عالم غير العالم. فالفارق بين عالم الأشياء في الرواية البلزاكية، هو أنه عالم البورجوازية، وهو بالأساس ملك للإنسان، أما الأشياء التي يصادفها القارئ في الرواية الجديدة، كما عند غرييه، فهي تبدو غير منتمية إلى أحد، بل إن حضورها يبدو زائدا في الرواية. فالعالم الذي نعيش فيه على حد تعبير غرييه “عالم يمكن وصفه بعالم أشياء غريبة، عالم لم يعد يعكس تصوراتنا الخاصة في القرن الماضي”.

كما ينطلق من ذات النقطة التي رأت فيها ناتالي ساروت الرواية بحثا  متواصلا، فهي في نظره بحث عن شيء لا يُعرف كنهه، فالروائي لا يدعي تقديم دلالة جديدة، سيكتشفها بل البحث عن دلالة هي بعد مجهولة لديه. فالكاتب نفسه لا يملك حلولا جاهزة، فهو يبحث لكنه يجهل حقيقة ما يبحث عنه.

ناتالي ساروت روائيّة قدمت رؤية واقعية للتجريب الذي مورس على الرواية
ناتالي ساروت روائيّة قدمت رؤية واقعية للتجريب الذي مورس على الرواية

مداخلة لوسيان غولدمان تأتي قيمتها من كونها تنطلق من باحث سوسيولوجي. فهو يمارس دوره كناقد، فيسعى إلى التوفيق بين حالة القطيعة التي يراها القرّاء في شكل رواياتهم الجديد. ومع تثمينه لهذه الأطروحات، إلا أنه يؤكّد أهمية سلطة الواقع الاجتماعي والتاريخي، وفي نفس الوقت يؤكّد أن ماهية الواقع الإنساني ديناميكية، ومتغيرة عبر التاريخ، ومن ثم أصبح من العسير اليوم على حد قوله وصف تاريخ الشخصية الروائية، ونفسيتها دون الوقوع في آفتي التفاهة والابتذال.

ويعزو غولدمان إلى التحولات الاقتصادية، الفضل في ضرورة إيجاد شكل روائي جديد. فيشير بطبيعة الحال إلى العلاقة المتبادلة بين الرواية والبنيات الاقتصادية، فوفقا لأبحاث أجريت في معهد سوسيولوجية الأدب في جامعة بروكسل الحرّة، خَلُص إلى أن الشكل الروائي يعتبر من حيث المباشرة والفورية، أكثر الأشكال الأدبيّة جميعها ارتباطًا بالنيات الاقتصادية، أي بنيات التبادل والإنتاج للسوق. وهذه الفكرة تعود في الأساس إلى كتابات ماركس ذاته منذ عام 1959، ونظرته إلى تشيؤ السلعة.

وهذا التنامي لقوة السوق كشف عن تراجع مكانة الإنسان في العالم وهيمنة الفعل الاقتصادي على الفعل الاجتماعي. وانخراط المجتمعات الغربية (والبشرية بصفة عامة)، خلال القرن الماضي في سيرورة عميقة من “التشيؤ والاقتصاد الليبرالي”، فقد انعكس هذا على شكل الرواية فرأينا “ذوبان الشخصية الروائية من جهة، وظهور عالم الأشياء”، وهو عالم لا يزال العالم الإنساني إلى حد ما، أن يعبر من خلاله وحده عن نفسه.

وترى جينيفيان مويلو أن ثمّة تماثلا بين بنية الرواية والبنية الاجتماعية – الاقتصادية. فالرواية من وجهة نظرها مثل الملحمة والقصة القصيرة، جنس ملحمي يصوّر في آن واحد، أقدارا بشرية، وكذلك المحيط الاجتماعي والطبيعي الذي تحدث فيه هذه الأقدار، ولكنها تختلف مع القصة القصيرة في كونها تنزع إلى تصوير الحياة تصويرا كليا، ولا تكتفي بالتقاط أحد جوانبه، وعزله إراديا باعتباره ظاهرة غريبة أو نادرة. وكليّة الرواية هي كلية مصدوعة وتحقّقها يعدّ أمرا وهميّا. كما أن في الرواية يصبح البطل فردا والقدر البشري سيرة حياة، أما المجتمع فيتحول إلى خلفية سوسيولوجية، كما أن الأشياء تصبح مجرّد إطار أو آنية منزليّة فتفقد بذلك علاقتها المباشرة بالحياة والإنسان.

في النهاية، لا نقول إن معظم ما أثير من قضايا حول الرواية الجديدة، ما زال مثارا من قبل النقاد والكتاب على حد سواء، فعلاقة الرواية مع الواقع لم تنقطع، بل صارت أكثر اشتباكا وصراعية، خاصة بعد تعقّد الواقع ذاته، وتنامي ظواهره التي تجلّت في الرواية بصورة لافتة.

15