الرواة المزيفون يفاقمون مشاكل الأراجوز المصري

نبيل بهجت: الحماية العاجلة لم تتحقق لهذا الفن الإبداعي.
الجمعة 2023/12/29
فن عريق يواجه التزييف

يعتبر فن الأراجوز من أبرز الفنون الشعبية المصرية التي لها امتدادها في التاريخ، امتداد ثمنته منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة التي اعتبرته تراثا ثقافيا غير مادي للبشرية. ورغم المحاولات للحفاظ على هذا الفن من الاندثار وإعادته إلى واجهة التراث الشعبي المصري، فإن معوقات كثيرة تحول دون ذلك.

القاهرة - يعاني فن الأراجوز المصري من مشكلات عديدة تدعم استمرار اندثاره، رغم الجهود التي تستهدف إعادة إحيائه بعد خمس سنوات من إدراجه على قائمة “الصون العاجل” للتراث الثقافي غير المادي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو)، وسط أزمات تتعلق بدخول رواة مزيفين من غير ممارسي الفن الحقيقيين ما تسبب في تجميد عملية صنع لاعبين شعبيين محترفين.

ويتزامن تسليط الضوء على مشكلات الأراجوز مع اختتام ملتقى الأراجوز الخامس بالقاهرة (الجمعة الثاني والعشرين من ديسمبر الجاري) بعد أن استمر لمدة ثلاثة أيام وتضمن تقديم عدد من العروض المعروفة بـ"النِّمر الأراجوزية"، وتنظيم عدد من ورش التدريب التي جرى إعدادها منذ الملتقى الأول الذي أقيم عام 2019.

يعد الأراجوز فنا شعبيا قديما يتمثل في تقديم عروض عبر دُمى القفاز الشعبية وأشهرها دمية الأراجوز، ويعد أبو النِّمر الأراجوزية الشخصية الرئيسية في جميع العروض، لذا يسمى هذا الفن باسمها، ويقدم العرض من خلال مُحرك عرائس (دمى) لا يراه الجمهور، يعتمد على عدد من العرائس، ويشاركه مساعد يسمي “الملاغي” يقف أمام الجمهور ويحفزه على التفاعل معه، وللأراجوز صوت مميز بفعل آلة تسمى “الأمانة” يضعها اللاعب في الفم، وتميز صوت الأراجوز عن غيره من الشخصيات، وفق الأرشيف المصري للحياة والمأثورات الشعبية.

وكان من المتوقع أن يُحدث تسجيل هذا النوع من الفنون الشعبية التراثية على قائمة اليونسكو انتعاشة تنعكس في إعداد خطط مشتركة بين الحكومة المصرية واليونسكو لإعادة إحيائه، غير أن الواقع يشير إلى أن هذا الفن يعاني حالة من الانحسار، مع تأكيد العديد من الفنانين الأصليين على أن إنقاذه بحاجة إلى تفعيل أدوارهم والاستعانة بهم في مقدمة جهود إنقاذه.

واقع فن الأراجوز

◙ فن يحتاج إلى إنتاج فنون يقدمها الرواة الأصليون
◙ فن يحتاج إلى إنتاج فنون يقدمها رواة أصليون

يقول أستاذ المسرح بجامعة حلوان (جنوب القاهرة) نبيل بهجت إن هذا الفن بعد خمس سنوات من تسجيله على قائمة التراث غير المادي يعاني نفس المعضلة لأن الصون العاجل لم يتحقق حتى الآن، ما يتطلب إنتاج فنون يقدمها الرواة الأصليون وهم الحافظون للتراث وناقلوه وليس الرواة المزيفون الذين يدعون امتلاك الخبرات التي تؤهلهم لإعادة إحياء الفن، وهو ما تكون له انعكاسات سلبية على مصالح اللاعبين الشعبيين الذين اختفوا ولم يعد لهم وجود الآن تقريبا، كما أن القلائل منهم يتم إخفاؤهم عمدا ما يجعل هذا الفن هامشياً دون أن يصل إلى قطاعات واسعة من الجمهور.

ويضيف في تصريح لـ"العرب" أن الهدف الرئيسي وراء إدراجه في اليونسكو تمثل في نقل هذه الثقافة والارتقاء بها، وليس هناك ما يثبت أنه جرت إضافة لاعبين لديهم قدرة على حفظ "النِّمر الأراجوزية"، ويمكن القول إن اللاعبين في مصر يمكن عدهم على أصابع اليد الواحدة ولم تتم إضافة مبدعين إليهم خلال السنوات الماضية، وما حدث هو دخول أشخاص لم يتم تدريبهم بشكل جيد ويجري التعامل معهم على أنهم من اللاعبين الشعبيين.

ويؤكد بهجت، وهو مؤسس فرقة ومضة للأراجوز وخيال الظل، أن مهمة إعداد لاعبين شعبيين تأخذ المزيد من الوقت حيث تستغرق فترة تتراوح بين 10 و15 عاماً، ويمكن تجهيز لاعب خلال فترة تصل إلى 7 سنوات فقط إذا كانت هناك مراقبة مستمرة بين الصبي والأسطى، وهو أمر لم يحدث في مصر، مشيراً إلى أن الاعتماد على تنظيم دورات تدريبية لمن عندهم الرغبة في تعلم فن الأراجوز لا يمكن أن يؤدي إلى نتائج إيجابية، وهي دورات تعريفية لا تؤدي إلى إكساب مهارة الفن.

نبيل بهجت: فن الأراجوز يعاني معضلة متواصلة  منذ سنوات
نبيل بهجت: فن الأراجوز يعاني معضلة متواصلة  منذ سنوات

ويشدد على أن ما تركه اللاعبون الشعبيون من نمر تراثية يصل إلى 19 نمرة وهناك نمر أخرى اندثرت بمرور الزمن، كما أن هؤلاء تركوا لنا 14 دمية وثمة أخرى اندثرت بمرور الزمن، ويصعب التعرف بسهولة على اللغة السرية المستخدمة في فن الأراجوز وتحتاج إلى سنوات طويلة لجمعها.

وهناك قناعة بأن التدريب على فن الأراجوز بحاجة إلى مدربين حاملين لهذا التراث وليس إلى مشاركين في عملية توظيفه، بما يدعم عملية تقديمه بشكل يتلاءم مع الأجيال الجديدة ويحقق الاستفادة المادية والثقافية وعدم الاعتماد على تجارب متفرقة لأشخاص أو مؤسسات مهتمة بالتراث الثقافي.

ويشير بهجت، وهو الذي أعد الملف المصري الذي قدم إلى اليونسكو عام 2018، إلى أن التراث الشعبي يمكن توظيفه اقتصادياً بشكل إيجابي، وأن جهات حكومية في مقدمتها وزارة الثقافة لديها وعي بأن ذلك يمكن أن يحقق مردودا إيجابيا على مستويات عدة، وهو ما أسفر عنه تأسيس بيت للتراث، وسوف تطرح وزارة الثقافة برنامجا لصيانة التراث وإدارته بشكل جيد، ولئن تأخر ذلك في السنوات الماضية فإن مرده أسباب عدة أبرزها عدم وصول التمويل الخاص بذلك.

ويلفت في حديثه لـ”العرب” إلى أن العائق الأكبر في الوقت الحالي يتمثل في خلق سوق جيد لفن الأراجوز، ولن يخلق هذا السوق من خلال مهرجانات أو دورات تدريبية فقط لكن هناك حاجة للعودة إلى جذور تطوير هذا الفن، مع الإدراك الكامل بأن التراث فن قادم من الماضي ويقدم حلولا تشبه الماضي وليس من الممكن أن يجذب الجمهور في حال جرى تطويعه لمناقشة الحالي وتقديم حلول لما نتعرض له الآن.

يلقب الأراجوز بملك العرائس وهو ابتكار مصري قديم لمخاطبة الملوك، ظهر في الحضارة المصرية القديمة باسم “أرجوز”، وأثبت الباحث الفرنسي شارل ماتيه في كتابه “تاريخ الماريونيت” عام 1868 أن الأراجوز فن مصري قديم، حينما أكد أن المصريين القدماء كانوا أول مَن توصلوا إلى فن العرائس ونقلوا هذا الفلكلور عالميًا، ويعد واحداً من أشهر الفنون الشعبية الممتدة على مدار العصور، وأهم ما يميزها أنها محببة للكبار والصغار على حد السواء.

عروض مزيفة

◙ نماذج مزيفة وليست حقيقية
◙ نماذج مزيفة وليست حقيقية

تسعى جهات عدة لإعادة تقديم الأراجوز في الوقت الحالي لكن تصطدم بنماذج مزيفة وليست حقيقية، ويظهر ذلك واضحاً في تقديم بعض عروض الأراجوز من البلاستيك في حين أن الأراجوز فن يتم من خلال العرائس الخشبية، وكذلك الوضع حينما يتم تقديم بعض العروض من خلال عرائس ليس لديها "ِشارب" أو شنب في حين أن ذلك يخالف طبيعة الفن الأصلي.

ويلفت نبيل بهجت إلى أنه يمكن تلخيص أزمات الأراجوز في انتشار الرواة المزيفين، وهؤلاء استطاعوا أن يحلوا محل عدد من الرواة الأصليين ويقدموا صورة مزيفة عن الفن لا تقود بالطبع إلى إعادة إحيائه من جديد، إلى جانب الحاجة لرؤية استثمارية تساعد على تطوير التراث، وتفعيل مفهوم اقتصادات التراث، فهو وثيقة لملكية الأوطان، فمن خلاله نقول إننا كنا نحيا في هذا المكان وهذا البلد.

ويفرق بهجت بين أكثر من مستوى لتقديم عروض الأراجوز، أولها الاستعادة، وتتمثل في تقديم الفقرات التراثية القديمة، والتي يعتبرها حقاً للاعب الشعبي الذي يحفظها، أما المستوى الآخر فيتمثل في التوظيف الفني والاستلهام، وهو حق للجميع، كما أن إحدى الإشكاليات التي لا يمل بهجت من طرحها هي ما إذا كان الأراجوز ظاهرة مسرحية أم مسرحا مكتمل الأركان، وما يترتب على ذلك من الإنصاف الأكاديمي للأراجوز خصوصاً، وفنون الفرجة الشعبية عموماً.

14