الرقم العربي غائب أم حاضر بين الحضارات؟

برلين - أرقام العرب المتداولة اليوم في كل مكان ليست بالمرة أرقاما عربية، ولا أدري كيف علقت بالعالم العربي، بعد أن وضع الخوارزمي وبعده الرياضيون العرب أشكالا للترقيم هي التي انتهت بالترقيم الأوروبي العالمي الحديث. أما الصفر فيبقى رقما غائم الهوية.
لنبدأ من الصفر(.) النقطة التي تمثل الصفر المتداول في الأرقام العربية (الهندية)، رقم يبدو غامض الخواص. فهو منتزع بالقوة من لوحات هندية ربما وفدت إلى بغداد في عهد الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور. لكن أول تسجيل للصفر الهندي يعود إلى 876 م وهذا يتجاوز عصر المنصور بأكثر من قرن، فيما تذهب بعض المصادر إلى أنّ الصفر العربي يعود إلى 873 م. ولكن كتب التاريخ أغفلت الإشارة إلى أصول الأرقام، وهي اليوم مطبوعة على أوراق النقد العربية بلا استثناء.
العدد وليس الرقم
ولعل العودة إلى القرآن وهو أول كتاب عربي مكتوب، تكشف أنّ العرب لم يعرفوا الأرقام، بل عرفوا الأعداد (واحد، اثنان، ثلاثة.. الخ). وقد أثبتها القرآن بالتسلسل التالي: قل إنما هو إله “واحد” وإنني بريء مما تشركون. وقال الله لا تتخذوا إلهين “اثنين” إنما هو إله واحد. ولا تقولوا “ثلاثة” انتهوا خيرا لكم. فسيحوا في الأرض “أربعة” أشهر. ويقولون “خمسة” سادسهم كلبهم رجما بالغيب. إنّ ربكم الذي خلق السموات والأرض في “ستة” أيام. لها “سبعة” أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم. ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ “ثمانية”. وكان في المدينة “تسعة” رهط يفسدون في الأرض. تلك “عشرة” كاملة.
لكنّ هذا الترتيب الجميل لم يشر لا من قريب ولا من بعيد إلى الصفر. سواء رسمناه نقطة أو جعلناه بيضويا. كما أنّ هذا النسق للأعداد، ليس فيه أيّ رسم للأرقام. والثابت أنّ العرب عرفت الأعداد وغابت عنها الأرقام.
وهكذا فإنّ مخطوطات المصاحف القديمة خلت من الترقيم بكافة أشكاله. ويذهب كثير من المتخصصين إلى أن ترقيم الآيات القرآنية كما نجدها بين أيدينا اليوم، جاء في مرحلة مجهولة، تعيدها بعض المراجع إلى منتصف القرن الثالث عشر الميلادي، بعد سقوط بغداد، ولكن هذا لم يثبت في نص معتمد. والذي يهمنا هنا أن الصفر كمفهوم لم تعرفه العرب إلا بعد عصر الخوارزمي.
الأرقام الشائعة في العالم كله اليوم 1 2 3 4… هي الأرقام العربية كما تكاد تجمع الدراسات الحديثة عزز انتشارها العصر الرقمي بشيوع وسائل الاتصال الحديثة وتصاغر العالم العولمي
لغز الصفر
كان ريمون شكوري، أستاذ الرياضيات بكلية العلوم في جامعة بغداد لثلاثة عقود، قد نشر كتابا أسماه “رحلة الصفر عبر الزمكان”، كشف فيه أنّ الصفر هو اختراع ولد في بلاد الرافدين. واعتاد العراقيون القدماء (السومريون والبابليون والآشوريون)، أن يرمزوا بفراغ حين كِتابته.
مثلاً كانوا إذا أرادوا كِتابة (305) يكتبوه على هذه الصورة (5 3) أي ثلاثة + فراغ + خمسة، حيث الفراغ بين الخمسة والثلاثة كان يُمثل الصفر في حسابات ومفاهيم أبناء وادي الرافدين القدماء.
ويُعتقد أنّ النقطة (.) التي هي صفر متداول في العربية تسللت إلى هذه اللغة الجميلة من الصينية. فيما أرجعه آخرون إلى الهندية، ورده قليلون إلى المصرية. لكن عالم الرياضيات الخوارزمي الذي عاش في بغداد خلال القرن التاسع الميلادي في قصر المأمون، ونشط في بيت الحكمة ليضع قواعد الرياضيات والترقيم، أثناء ترجمته لكتاب “سند هند” لاحظ أنّ الهنود كانوا يستخدمون الأرقام ١ ٢ ٣ ٤ ٥ ٦ ٧ ٨ ٩. وبعدها يقومون بوضع ثقب أو نقطة لتحلّ محل الرقم العاشر، فوضع بدوره النقطة صفرا وجعل منه عدداً مهمّاً ذا قيمة في العمليات الحسابية.
لماذا يستحيل أن يكون الواحد فارسيا
الشكل أدناه يظهر مقارنة الأرقام في أربع لغات؛ الواحد كما نعرفه، خط منفرد في اللغات المعروفة ومرتبط بفكرة وحدة الإله، وهذا يتناقض مع مذهب التثنية الماغية “المجوسية” الذي شاع في بلاد فارس. رغم أنّ هذه الوحدة موجودة عندهم، في تسمية “يازدان” التي أطلقت على الله الواحد عندهم في عصر سبق ظهور ديانات التوحيد، لعصور سحيقة حيث لم تشع الماغية في كل أنحاء مملكة فارس.
تسللت الأرقام الحائرة من عراق العجم الذي يشمل غرب إيران المحاذي للعراق وصولا إلى المدائن جنوب بغداد، إلى عراق العرب وهو كل ما وقع على نهر دجلة وصولا إلى الضفة الأبعد من الفرات وعلى امتداد النهرين. وهكذا سمّي العراق أرض النهرين (حسب تاريخي الطبري والمسعودي). ولكن هذه سياحة غير ضرورية في الجغرافية المرتبطة بالتاريخ السياسي (ما بات يعرف اليوم بالجيوبولتيك) ولسنا بصددها، فلنعد إذن إلى الرقم اثنين، وبشكله المتداول في العربية. إنه رقم فارسي بلا شبهة، ومن فارس زحف شرقا إلى أقاليم أفغانستان وباكستان وبنغلاديش فظهر عندهم بشكله المعروف، كما ظهر عند العرب والتصق بترقيمهم.
|
الرقم ثلاثة بالترقيم الفارسي، بركزتيه العلويتين هو فارسي أردي، وأخذته العرب في عصور متأخرة. ورغم أن الخوارزمي هو الذي أدخل الترقيم إلى العربية (برسمه الهندي، ورسمه الذي زحف إلى أوروبا والقائم على تعدد الزوايا) إلا أنّ من غير الثابت أنه استخدم رموز الترقيم الفارسية. مع أن بعض المصادر تؤكد أنه أقرّ ترجمة الكتاب الهندي الشهير “سدهانتا” لمؤلفه براهما جوبتا الذي وضعه في حوالي عام 6هـ – 628م مستخدماً فيه الأرقام التسعة: ١ ٢ ٣ ٤ ٥ ٦ ٧ ٨ ٩ قبل أن يضيف العرب بعد ذلك الصفر. وهذه الترجمة كانت قد جرت في عصر المنصور.
أما الرقم أربعة بأشكاله المتعددة، العربية المشرقية والفارسية السندية فهو مظهر آخر لحيرة الرقم العربي. فالبعض يرجعه الى الحضارات الرافيدينية القديمة التي رسمته بشكله المعروف عند العرب اليوم، وآخرون أرجعوه إلى زوايا الخوارزمي وقالوا إنه أربعة خطوط أفقية قصيرة دمجت لتصبح ما هي عليه اليوم استسهالا لكتابتها.
الرقم خمسة، فارسي بالتأكيد، وفيه عقدة تعلوه تسللت إليه بشكل غامض من رسوم الحروف العبرية، فيما يعزوها الفرس إلى خطّ النستعليق الذي ميّز حرفهم عن العربية التي لم يملكوا غيرها حروفا ترسم كلماتهم، وهم في ذلك مثل الترك.
الرقم ستة له قصة سياحة غريبة، فقد وفد إلى العربية من الصينية واتخذ له مكانا في سلسلة الترقيم العربي المشرقي، أما كيف قطع كل هذه المسافة وصولا إلى العراق العباسي؟ فلا أحد يستطيع أن يجيب عن السؤال.
الرقم سبعة هو الآخر حائر، فهو خوارزمي الزوايا بشكله ولكن زاويته حادة واحدة مقلوبة إلى أعلى، وهو بذلك فارسي سِندي ومثله الرقم ثمانية.
فيما تتشابه التسعة في لغات عديدة ومنها العربية والعربية المشرقية والهندية الأفانغارية والفارسية، والفوارق التخطيطية بينها متقاربة وتتناول في الغالب اتجاه الدائرة في أقصى الرقم.
أما الصفر فيرسمه الفرس دائرة صغيرة مستديرة، فيما رسمته العرب كما أسلفنا بنقطة، وعدّه الأقدمون ثقبا (فراغا)، واعتبره الخوارزمي إهليلجا بيضويا.
ألفية الصكار
ولعل الأرقام الشائعة في العالم كله اليوم 1 2 3 4.. هي الأرقام العربية كما تكاد تجمع الدراسات الحديثة. وتعزز الانتشار في العصر الرقمي بشيوع وسائل الاتصال الحديثة وتصاغر العالم العولمي، إلى حد أن الأطفال في أقصى أرجاء المعمورة يتحاورون بالأرقام عبر العالم على هواتفهم المحمولة غير عابئين بخلافات البالغين وحساسياتهم القومية والتاريخية واللغوية.
|
وفي القرن العشرين وإبّان تنامي المد القومي، سنّت حكومة العراق في عهد الرئيس أحمد حسن البكر قانون استعادة وإحياء اللغة العربية، وتبنت مجلة آفاق عربية التي كانت رائدة في ترويجها للثقافة العربية نشر هذه الثقافة. وسنّت الدولة قانونا يحتم على الجميع استخدام الأرقام الدولية 1 2 3 4.. برسمها الشائع، فباتت المكاتبات الرسمية تستخدم هذه الأرقام وتصفّح الكتب – حتى المدرسية والأكاديمية منها- بهذه الأرقام، ثم نجح الفنان والخطاط العراقي محمد سعيد الصكّار في أن يصنع ألفية عربية للكي بورد الخاص بالكومبيوتر، فبات الحرف العربي شائعا كما نراه اليوم في لغة الكومبيوتر.
لكن، ولسبب غير معلوم تضاءل الاهتمام باستعادة الرقم العربي، وعاد عراق صدام حسين لاستخدام الأرقام الهندية الفارسية رغم حرب السنوات الثماني مع إيران. ولعل من المناسب أن تهتم الجهات المختصة في العالم العربي اليوم باستعادة الرقم العربي ونشر استخدامه وتعليمه في مناهج الدرس، توحيدا لنهج الأرقام والتحاقا بركب العصر الرقمي الدولي ولغته، حيث الترقيم العربي الأوروبي هو الأوسع انتشارا في ثقافات وعلاقات ومعلومات واتصالات هذا العصر.
العدد العربي أم العدد العبري؟
المفارقة الغريبة هي أن العدد العربي، ويا للعجب، هو نفس العدد العبري بفروق لفظية بسيطة جدا ويشذّ عنه العددان ستة وعشرة فحسب:
واحِد، أحَـد: اَخات.
اِثْـنان: شْتاین.
ثَلاثـة: شِلوش.
أربَـعة: اِربــه.
خَمسة: خَمِش.
سِــتّـة: شِش (وهي فارسية بكل تأكيد وليست عبرية، فلماذا خلت العبرية من الرقم 6).
سَبعـة: شِــوا.
ثَمانیــة: شِمُــنه.
تِســعة: دِیـشه.
عَشْرة: اِثِـل ( ويقال إنه وافد من الآرامية بهذا اللفظ).
بعد هذه السّياحة الرقمية العددية، ليس بوسع المرء إلا أن يسأل، إذا كانت الحضارات والأمم واللغات والثقافات ومراحل الوعي قد تداخلت وتماهت وتناغمت مع بعضها إلى هذا الحد، فلم اقتتلت الشعوب وأبادت بعضها؟ وكيف تلاشت حضارات وخلدت أخرى؟