الرسالة التي عاد بها الشيباني من بروكسل إلى دمشق

الخوف ألاّ تعمل الحكومة الانتقالية في سوريا وفق الرسالة التي حملها وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني معه، عائدا من بروكسل بعد أن شارك في جلسات المؤتمر التاسع للمانحين حول سوريا.
الرسالة، التي أرادت دول الاتحاد الأوروبي إيصالها إلى الحكومة السورية ضمّنتها في بيان صحفي، جاء فيه أن “جميع الإجراءات في سوريا لن يتم تنفيذها من خلال الحكومة الانتقالية السورية بل حصرا من خلال وكالات الإغاثة التابعة للأمم المتحدة ومنظمات غير حكومية،” تحمل معنى واحدا لا يحتمل التأويل: نحن لا نثق بكم، لكن نمتحنكم حتى النهاية.
الاتحاد الأوروبي جاد في رغبته برؤية الاستقرار والهدوء يعودان إلى سوريا، على الأقل لوقف أفواج المهاجرين الذين قد تملأ قواربهم مياه البحر المتوسط وتلقي بهم على السواحل الأوروبية في حال خرجت الأمور عن السيطرة، وقد لا تكتفي بروكسل مستقبلا بفرض قيود اقتصادية إضافية على حكام سوريا الجدد في حال فشلوا في تحقيق الاستقرار والهدوء.
◄ مقارنة بالعراق وليبيا، تواجه سوريا تحديات اقتصادية هائلة نظرًا إلى افتقارها إلى الثروات النفطية الكبيرة التي تساعد على تحقيق الاستقرار الاقتصادي في ظل الأزمات
لا توجد في سوريا أكثرية يمكن أن تستفرد بالحكم. سوريا بلد من بلدان قلة الأكثرية فيها هي الأقلية، وتشمل: الدروز والعلويين والمسيحيين والأرمن والشركس والأكراد والتركمان والشيعة.. هي أكثرية مشكلة من أقليات لا يمكن تجاهلها، ولا بد من أن تشارك في صنع مستقبل سوريا.
إذا كان الرئيس أحمد الشرع ومن معه يفكرون بعقلية “نتمسكن حتى نتمكن”، عليهم أن يعيدوا تقييم الأمور.
مؤكد أن أوروبا وضعت فترة الحروب الصليبية خلفها. لكن، سوريا لم تفقد أهميتها، إنها العقدة التي تربط بين ثلاث قارات، وبسواحل تطل على شرق المتوسط تشكل بوابة عبور إلى دول القارة العجوز.
على حكام سوريا الجدد ألاّ يفكروا أن بإمكانهم الاستفراد بحكم سوريا، وأن يقولوا فعلها الأسد، لماذا لا نفعلها نحن. حافظ الأسد استلم الحكم وعدد سكان سوريا لم يصل بعد إلى 7 ملايين، اليوم عدد سكان سوريا 26 مليونا وأكثر.
في السبعينات كان الدولار يعادل ثلاث ليرات تقريبا، اليوم الدولار الواحد يساوي 13 ألف ليرة. وكانت سوريا حينها مكتفية غذائيا ولم تكن تواجه مشكلة الجفاف.
حافظ الأسد وضع يده على بلد لا يعاني أيّ مشاكل اقتصادية، وسلّمه لابنه ليدخله غرفة الإنعاش، ويتركه محطما في وضع لا يسمح له باسترداد عافيته دون مساعدات خارجية. 800 مليار هو الرقم الذي تحتاجه سوريا لإعادة بناء ما دمرته السنوات الـ14 الأخيرة.
هرب بشار الأسد من سوريا تاركا وراءه بلدا اقتصاده قائم على تهريب المخدرات، المنتج الوحيد فيه هو الكبتاغون. وما أن ضعفت قبضة إيران وروسيا حتى انهار نظام الأسد دون أيّ مقاومة تذكر.
السهولة التي تمت فيها عملية انتقال السلطة يجب ألاّ تخدع الحكومة المؤقتة، ما استلمته هو بقايا دولة، ولن تجد في حال انقلبت الدول الأوروبية عليها ما يكفي لإطعام مقاتليها، فما بالك بدفع رواتب أجهزة الأمن والموظفين والعاملين بالدولة وإعادة الكهرباء والخدمات الصحية والتعليمية وخدمات النقل.
◄ إذا كان الرئيس أحمد الشرع ومن معه يفكرون بعقلية "نتمسكن حتى نتمكن"، عليهم أن يعيدوا تقييم الأمور
التفاؤل بالتغيير الحاصل في سوريا الذي أبدته الدول الأوروبية، سرعان ما اصطدم بتشكيل هيئة حكم انتقالية جاءت من لون واحد، لكنها قبلت الأمر على مضض. تلا ذلك الإعلان الدستوري الذي لم يكن بالمستوى المنتظر والمأمول. فما حدث بعد ذلك من مجازر في مدن الساحل السوري وقراه طالت الطائفة العلوية دفع الدول الأوروبية إلى الاستنفار بانتظار أيّ خطأ جديد قد يؤدي إلى سحب الثقة من الحكومة الانتقالية، وهي الآن تنتظر أن ترى خطوات جدية تقوم بها الحكومة السورية لمعاقبة مرتكبي الجرائم وإعادة بناء الثقة.
أقل ما يمكن لدول الاتحاد الأوروبي القبول به هو انتقال سياسي يضمن تمثيل جميع مكونات المجتمع السوري، مع التركيز على بناء نظام قائم على المواطنة بدلًا من الطائفية.
دول القارة العجوز تعلم بحكم التجربة أنه ما كان لها أن تخرج من العصور المظلمة لولا عملها بشعار “الدين لله والوطن للجميع”، وهي لن تقبل بأقل من ذلك، من أيّ حكومة تقود سوريا مستقبلا.
وهذا يتطلب جهودا مخلصة في العمل على مكافحة الجماعات الإرهابية ومنعها من استغلال الفراغ الأمني، وبناء مؤسسات قوية مستقلة تضمن سيادة القانون وحماية حقوق الإنسان، وإطلاق مبادرات للمصالحة الوطنية، ومعالجة الجراح التي خلّفتها الحرب.
◄ مؤكد أن أوروبا وضعت فترة الحروب الصليبية خلفها. لكن، سوريا لم تفقد أهميتها، إنها العقدة التي تربط بين ثلاث قارات، وبسواحل تطل على شرق المتوسط تشكل بوابة عبور إلى دول القارة العجوز
هذه الخطوات تتطلب إرادة سياسية ودعمًا دوليًا حقيقيًا لتحقيق الاستقرار ومنع تكرار السيناريوهات الكارثية التي شهدتها دول أخرى.
فقط إذا تم تنفيذ هذه الإجراءات بحكمة، يمكن لسوريا أن تتجنب مصيرًا أكثر قتامة ممّا حدث في العراق وليبيا.
العراق وليبيا يمتلكان ثروة نفطية كبيرة ساعدتهما على الصمود، رغم عقوبات فرضت عليهما، بينما سوريا لا تمتلك مثل تلك الثروات، وهي في وضع اقتصادي منهار.
مقارنة بالعراق وليبيا، تواجه سوريا تحديات اقتصادية هائلة نظرًا إلى افتقارها إلى الثروات النفطية الكبيرة التي تساعد على تحقيق الاستقرار الاقتصادي في ظل الأزمات. وإذا سارت الحكومة الجديدة المؤقتة في سوريا بنهج العراق وليبيا دون تكييف هذا النهج ليتناسب مع واقع سوريا، فقد تكون فرص الصمود والنجاة أمامها محدودة للغاية، هذا إن لم تكن معدومة.
أيضا، لا يغيب عن الذهن حدود سوريا المشتركة مع إسرائيل التي تراقب تطورات الوضع السوري الداخلي وتنتظر أيّ موقف دولي معاد لها للانقضاض على خاصرتها الضعيفة في الجنوب.
حتى هذه اللحظة أبدى الشرع ومن معه من الحكمة ما يدفعنا للقول إنهم يدركون هذه الحقائق، لكنهم يطلقون بالونات اختبار لقياس مدى قبول الشارع السوري نهجهم الذي اختبروه في إدلب على نطاق ضيق. ونأمل أن يكون الأمر قد اتضح بالنسبة إليهم الآن؛ السوريون لن يقبلوا بأقل من دولة حرية العقيدة فيها مصانة للجميع.