الرداءة الفنية تزحف باسم دعم القضية

هل قدر هذه القضية التي ساندها أحرار العالم ومثقفوه واعتبروها من أهم حركات التحرر أن يسيء لها بعض أبنائها من حيث لا يقصدون فيدعمونها بما يشبه القصائد واللوحات والأغاني والموسيقى والملصقات.
الأربعاء 2023/11/22
بئس هذه المساندة وبئس هذا الدعم

عام 1937، أغارت القوات النازية مع حليفتها الفاشية على مدينة غارنيكا الإسبانية دعمًا للقوميين المتعصّبين ضدّ حكم الجمهوريين في تلك الحرب الدامية، وخلفت وراءها دمارا مرعبا.

جاء الفنان بابلو بيكاسو، واستوحى جداريته الشهيرة من تلك الكارثة مستلهمًا اسمها من شجرة الغارنيكا كرمز للحريّة.

كُتب الخلود لتلك الرائعة الفنية منذ عرضها في باريس عام 1937، وظلت أقوى وأشهر ما ينشط الذاكرة، ويسجل انتصارا ساحقا للفن في مواجهة الحرب لما لها من قوة تعبيرية ضاربة، كما يُسجل لبيكاسو قوله لأحد النازيين حين سأل عن سر العبقرية الكامنة خلف صناعة الجدارية الأخاذة: من صنع الغارنيكا هو وحشيتكم ولست أنا.

الآن، وبعد 86 عاما على تلك المجزرة التي ألهمت بيكاسو، صناعة الجدارية، يحدث في غزة الفلسطينية ما هو أشبه بتلك الفظائع، مع بعض الفوارق في التسميات والتقييمات والالتباسات، لكننا، وفي جملة الأصداء والتفاعلات الأدبية والفنية العربية مع الحدث، لم نُحظ بمثل “غارنيكا بيكاسو” في الفن التشكيلي و”حرية بول إيلوار” في الكتابة الشعرية وأعمال مسرح جان كوكتو، اليساري الثوري، صديق المغنية الأسطورة إيديت بياف، والتي ساهمت في حماية اليهود من بطش النازية.

التهافت على أحداث غزة عبر الأعمال السيئة المكرسة للرداءة وانحطاط الذائقة يمثل أزمة فوق أزمة أي لا يكفي ما يعانيه الشعب الفلسطيني من ظلم قوات الاحتلال وإنما يضاف إليه "ظلم ذوي القربى"

لماذا يكثر عندنا الصراخ ويحتل المشهد الفني السائد غالبية من المتهافتين والمتنطعين ومتواضعي الموهبة فيروجون لأعمال فقيرة المحتوى الفني، ولا مبرر لوجودها إلا ادعاء المساندة للمسألة الفلسطينية؟

هل قدر هذه القضية التي ساندها أحرار العالم ومثقفوه واعتبروها من أهم حركات التحرر منذ ما يقارب ثلاثة أرباع القرن، أن يسيء لها بعض أبنائها من حيث لا يقصدون، فـ“يدعمونها” بما يشبه القصائد واللوحات والأغاني والموسيقى والملصقات.

بئس هذه المساندة وبئس هذا الدعم الذي يتزاحم فيه أشباه الفنانين والأدباء لتقديم أعمال بائسة ومعارض تعيسة لا لشيء، وإنما لتسجيل مشاركتهم والقول بأنهم لم يتخلفوا عن الركب، وكانوا “حاضرين في اللحظة التاريخية”.

إذا كان الأمر كذلك، فالصامتون والمستنكفون والمبتعدون أولى بالاحترام من أولئك الذين يسعون إلى أن يكون لهم “في كل عرس قرص”، ذلك أن الإبداع الفني لا يعترف بمقولة “العبرة بالمشاركة” ونحن لسنا في مهرجان خطابي من تلك التي تقيمها الأنظمة التوتاليتارية بل بصدد التعبير بنبل ورقي عما نعتبره نبيلا وراقيا في القضية الفلسطينية.

الغوغائية لا تصنع فنا، وليس بإمكانها أن تدعم قضية عادلة عبر منطق التحشيد والصراخ.. هذا ما لم يستطع هؤلاء فهمه أو أنهم فهموه لكنهم ركبوا الموجة الشعبوية أملا في كسب جماهير إضافية لأن غالبية الفئات العمرية التي تحتشد اليوم في الشوارع والساحات للتنديد بالعدوان على غزة، هي نفسها التي تملأ المدرجات والمسارح الصيفية في الحفلات الغنائية.

وعليه فإن عملية كسب الجماهيرية تمر عبر بوابة الأغاني الشبابية والإيقاعية الراقصة أو الأناشيد الثورية الحماسية ضد الاحتلال الإسرائيلي، كما أن صور بعض الشخصيات الشعبوية في عالم السياسة تشبه إلى حد بعيد صور وجوه في عالم الغناء الشعبي، إذ إن التداخل في هذا الجانب واضح وكثير ومتداخل إلى حد بعيد.

ما على السلطات وجهات الإشراف العربية التي تنضوي تحت إدارتها هذه المهازل التي تسمي نفسها بحملات الدعم والتضامن، إلا أن تضع لها حدا بتطبيق الحد الأدنى من المعايير الفنية

إذا كان هناك من نموذج يجيد تشخيص عبارة “اختلاط الحابل بالنابل” فهو ما يحدث حاليا في إطار بـ“دعم غزة الثقافي والفني”، إذ يندر ويغيب الحقيقيون ليظهر المزيفون والأشباه فيملؤون الفراغ ويسوقون للرداءة الفنية واثقين من أن لا أحد سيمنعهم من الظهور طالما أنهم يمتطون صهوة القضية الفلسطينية.

ودخل الكثيرون على هذا الخط الساخن طلبا للشهرة أو استدعاء لها من أجل المزيد من الشهرة، وهكذا أمست المسألة أشبه بالبازار سيء السمعة، في حين أن المجتمعات المتقدمة كما نشاهدها في العالم المتطور، تستحضر تاريخها الوطني والنضال بالكثير من الإكبار والإجلال والرقي عبر مثول مشاهيرها في حفلات مهيبة دون فذلكة واستعراض رخيص كما يحدث في بعض البلدان العربية الآن وللأسف الشديد.

آن الأوان أن نشبه العالم المتحضر لأن قضيتنا إنسانية صرفة ولا يليق بها الابتذال. ولدينا من النماذج المشرقة ما يقيم الدليل على أن بإمكاننا صناعة فن يرقى بفلسطين نحو العالمية، ليس على المنابر السياسية فحسب بل في المحافل الفنية والثقافية الراقية، أسوة بما فعله محمود درويش في الشعر وإميل حبيبي في الرواية وناجي العلي في الكاريكاتير ومصطفى الحلاج في الفن التشكيلي وإيليا سليمان في السينما وإدوارد سعيد في الفكر، وليس الفلسطينيون فقط بل غيرهم من المبدعين العرب.

وبالفعل، فإن التهافت على أحداث غزة عبر الأعمال السيئة المكرسة للرداءة وانحطاط الذائقة يمثل أزمة فوق أزمة أي لا يكفي ما يعانيه الشعب الفلسطيني من ظلم قوات الاحتلال وإنما يضاف إليه “ظلم ذوي القربى” المتمثل في التدمير القسري للذاكرة والذائقة.

وما على السلطات وجهات الإشراف العربية التي تنضوي تحت إدارتها هذه المهازل التي تسمي نفسها بحملات الدعم والتضامن، إلا أن تضع لها حدا بتطبيق الحد الأدنى من المعايير الفنية.. ومن أراد الصراخ فله الشارع وليس القاعات المخصصة للفن والثقافة.

9