الرجل ليس أسعد من المرأة والمدينة ليست أقل عنفا من الريف

هل الرجل العربي أكثر حرية وأكثر اتساقا وأقدر على التعبير عن نفسه من المرأة في إطار طبيعته الذكورية؟
الأحد 2022/12/11
الخطأ يكمن في التربية (لوحة للفنانة سارة شمة)

جلّى المفكر أحمد برقاوي ذهنية مدنية مُبدعة، بإعادته تعريف مفهومي المدنية والريفية في مقاله “المدينة والثقافة الإبداعية” المنشور على موقع “الناس نيوز”، وميز بين ذهنية الخلق والإبداع والتي مثلتها المدينة عبر التاريخ برأيه، وذهنية الريف التي ربطها بالعسكرة والهدم.

 وإن كنتُ لا أتفق، وليسمح لي الدكتور برقاوي في اعتماده العمل كأساس لهذا التمييز، فليس على أساس العمل وليس على أساس البشر، فمثلما هناك أناس يعودون إلى الطبيعة بذهنية مدنية بحسب تعبيره، هناك أناس يتجهون من القرية إلى المدينة أو حتى يمارسون الزراعة بذهنية المدينة، لتراعي شروط حماية البيئة والإنتاج العضوي، ثم من قال إن ذهنية التجارة/التاجر هي أكثرُ مدنية من ذهنية الزراعة/فلاح، وأُقترح أن يكون أساسُ هذا التمييز هو ذهنية التعاطي مع العمل وما يمكن أن ينتجه، أي أن نفس العمل يمكن أن تمارسه إما بذهنية مدنية أو بذهنية ريفية.

فمثلا كلمة فلاح في مصر، تحولت من مفردة كانت تشير إلى الأراضي الزراعية والزراعة والتمسك بالقيم والتمازج مع الأرض وعدم التخلي عنها، لأن تصبح صورة تشير إلى غير القادرين على التماهي أو مواكبة الحياة الجديدة وغير الأنيقين في التعامل وغالبا التخلف.

وهذا ليس له علاقة بالمفردة نفسها بل بصورتها في الأذهان، وهي أتت نتيجة الظروف الفلاحية في مصر، والتي ارتبطت في الغالب بكون الفلاح هو العامل لدى الإقطاعي، والذي لم يكن حتى يمتلك الأرض وبالتالي لا يمتلك قراره.

الكثير من المشكلات في واقعنا يبدأ من صِحة ودقة وصفها أي كيفية التعاطي مع المفردات المستخدمة المتعلقة بها
الكثير من المشكلات في واقعنا يبدأ من صِحة ودقة وصفها أي كيفية التعاطي مع المفردات المستخدمة المتعلقة بها

ولكن ما أودُ الارتكاز عليه، هو قيام الدكتور برقاوي بتمثيل ذهنية المدينة، في إعادة التعاطي مع مفردتين، وإعادة تعريفهما بشكل أدق وأكثر مدنية وملاءمة لعصرنا واستخدامات اللغة فيه، وذلك بعد أن قام بنزعهما من نطاقهما الجغرافي والبيئي ليضعهما في نطاق قدرة كل منهما على الخلق أو على الهدم، أي الفعل والتأثير، بعيدا عن الإطار المادي الخاص بهما.

الذهنية الريفية وما صبغت علاقاتنا الاجتماعية به، أساليب التعامل والتفاعل، وحتى أساليب التربية والتعليم، أنتجت تعاطيا فجّا مع بعض المفردات لتشعر بالوجل والقلق حال سماعك إياها، هذه الفجاجة تجاوزت المفردات لتُعمقها إلى مشكلات مجتمعية حقيقية، أي أن الكثير من المشكلات الاجتماعية نتج عن ممارسة هذه الريفية على اللغة، وأظن، أننا لو طبقنا الذهنية المدنية في تعاطينا مع مفردات اللغة العربية سننجو ونقلل من حجم العُقد وعددها والمشاكل في مجتمعنا العربي.

من المهم تتبع متى نشأت هذه الريفية، ولا أحصرها بالعسكرة كما فعل الدكتور برقاوي، لأن في كلتا أعرق المدن، دمشق والقاهرة، شهدنا حكما عسكريا ولكن حافظت اللغة على ألقها ومدنيتها.

وبرأيي، أنها ازدادت مع اتجاه الحياة إلى الشكل الاستهلاكي أكثر، لأنها عمقت أهمية المادة على حساب الفعل والخلق، وأفرغت بعض المفردات والمفاهيم من معناها، ليُصبح ابن الناس، في مصر، هو ذو المستوى العالي ماديا والذي يمتلك السيارة والحساب البنكي، وفي دمشق، هو التاجر، بعد أن كان دائما هو المثقف الذي لا يتعب من حمل الكتب والغوص فيها.

حتى وصلنا في وقتنا الحالي، أمام نفس اللغة بمفرداتها التي نعرفها، لكننا نرى لغة رثة وجامدة، وإذا رأيناها كفستان أنثى، فقد أصابه حد من الرثاثة لا يليق بالمطلق بجسد هذه اللغة ورشاقته.

ربما تتجلى الذهنية الريفية خير تجل في الحديث العامي، والذي يشكل خطرا على اللغة العربية، ليس بسبب تداوله بعيدا عن الفصحى، ولكن بسبب تشبعه بعنف المفردات وريفيتها، فمثلا ببساطة ودون أن يشعر الأهل بهول الكلمة يقولون لطفل لم يتجاوز عمره السنوات “رح أذبحك” وهذه مشكلة ليست في اللفظ نفسه، فله استخداماته المُحقة في أماكن أخرى، لكن المشكلة في تعاطينا نحن مع هذا اللفظ، وهو التعاطي المنعكس من عادات وأساليب تربية عنيفة مورست على الأطفال ودون أن ننتبه مورست على اللغة.

بتنا نسمع في حياتنا العادية، في البيت، العمل، وسائل النقل، في المُزاح وحتى في كلمات التشجيع عنفا غير محدود، مرتبطا بذهنية ريفية قاسية، إلا أن هذا مرده إلى أساليب التعامل والتفاعل والتربية ونُسِبت زورا إلى اللغة العربية، فتغلغلت في الاستخدام حتى باتت هي اللغة المُتداولة.

يجب أن يكون هناك تشكيك أو إعادة تعاط مع كافة المفردات وأعني كافة بحرفيتها علنا نحصل على ثقافة جديدة.

فحتى في إطار أوصاف الشخصية، كأن نقول عن شخص إنه مزاجي، أين المشكلة أنه مزاجي، فهذه صفة شخصية ينتج عنها ما ينتج من مقومات لتخدم مهنة أو موهبة معينة كالفنان مثلا، أو شخص يغلب عقله كثيرا على قلبه، فيوصف أنه بارد، ولكن هو في دقة الوصف عقلاني، وأيضا يمكن أن ينجح في مهنة دون أخرى كمجال الكمبيوتر، كذلك السياسي، فكم يُرى السياسي بنظرة أنه عديم الأخلاق، بينما في الحقيقة السياسة هي فن تحصيل المصالح، إذا لا بد من خلع الوصمة التي ترتبط بهذه الأوصاف وتجحفها دون وجه حق، وإعادة تعريفها بشكل موضوعي وبحسب متطلبات العصر الحالي.

عنف غير محدود مرتبط بذهنية ريفية قاسية
عنف غير محدود مرتبط بذهنية ريفية قاسية

أؤمن أن أساس الكثير من المشكلات في واقعنا يبدأ من صِحة ودقة وصفها، أي في كيفية التعاطي مع المفردات المستخدمة المتعلقة بها، وصورة مفردة النسوية تحمل فجاجة، تراكمت عليها من غبار ذهنية الريف التي مورست بها، فهناك استعداد مسبق للهجوم لدى المرأة، والتوجس والتهكم لدى الرجل عند سماع مفردة النسوية أو حقوق المرأة.

ما هي فكرة الآخرين عن النسوية، وطبعا ما يعنيني في الآخرين، من هم في مجتمعنا العربي، وهل فعلا استطاعت النسوية في محيطها العربي توصيف نفسها بحقيقة غايتها المرادة؟

إذا أردنا فعلا أن نُعيد تعريف النسوية بذهنية مدنية، وبالطبع لستُ أقوم بذلك، فلدينا من النسويات الجديرات بهذا الدور وكلي ثقة أنهن يحملن هذه الذهنية المدنية، ولكن لنطرح بعض الأسئلة التي ربما تساعدنا في توجيه الأنظار.

هل الرجل العربي أكثر حرية وأكثر اتساقا وأقدر على التعبير عن نفسه من المرأة في إطار طبيعته الذكورية؟ هل الرجل أكثر تحررا من المرأة في عالمنا العربي؟ هل هو أقلُ تعرضا للعنف؟

ربما هو أكثر تواجدا في سوق العمل عموما، لكن ذلك أبدا لا يجعله قد يحصل على حقوقه ليكون معيارا للمساواة في العالم العربي تحديدا، بحسب النسوية. المشكلة الحقيقية في مجتمعنا هي في العنف المُطبق في التربية على كلا الجنسين.

الرجل والمرأة في واقع مشترك (لوحة للفنان عصام معروف)
الرجل والمرأة في واقع مشترك (لوحة للفنان عصام معروف)

الرجل أكثر عنفا ليس تجاه المرأة فقط بل تجاه نفسه، فهو ليس أكثر سعادة من الأنثى وهو يطبق العنف على نفسه وعلى المرأة وعلى أي شيء أضعف منه، العنف هو حصيلة العنف، ونرى أن هناك الكثير والكثير من السيدات ممن يمارسن العنف على غيرهن بسبب أو دونه، وفي الأسر السويّة لا يمكن أن تلاحظ عنفا من أي رجل على امرأة أو على غيرها حتى في ذات المجتمع، فأساس المشكلة ليس في عنف الرجل المطبق على المرأة، بل في العنف المطبق من الوالدين، المدرسة والمجتمع على الأطفال منذ الصغر، وهذا العنف ليس بالضرورة أن يكون جسديا فقط، ولكن أيضا في القالب والصورة المُعدة مُسبقا للطفل لوضعه فيها.

وفي الحقيقة، وهذا يُحسب للمرأة التي أراها رمز التغيير دائما، حيث وبينما تعمل وتسعى المرأة للخروج من العباءة المُفصلة لها، نجد أن غالبية الرجال، وفي قهر أكثر ارتدادا على أنفسهم أولا، يعملون على ترسيخ دورهم المفصل، موغلين في حِملِ عبء شديد سيكونون أكثر اتساقا وتحررا دونه.

ولا ألغي أو أخفف من كمية العنف المطبق على المرأة وشدته وقسوته، ولكن أنظر إلى أساس المشكلة، فاستمرار النظر إلى الأعراض دون الوصول إلى أساس المشكلة، سيجعل الأمر كمن يتعامل مع اضطراب التوحد، الذي لا علاج له حتى الآن، هناك فقط تعامُل وتعديل للأعراض التي يخلقها التوحد.

لن تتحسن علاقة الذكر بالأنثى إلا إذا تغيرت مفاهيم الاثنين عن الآخر، بدءا من فكرة الأنثى أن الرجل كائن غريزي، وإدانته في الكثير من الأحيان بسبب هذه الرغبة، وليس انتهاء بفكرة أن النسوية هي أن تتبختر المرأة على حل شعرها.

جزم الدكتور برقاوي أنه لن يُتاح استعادةُ روح الثقافة دون استعادة روح المدينة وذهنيتها المغدورة، وطبعا وهذا بالتأكيد ينطبق على اللغة ومفرداتها.

لكن خطوة الدكتور برقاوي بالتأكيد ستُغني اللغة العربية بإعادة التعاطي مع مفردتين بذهنية المدينة الإبداعية، وهو ما نحتاج إلى تعميمه في الكثير من الكلمات والعبارات، فنعم نحتاجُ تجديدا في اللغة كما نحتاجه في تجديد الخطاب الديني بالضبط. نحتاجُ إلى خلق صور جديدة لمفردات نثبتها من خلال ممارسات واستخدامات تُلغي صورا بالية لطالما طبقتها وثبتتها عقلية الريف، للحفاظ على رشاقة اللغة الأصيلة فيها، بتخفيف العُقد وجعل حركة الكلمات أسهل، خاصة بدخول تخصصات وتفرعات كثيرة في العصر الحالي، فربما نحتاجُ إلى شرطي مرور مجتهد ومدني، يُنظم حركة الكلمات. فاللغة غاب عنها التجديد حتى أُصيبت بحالة تصلب العضلات وهي حالة لا سبب لها غالبا إلا عدم الحركة.

* ينشر المقال بالاتفاق مع مجلة "الجديد" الثقافية اللندنية

10