الرجل في كتابات النساء العربيات إنسان شوهته الرغبة والنصوص التجارية

بهاء الدين محمد مزيد: الطيبون لا يصلحون ليكونوا شخصيات روائية.
السبت 2022/06/25
متسلط قامع وشهواني.. صورة نمطية للرجل (لوحة للفنانة زينة مصطفى سليم)

الكتابة فعل لا يتم بمعزل عن المجتمع الذي تنشأ فيه والأفكار الرائجة فيه، حتى وإن ادعى الكتّاب العكس. وفي المجتمعات العربية مع انتشار الفكر النسوي والأعمال التي تتناول قضايا المرأة العربية وواقعها الصعب، راجت العديد من الأفكار النسوية المؤثرة والهامة، وفي المقابل راجت أيضا المغالطات التي نجدها في مختلف الأعمال الفنية ومنها صورة الرجل.

كيف صورت المرأة العربية روائية وقاصة الرجل العربي في كتاباتها؟ أو بالأحرى كيف تراه وترى لرؤيته لها ولالتباسات علاقتهما؟ تساؤلات إشكالية لم تأخذ حظها من الدرس والتمحيص والتحليل، فقليلة هي الدراسات النقدية المعاصرة، سواء منها الأكاديمية أو المتخصصة المهتمة بقراءة الأعمال الروائية والقصصية وتحليلها، والتي اشتغلت على صورة الرجل في كتابات المرأة.

يشتغل الناقد المصري بهاءالدين محمد مزيد على قضية هامة ومتروكة نقديا في كتابه الجديد "صورة الرجل في سرديات نسائية عربية”، والذي اشتغل فيه على نصوص سردية نسائية عربية - عربية، بمعنى أنها قاصرة على كتابات نسائية عربية باللغة العربية، فلا تشير إلى كتابات المرأة العربية في المهجر والمنافي بلغات أخرى.

الدراسة ليس فيها ـ وفقا للمؤلف ـ أيّ تحيزات جغرافية أو إقليمية أو إلى كاتبة دون غيرها، أو إلى متون على حساب هوامش تقليدية، فقد انتهى زمن المتون والهوامش، وتعددت وسائط النشر ووسائله، وتعددت الأصوات واللهجات، وسقطت المسافات والحدود التقليدية في زمن الرقمنة والفضاءات المفتوحة. لذا اجتهدت الدراسة في تمثيل كل الأقطار العربية وكل الأجيال والتوجهات الفنية. وتمكنت من تقديم رؤية تحليلية لمدارات السرد وانشغالاته الفكرية والموضوعية والقضايا التي يتناولها وللبناء السردي والتفاعل بين الشخصيات.

مجمل النصوص التي تتناولها الدراسة – باستثناء قليل منها- صدرت بين العقد الأخير من القرن الماضي والعقد الثاني من القرن الحالي، وقد بدأت بإطار نظري يعرض باختصار لمفاهيمها المهمة وهي “الصورة”، أو “التصوّر” و”الرجل” وتعريف النص السردي، ثم الكتابة النسائية أو النسوية، ومفاتيح تحليل الشخصية مع تطبيق ذلك في قراءة قصة “حكيم القرية” لملكة الدار محمد، و”أنا أحيا” لليلي بعلبكي. ثم تشير الدراسة إلى بعض الدراسات السابقة التي تناولت صورة الرجل في الكتابات السردية النسائية العربية.

تستعرض الدراسة، التي صدرت بالتعاون بين مجلة “ميريت” الثقافية ودار الأدهم للنشر، أكثر من ثلاثين نصا سرديا نسائيا عربيا تبحث فيها عن صورة الرجل مع ما يناسب ذلك من شواهد من تلك النصوص. وبعدها تسعى لرصد العوامل التي تتشكل بها صورة الرجل في تلك النصوص، وتشمل هذه العوامل أول ما تشمل المرأة التي تَرى والرجل الذي يرى، من تلتقط الصورة ومن يظهر في الصورة، ثم متى وأين يكون لقاؤهما، وما الظروف التي تحيط بهذا اللقاء، عوامل مهمة تنتهي إلى تمظهرات سلبية أو موجبة، تضاف إليها من خارج النص ثقافة الكاتبة وخبراتها وتجاربها.

الأدب التجاري

كذوب خائن وشبق.. صفات الرجل التي لا محيد عنها (لوحة للفنانة زينة مصطفى سليم)

تنتهي الدراسة بضوء ساطع على نصوص سردية نسائية أخرى هي ومضات قصصية لمريم الحسن وقصص قصيرة جدا لماجدولين الرفاعي وفاطمة الكعبي وميسون حنا، ومقطع من رواية “الفردوس اليباب” لليلى الجهني، فتكون بذلك أضافت إلى الاستعراض التحليل، وإلى السياحة العابرة نظرة أكثر تعمقا في نصوص سردية قصيرة.

يخلص مزيد إلى أن الرجل في مجمل النصوص السردية النسائية التي تناولتها الدراسة، وأيضا في النصوص التي تناولتها دراسات أخرى: أولا كذوب خائن، ويتصل بذلك أن يكون في علاقات سرية عاطفية وجنسية من وراء خطيبته أو حبيبته أو زوجته. ثانيا شهواني شبق “عقله بين فخذيه” في رواية نوال السعداوي، لا يرى في المرأة إلا جسدا أو “ثقب متعة” في رواية فضيلة الفاروق، لا فرق في ذلك بين جاهل ومستنير. وقد يكون من طغيان شهوانيته أن يصير شاذا. ثالثا متسلط قامع يقهر ابنته وأخته وزوجته وقد يقهر أمه، ويفرض عليهن جميعا ما يناسبه لا ما يناسبهن. رابعا قاس عنيف مغتصب سادي، يغتصب حتى زوجته إذا استعصت عليه، وقد يداري بتلك القسوة ضعفه وعجزه.

ويضيف “قدر لا بأس به من تلك التصورات له أساس على أرض الواقع في ثقافة ما تزال في الكثير من جوانبها ‘ذكورية‘، لا ينبغي لرجل منصف أن ينكر ذلك. وقدر كبير منها ثقافة رائجة تتناقلها أجيال النساء وتتوارثنها وتتردد في نصوص الإعلام، وقد تنتقل إلى النصوص السردية، لأن النص السردي ينشأ وينمو في تربة ثقافية. ‘رجل عينه زائغة‘ ـ كما في رواية ‘أين روحي‘ للمصرية أروى إبراهيم ‘أهم شيء تدخلي غرفتك ده راجل عينه زايغه‘، ‘رجل بصباص‘، و‘فلاتي‘ ـ أي منفلت ـ و‘دون جوان‘، و‘نسوانجي‘، و‘زير نساء‘، و‘ذئب‘، و‘ثعلب‘، وّذيله نجس‘، ولا يؤتمن إلا كما يؤتمن على الماء غربال”.

والصفات من هذا النوع كثيرة بل لا تنتهي وهي تصور الرجل خانقا وجافا مع زوجته وأهل بيته، رقيقا منفلتا مع كل من سواهم. ويرى الناقد أن كثيرا من سيئات الرجال في النصوص السردية التي تناولتها الدراسة مرجعها إلى الرغبة في التوزيع والانتشار ـ خصوصا في النصوص التجارية التي يعوزها النضج الفني ـ وذلك لأن الرجال الطيبين الأخيار أهل الصدق والأمانة والأخلاق الحميدة لا يصنعون قصصا مثيرة، وهكذا الحال مع امرأة لها نفس هذه الصفات والسمات. قصص الطيبين والطيبات تصلح لخطبة منبرية أو كتاب مدرسي لكنها لا تحقق رواجا ولا إثارة في رواية تجارية.

الدراسة تحاول تمثيل كل الأقطار العربية وكل الأجيال لتقديم رؤية تحليلية لمدارات السرد وانشغالاته

ويؤكد “ليس في الروايات الناضجة لغويا وفنيا ـ وقليلة هي ـ قوالب مرصوصة أو أنماط سابقة التجهيز أو صورة مكرورة، لا عن الرجل ولا عن المرأة، ولا تقع الروايات النسائية العربية الناضجة في شرك إعادة إنتاج أوهام التفوق الذكوري، تفند هذه الأوهام، نعم، لكنها لا تقع في أشراكها. وليس فيها ضغينة مفتعلة إزاء الرجل، ضغينة مكرورة نمطية”.

ويضيف “هي في كل الأحوال تعبيرات عن وعي ومواقف ورؤى إنسانية في الوجود والبشر والحياة والمجتمع. ليس في الكتابات النسائية العربية الناضجة الراسخة تمرد لمجرد إعلان التمرد أو المتاجرة به، ولكن فيها مساءلة للأعراف الذكورية التي ظلت تسربل النساء جميعا في الحياة وفي الكتابة. على الغلاف الخلفي للأعمال القصصية لفوزية رشيد يكتب على الراعي أنك تقرأ أعمالها ‘فيقر في وعيك بقوة أنها إنسانة أولا، وامرأة بعد ذلك. غير أن هذا فصل مصطنع، الأولى أن نقول إن امرأة إنسانة تكتب هذه القصص، مشغولة بقضايا التحرر، وعلى رأسها تحرر المرأة من المجتمع، ومن الرجل، ومن المرأة أيضا‘”.

يشير مزيد إلى أن النصوص السردية تظل في توتر وصراع بين التنميط من جهة والتفرد من الجهة الأخرى، مع ميل النصوص التجارية إلى الأنماط المكرورة المستهلكة الجاهزة، وميل النصوص الناضجة إلى التفرد والخصوصية، مع الاعتراف بما يجمع البشر من سمات في كل زمان ومكان، ومع الاعتراف بالنزعات الثقافية والبيئية.

ويضيف “آية ذلك أن يجد المتلقي بعض ملامحه وبعض ملامح حياته وتجاربه في رواية أو قصة، لكنه لا يجد في أيّ منها نسخة طبق الأصل منه، وآية ذلك أن المتلقي يضع يده على تشابه بين الشخصيات في نصوص سردية شتى، لكنه لا يجد نسختين متشابهتين إلى حد التطابق في أيّ من هذه النصوص”.

التهويل والانحياز

تهميش الطيبين الأخيار من الرجال في هذه الدراسة أو سواها (لوحة للفنانة زينة مصطفى سليم)
تهميش الطيّبين الأخيار من الرجال في هذه الدراسة أو سواها نزعة تنم عن غياب الحيادية (لوحة للفنانة زينة مصطفى سليم)

يتساءل الناقد لماذا يغلب على النصوص السردية النسائية العربية التي تناولتها هذه الدراسة وتلك التي تناولتها دراسات أخرى غيرها تهميش الطيبين الأخيار، أو تقديمهم في صور باهتة شاحبة معتمة، وتصدير أهل والرذائل من الرجال، بينما تشير الدراسات القليلة التي تناولت روائيات من الغرب إلى نزوعهن إلى تقديم صورة ذكورية مثالية: ربما لأن مقدار ما يقع على المرأة العربية من قهر وتسلط وعنف ـ على أرض الواقع وليس في النصوص والخطب المنبرية وموضوعات الإنشاء والتعبير ـ أكبر ممّا يقع على نظريتها في الغرب. وربما لأن الثقافة العربية تحض على “درء المفاسد” أكثر مما تحض على “جلب المصالح” آية ذلك ما نجد في ثقافتنا من قلة الاحتفاء بالجمال والإنجاز وكثرة انتقاد القبح والإخفاق، فيكون تهويل الكاتبات العربيات سلبيات الرجال وسلوكياتهم الضارة سبيلا إلى الخلاص منها، أو التنفير منها، وذاك أضعف الإيمان.

 ومن ثم يمكن، في رأيه، للدراسات المستقبلية في هذا الصدد أن تعقد مقارنات بين صورة الرجل في السرديات النسائية العربية وفي السرديات النسائية الغربية، وبين صورة الرجل وصورة المرأة في تلك النصوص. وينبغي التعمق في دراسة العوامل التي تتشكل بها صورة الرجل في نصوص الروائيات العربيات، وفي دراسة تباين تلك الصورة من بيئة إلى بيئة، ومن زمن إلى زمن، ومن ثقافة إلى ثقافة، ومن نصوص ناضجة راسخة إلى نصوص تجارية يعوزها النضج.

تهويل الكاتبات العربيات لسلبيات الرجال وسلوكياتهم الضارة سبيل إلى الخلاص منها أو انخراط في خطاب مكرر

ويلفت مزيد إلى أن النصوص السردية لا تنشأ أو تعيش في فراغ، بل تتصّل بما يحيط بها من نصوص، في ثقافتها وفي غير ثقافتها، وبما يحيط بها من واقع، وبما يحيط بها وما فيها من بشر، وبشر يبدعونها، لغايات وأسباب ومن منطلق ثقافة وخبرات وتجارب، وبشر يتلقّونها في سياقات وبيئات، وبشر يعيشون فيها، يشبهون هؤلاء وهؤلاء ولا يشبهونهم، ونصوص من جنسها أو نوعها، أو من غيرهما، تتقاطع معها أو تتنافر أو تتصادى أو تتماهى، وواقع تقترب منه أو تبتعد، تعيد إنتاجه أو تعيد تشكيله.

ويتابع “بل تنشغل تلك النصوص وتتفاعل مع نفسها، مراجعة ومساءلة وتعليقا، وتوسطا بينها وبين مبدعها أو مبدعتها ومتلقيها ومتلقياتها. وفي كل حال ومن كل جهة، هي نصوص تخلق في فضاءات وتخلق فضاءاتها، تكتب أصحابها وصاحباتها بينما يكتبونها أو تكتبنها، وتعيش من بعد ذلك في قرائها كما يعيشون من بعد ذلك ومن قبل ذلك فيها”.

ويخلص مزيد إلى أن صورة الرجل في نصوص سردية نسائية عربية هي تصور “إنسان” في فضاء سردي أبدعته “كاتبة” تقع عليه عين “دارس” أو “باحث” لأغراض بحثية معينة. فكم من بشر في هذه الجملة وكم من سياقات بشرية ثقافية. وعلى سبيل التبسيط “نساء عربيات تكتبن عن رجال معظمهم عرب” وبين الكاتبة والمكتوب عنه فعل كتابة، وهو فعل بشري خالص، فيه بعض الواقع وفيه وجهة نظر، فيه إنصاف وفيه تحيز، فيه تهويل وفيه تهوين، فيه محبة وفيه نفور.

ويبين أنه في الكتابة عن الرجل ورسم ملامحه تقييم بعضه رد فعل في موقف في سياق، أو انفعال مؤقت، وبعضه خبرات وتجارب سابقة، وبعضه ثقافة محيطة ونصوص موروثة، وبعضه استنتاج من أقوال الرجل موضع التصوير وأفعاله وردود أفعاله وما يقال عنه وما يفعل معه وبه. بعض الرجال في تلك النصوص السردية النسائية حالات خاصة، وبعضهم أفراد في جماعة أو ثقافة، وبعضهم نماذج بشرية عابرة للثقافات والأماكن والأزمان. وفي كل تعميم قدر من البصيرة وقدر من الزيغ.

يذكر أن من بين النصوص التي اشتغل عليها مزيد في الدراسة “أين روحي؟” لأروى إبراهيم، و”حالات التعاطف” لنورا أمين، و”مشاعر بلا أقنعة” لإيمان مولدي بدة، و”نجوم أريحا” لليانة بدر، و”الأرجوحة” لبدرية البشر، و”أنا أحيا” لليلى بعلبكي، و”مقام عطية” و”البشموري” لسلوى بكر، و”سيدات القمر” لجوخة الحارثي، و”باب الساحة”، و”لم نعد جواري لكم” لسحر خليفة، و”اكتشفت زوجي في الأتوبيس” لدعاء عبدالرحمن، و”القلق السري” و”انعكاسات” لفوزية رشيد، و”وللحياة نوافذ أخر” لعائشة الزغابي، و”زينة الحياة” لأهداف سويف… وغيرها.

13