"الرجل النمرة".. حكايات منسوجة بروح الأسطورة وصراع النوازع البشرية

تثبت المدونة الأدبية العالمية أن أنجح التجارب الأدبية وأكثرها انتشارا في العالم هي تلك التي تستند إلى بيئة كاتبها، وإلى خصوصياته الثقافية والحضارية والاجتماعية، فمن خلالها بلور الكثير من الكتاب عوالم باتت كونية في انطلاقها من المحلية الضيقة كبصمة فارقة، إلى العالمية. ومن هؤلاء الكتاب الإندونيسي إيكا كورنياوان.
يقدم الروائي الإندونيسي إيكا كورنياوان في روايته “الرجل النمرة” نصا روائيا مكثفا ومشوقا يستلهم فيه أساطير شعبه وحكايات الأجداد، ويدور حول مأساة عائلة الحلاق الفقير “قامور”، ومن الفصل الأول يضعنا في عالم القرية الساحلية الفقيرة؛ برك الصيد، مزارع الكاكاو، حقول الأرز، الغابة المتاخمة التي يصطاد فيها أهل القرية الخنازير في أيام عطلتهم بعد موسم الحصاد، وصولا إلى الذروة مباشرة، مع لحظة مقتل النحات الوجيه الماجن منهوشا بأنياب مجهولة.
ويتابع الروائي في إيقاع محكم وسرد يمزج بين سحر الحكي والتصوير الدرامي بسلاسة، لنتعرف على “سدره” (المحارب القديم)، شيخ الجامع “جاهرو”، “ماسونا” محفظ القرآن، وبقية من يحيطون بالفتى “ماجيرو”، في عالم تتعايش فيه الخرافة مع الحداثة، الإيمان مع الجريمة، الفقر مع المتعة.
سيرة حكّاء
يقدم كورنياوان في الفصول الأربعة التالية من خلال تقنية “فلاش باك” حكاية “ماجيرو” وأسرته الفقيرة، مأساة أسرة “قامور” في البيت رقم 131، الأم “نورينى”، الابنة “مامه”، الأب “قامور”، الطفلة “ماريان”، حكايات منسوجة بروح الأسطورة وصراع النوازع البشرية: بين حب وبغض، شبق وبراءة، فقر وجنون، نوازع بشر طحنتهم الآلام والأحلام قبل أن تظهر اللعنة في شكل نمرة بيضاء تنهش الروح.
رواية “الرجل النمرة”، التي ترجمها أخيرا الكاتب أحمد شافعي وصدرت عن دار الكتب خان، حظيت باهتمام نقدي عالمي حيث كتبت عنها جريدة الإيكونوميست أنها تشكل “صرخة واعية خبيثة وساخرة. يقترب فيها إيكا كورنياوان من الهموم والمشكلات الاجتماعية محاذرا دون مناطحة مع جرعات هائلة من السيريالية والسخرية”، فيما كتب جون فوسمان من نيويورك تايمز “رواية موجزة، مركزة ومثيرة تتدافع فيها الأحداث هادرة في إثارتها، فقد كشف إيكا في الأسطر الأولى منها عن الضحية والقاتل”.
قدم للرواية أستاذ العلوم السياسية والمؤرخ الأيرلندي بندكت آندرسن الذي اشتهر بكتابه “الجماعات المتخيلة” وعاش في إندونيسيا وكتب بعض أهم الكتابات عما شهدته من مذابح للشيوعيين مفندا الرواية الرسمية، حيث قدم إضاءات مهمة حول ثراء الحياة التي عاشها إيكا وكيف تشكلت رؤاه الإبداعية بعد ذلك، انطلق فيها من رؤية عامة قائلا “ما من شك في أن إيكا كورنياوان هو أكثر كتاب الروايات والقصص القصيرة الإندونيسيين الأحياء أصالة ومباغتة وإدهاشا، ولد في 28 نوفمبر سنة 1975، أي في اليوم الذي أعلنت فيه مستعمرة تيمور الشرقية البنغالية السابقة انفصالها عن لشبونة، وفي 7 ديسمبر 1975، أي في ذكرى يوم بيرل هاربر، حضر الرئيس الأميركي جيرالد فورد ومعه هنري كيسنجر إلى إندونيسيا ليباركا للطاغية سوهارتو بداية احتلاله الدموي بالسلاح الأميركي لتيمور الشرقية. وإيكا يفخر بيوم ميلاده، لكونه ميلاد مقاومة عنيدة استمرت 22 عاما إلى أن أرغم أبناء تيمور الشرقية جاكرتا على التنازل عن حكمها الاستعماري القاسي”.
ويشير إلى أن إيكا كورنياوان قضى أغلب السنوات العشر الأولى من حياته في رعاية جديه لأمه في قرية ميلاده، وهي قرية صغيرة معزولة (لا تصل إليها الطرق على الإطلاق) على ساحل المحيط الهندي الخطير في الطرف الجنوبي الشرقي من جاوة الغربية. وأول ما ربط إيكا الصغير بـ”الأدب” امرأتان من القرية ورجل خفي؛ كان يحلو لجدته أن تروي الخرافات والحواديت وتاريخ القرية، وسيدة عجوز كانت تعيش وحيدة، وكانت حكاءة أبرع بكثير. ففي مساء كل يوم تقريبا بعد الصلاة في مسجد القرية كانت تجمع الأطفال في سقيفة بيتها وتروي لهم ما لا نهاية له من الحكايات السحرية. أما الرجل الخفي فكان حكاء في الإذاعة يعرف كيف يخلق من صوته أصواتا مختلفة لشخصيات عالم شاسع من أساطير جاوة الغربية، وهي منطقة أغلب أهلها من السونداني وهم جماعة عرقية تعيش في الجزء الغربي من جزيرة جاوة.
ويواصل آندرسن سرده “وفي عام 1984 بعث الصبي ليلحق بأبويه ويكمل تعليمه الأساسي في بلدة بنجندران التجارية الصغيرة الواقعة على الحدود بين جاوة الوسطى والغربية، ويعيش فيها خليط من الناس يستعملون مزيجا من العاميتين الجاوية والسندانية. لم يكن في البلدة متجر لبيع الكتب أو مكتبة عامة للبلدية، لكن والد إيكا -الذي كان يعمل خياطا وصانع تيشيرتات للسائحين العابرين- كان أديبا على طريقته الخاصة. وكان في حياته خطان يبدوان متناقضين؛ فهو يؤم الصلوات ويحفّظ صبية المسلمين أجزاء من القرآن وإن لم يفهموا العربية، وهو مدرس لغة إنجليزية لبعض الوقت في مدرسة البلدة التي كان يرجع بكتب لأطفاله من مكتبتها الهزيلة”.
ويبين أن أب الكاتب حين كان شابا درس في كلية المعلمين وإن لم يكمل دراسته؛ ولعله لهذا السبب كان يؤلف في الليل خطبا للمسجد القريب، ومقالات دينية للعديد من المجلات الإسلامية (التي يقول إيكا إنه لم يقرأها قط). لكن الأهم من كل ذلك هو اكتشاف إيكا لما كان يعرف آنذاك بـ”حديقتيْ الكتب”، وإحداهما في محطة الحافلات، والأخرى وراء فندق سياحي صغير على الساحل. في تيْنك الحديقتين كان باعة الكتب يبيعون أو يؤجرون روايات الرعب وقصص الإثارة المصورة الإندونيسية، وكذلك روايات نيك كارتر الجاسوسية وروايات باربرا كارتلاند الغرامية سيئة الترجمة. وبصفة دورية كان باعة الكتب يمرون على دراجاتهم بالبيت فيبيعون هذه المواد القرائية نفسها أو يؤجرونها. كل ذلك كان حافزا لإيكا ذي الإحدى عشرة سنة على الشروع في كتابة القصائد والقصص القصيرة بل ومخططات الروايات.
الرواية مكتوبة بإيقاع محكم وسرد يمزج بين سحر الحكي والتصوير الدرامي بسلاسة في عالم تتعايش فيه المتناقضات
ويرى أن تفوق كورنياوان أهله في عمر الـ17 عاما للالتحاق بجامعة جادجا مدى في جاكرتا عاصمة جمهورية إندونيسيا في زمن الثورة على المستعمرين الهولنديين في الفترة من 1945 إلى 1949. كان المجال الوحيد المفتوح له هو كلية الفلسفة، رغم أنه لم يكن يهتم كثيرا بموادها. لكنه لدهشته عثر في مكتبة الكلية الفوضوية على ترجمة إنجليزية لـ”نمو التراب” وهي إحدى روائع الكاتب النرويجي الحاصل على نوبل في الأدب كنوت هامسن.
ولما أدمن التردد على سوق الكتب المستعملة القريب بحثا عن الكتب القديمة، عثر على الرائعة الأشهر لهامسن وهي “جوع”. والمثير في مكتبة جادجا مدى العامة أنه عثر على قسم خاص للدراسات الأميركية تبرعت به السفارة الأميركية وكان ضمن ما فيه ترجمات إنجليزية لروايات ماركيز وثرفانتس وقصص بورخيس القصيرة وكتب بعض عظماء الروس: جوجول وتولستوي وتشيكوف، وأعمال لفوكنر وهمنغواي وبيدورا ويلتي وشتاينبك وتوني موريسن.
وينقل آندرسن عن إيكا قوله “إنه في ذلك الوقت لم يقرأ غير القليل للغاية من الأدب الإندونيسي”. ويرجح أن يكون لهذا الأمر سببان؛ الأول أنه بوصفه قرويا مر بصدمة ثقافية في مدينة جاكرتا الضخمة وجادجا مدى التي كانت تقبل الطلبة من عموم الأرخبيل الإندونيسي الشاسع، فيتلاقى الكثير للغاية من المعتقدات الدينية والأعراق واللغات والعادات والمطامح، وفي قسم الدراسات الأميركية من المكتبة كان يمكنه أن يترك وراءه صدمته الثقافية ويحلق إلى كنز عالمي، ولم يكن الطلبة الإندونيسيون على دراية بالإنجليزية تتيح لهم أن يبزوه في تحليقه.
والسبب الثاني يتمثل في دكتاتورية سوهارتو (في الفترة من 1966 إلى 1998) التي بدأت بمذبحة مئات الآلاف ممن نعتوا بالشيوعيين وإقامة جولاجات للمعتقلين السياسيين في شتى أنحاء الأرخبيل وحظر توزيع الكتب من شتى الأنواع بوصفه عملا يساريا تخريبيا. قضى برامويديا آنانتا توير، روائي إندونيسيا العظيم ومؤلف القصص القصيرة المذهلة والمقالات النقدية التي تستعصي على النسيان، أربعة عشر عاما في سجن جزيرة بورو النائية دون محاكمة، وبعد إطلاق سراحه بقيت جميع أعماله محظورة.
أثرت أعمال برامويديا آنانتا توير على إيكا كورنياوان الذي بدأ نشر القصص القصيرة عام 1998، حتى أن أطروحته الفلسفية كان قد أعدها عن برامويديا، إلا أنها رفضت، إذ كان أساتذته مرعوبين من الإجراءات القمعية القاسية التي كان يستخدمها سوهارتو، وبعد وقت طويل حينما سألوه عن الكتاب الإندونيسيين الذين يحبهم أكثر ممن عداهم، قال إن لديه ثلاث شخصيات مأساوية: الأول هو أمير حمزة وهو أجمل شعراء إندونيسيا، أرستقراطي مناصر للاستقلال في شمالي سومطرة وقد أعدمته في ثورة 1945 – 1949 عصابات متخفية وسط الثوار. والثاني برامويديا والثالث ويدجي توكول وهو شاعر جاوي راديكالي جسور اختفى ربما على أيدي القتلة المتمرسين التابعين للواء برابواو صهر سوهارتو.
تأنيث النمور
الانطلاقة الحقيقية لشهرة كورنياوان كانت عام 2000 حيث نشر أول مجموعة قصص قصيرة، معنونا إياها -بوقاحة- بـ”غرافيتي في المرحاض” وبعدها بعامين نشر رواية “الجمال جرح” الضخمة. وبهما، رغم اختلافاتهما من جوانب كثيرة، أصبح على الفور نجما أدبيا في إندونيسيا، فمجموعته القصصية أظهرت براعته في الكوميديا السوداء والسخرية من أبناء جيله الذين تحولوا إلى وصوليين متعطشين إلى السلطة، وبراعته التقنية في المزج بين حكايات طفولته القروية الشفوية والثقافة البرجوازية في المدن الكبرى في مرحلة ما بعد سوهارتو.
على الطرف المقابل تمثل رواية “الجمال جرح” رواية شبه تاريخية تمتد من أواخر الحقبة الاستعمارية مرورا بالاحتلال الياباني وثورة 1945 – 1949، والثورة الإسلامية المتطرفة الطويلة في الخمسينات، وصعود الحزب الشيوعي الإندونيسي ثم سقوطه الدموي وبداية دكتاتورية سوهارتو، ولكن موقع الأحداث ليس وطنيا ولا إقليميا إنما هو بلدة صغيرة على المحيط الهندي.
ويذكر آندرسن أن كورنياوان قال له مرة إن رواية “الجمال جرح” ولدت من ثلاث روايات أسبق منها، وقد رأى أن يمزجها رغم المصاعب الكثيرة في سفر كبير واحد. قد يتخيل المرء واعيا أو غير واع أنها نشأت من نقده لواقعية برامويديا الاشتراكية ولعلها تتحدى رباعية الشيخ الشهيرة المترجمة إلى الكثير من اللغات. ثم جاءت في عام 2004 رواية “ليلاكي هاريماو” التي تجري أحداثها أيضا في بلدة لا تحمل اسما على المحيط الهندي، ولكن الرواية هذه المرة قصيرة نسبيا ذات بناء محكم وتركز بصفة عامة على مأساة أسرتين مترابطتين ومعذبتين وعلى امتداد جيلين.
ويخلص آندرسن من مقدمته، كاشفا عن أهم سمات أسلوب كورنياوان الذي يميزه عن أي روائي إندونيسي حي، إلى أن “أولى هذه السمات جمال نثره الفادح واتساع هائل بما فيه من اشتقاقات معاصرة والكثير من الكلمات الغامضة التي لم تزل مستعملة في القرى النائية، وإن غابت عن المعاجم الحالية الخاضعة لمركزية المدن. والثانية هي هيمنة صوت الحكاء الذي نادرا ما يجعل الشخصيات تتكلم، فإن تكلمت لا يكون ذلك إلا لجمل معدودات. والحكاء مجهول تماما، فلا يعرف القارئ من يكون وكم يبلغ من العمر، ولا يعرف له مهنة أو مكانا أو حتى جنسا، تماما شأن الحكائين الشفاهيين في الماضي. والثالثة انضباطه المتنامي في اللجوء إلى الخرافة، مثلما هو موجود وشائع في مسرح العرائس المأخوذ عن نسخ محلية من ملحمتي المهابهرتا والرامايانا”.
ويتابع “السمة الرابعة تتمثل في تحسن فهمه للتسلسل الزمني ففي ‘الرجل النمرة’ تتسم الفصول بتحولات حسنة التخطيط للزمن، دون الرجوع بالزمن عبر فلاش باك؛ أولى صفحات الرواية تكاد تتزامن مع صفحاتها الأخيرة، وفي ‘الجمال جرح’ ثمة عدد ضخم من التحولات الزمنية، ولكنها تبدو اعتباطية ومربكة. وأخيرا الجنس في الرواية السابقة؛ هناك وفرة في الجنس ولكن المشاهد مسطحة بسبب الإفراط في النزعة الخرافية على غرار مسرح خيال الظل. الجنس في ‘الرجل النمرة’ قاس في الغالب ومخاتل والحبكة المأساوية تقوم على هذه الحقيقة. أما قرار إيكا تأنيث النمور الخرافية البيضاء ووضعها داخل الذكور من الرجال وحدهم، فهو ابتكار يفسح المجال لقراءات مختلفة للرواية التي باتت الآن ثلاثية الأبعاد بدلا من أن تكون ذات بعدين على غرار القصص التراثية العتيقة”.