الربيع العربي يتحوّل إلى شتاء موسيقي أسود في بيروت

"الراحل الكبير" فرقة لبنانية تُشاكس الواقع السياسي المأزوم عبر السخرية اللاذعة.
الأربعاء 2019/02/06
مساحات موسيقية هازئة من الوضع القائم

تعرّف فرقة “الراحل الكبير” اللبنانية نفسها على صفحة الفيسبوك بأنها “فرقة موسيقية غنائية لا تبغي الطرب وتُعنى أيضا بجرف التراث”، ولكن ليس هذا ما تفعله تماما، لأنها تستند بشكل كبير على التراث الموسيقي العربي والإنشاد الديني والقصائد الصوفية وموروث الشيخ إمام وغيره من الفنانين لتقدم كل هذا المخزون في قالب معاصر يسعى إلى “التجريب في مساحات موسيقية وكلامية جديدة”.

بيروت - تأسست فرقة “الراحل الكبير” الموسيقية اللبنانية عام 2013 منشغلة بتناول قضايا سياسية واجتماعية راهنة، طارحة إياها في قالب معجون بسخرية تتماهى مع “حالة الهستيريا التي تعيشها بلدان المنطقة”.

في هذا السياق، يُعتبر برنامج الفرقة الجديد الذي يحمل عنوان “أيام العجب” والذي يستمر عرضه في “مترو المدينة” حتى 13 فبراير الحالي امتدادا لبرنامج “لابومب” الذي تمّ تقديمه لما يقارب السنتين بين عامي 2014 و2016 تخللهما توقيع ألبوم يحمل العنوان ذاته.

إلاّ أن “أيام العجب” تحوي جرعة مضاعفة من التخبط والسريالية على الصعيدين العام والشخصي، ففقدان أحد أعضاء الفرقة، عماد حشيشو عازف العود الحاضر أثره دوما في مدينة بيروت، والذي قضى إثر حادث سير، استدعى انقطاعا قارب العام كما لم يكن وقع اتهام الممثل زياد عيتاني المقرّب من الفرقة بالعمالة زورا أقل سريالية من حادث الوفاة.. هذه بعض العوامل التي كان أثرها واضحا على مضامين حفلة “أيام العجب” الأخيرة.

فبعد أن غنت الفرقة “وهبت عمري للأمل ولا جاشي (ولم يأتِ)” للشيخ إمام في حفلة البلمند، لم تعد الفرقة تنتظر الأمل المرجو، استعانت بكلمات الشاعرين عمر الخيام وفؤاد حداد لتنقل معيشها الذاتي مع الموت وانتفاء الرغبة في الحياة.

وفي لحظة صارخة يردد سماح أبوالمنى (عازف الأكورديون وملحن ومؤدي عددا من الأغاني) أبيات عمر الخيام، قائلا “إن لم يكن حظ الفتى في دهره إلاّ الردى ومرارة العيش الردي، سعد الذي لم يحيَ فيه لحظة.. حقا وأسعدُ منه من لم يولدِ”.

عندما سمع خالد صبيح مع سائر أعضاء الفرقة كلمات قصيدة “أيام العجب والموت” للشاعر المصري فؤاد حداد وجدوا فيها ما يخاطب حادثة فقدان صديقهم، ومن هنا كان عنوان البرنامج “أيام العجب” التي تطال أيضا كل التقلبات السياسية والاجتماعية وتحول “الربيع العربي” إلى “شتاءٍ أسود”، حيث تتكاثر مساحات الهزل والاستهزاء بالوضع القائم.

"أيام العجب" يطرح القضايا السياسية والاجتماعية بسخرية تتماهى مع حالة الهستيريا التي تعيشها البلدان العربية

أربع عشرة أغنية قدمتها الفرقة بمضامين معظمها جديدة لم تخلُ من حضور الشيخ إمام، حيث قدمت الفرقة أغنية “أهيم شوقا” بتوزيع جديد وهي الأغنية التي سطّرت التعاون الأخير بين الشيخ إمام وبين أحمد فؤاد نجم والتي تُعد من أجمل ما كتب نجم. حضر الشيخ إمام أيضا في أغنية “الأخلاق” قبل أن تنطلق الفرقة إلى “نشيد الطفل المعجزة” التي انتشرت منذ أكثر من شهر على مواقع يوتيوب وهي أغنية نقدية سياسية لاذعة على الصعيد المحلي اللبناني بسبب تطرقها إلى صهر العهد أو صهر الوطن على حد قول صبيح.

وما يميز برنامج “أيام العجب” هو هذا التنوع الذي ينقل المستمع من حالة إلى أخرى: أغاني الحزن والفَقد المعطوفة على أغنية حب تارة وأغنية صوفية تارة أخرى ثم العودة إلى الحضيض مع أغنية شعبية، فالانتقال إلى الأوضاع السياسية الراهنة، فالاستهزاء بكل شيء، والرابط بين كل هذا هو الحس الفكاهي لخالد صبيح الذي يربط بين الأغاني شارحا خلفية بعضها والظروف المؤدية إلى كتابتها.

وعلى هذا النسق توالت أغاني “فؤادي تولع” للشيخ الصوفي مصطفى البقاعي، و”أبانا” للشاعر سميح القاسم التي لحنها صبيح منذ سنوات رغبة منه في الإشارة إلى اللاجئين الفلسطينيين، وها هو اليوم يعيد تقديمها متحدثا عن اللاجئين السوريين وقد يغنيها بعد عشر سنوات متحدثا عن اللاجئين اللبنانيين، على حد قوله.

وقد تأتي أغنية “موعد مع السفير” كخير مثال على رغبة الكثير ممن يسكنون في هذه البقعة من العالم في اللجوء إلى بلد أوروبي، وقد تمّ تقديم هذه الأغنية في شكل حوار بين السفير الذي يلعب دوره سماح أبوالمنى والذي يذكر أداؤه في هذه الأغنية بأداء محمد عبدالوهاب وبين طالبة اللجوء ساندي شمعون، المغنية الأساسية للفرقة.

واللافت أيضا في هذا العرض هو طرافة بعض الأغاني كأغنية “موعد مع الدكتور” وأغنية “نشر الأواعي” التي لا تقول شيئا، والتي كتبتها الفرقة كرد على حجب موقع I-tunes لعدد من أغاني الفرقة، لأنها تحتوي على مضمون لا يتناسب مع العالم العربي، حينها قرّرت أن تقدم أغنية لا تزعج أيا من الأنظمة ولا تزعج موقع I-tunes فأتت الفرقة بأغنية تتحدث عن نشر الغسيل وعن حديث آخر لن يأتي.

يبدو واضحا تأثر الفرقة بالثقافة المصرية، إن كان من ناحية اللجوء إلى اللهجة المصرية أو من ناحية اللجوء إلى بعض أغانيها، ولا ينكر صبيح ذلك لأنه يرى أولا أن الموسيقى المصرية هي أكبر نهر مرجعي -إن صح القول- للموسيقى العربية والمشرقية وأثر اللون المصري طابعٌ في كل أعضاء الفرقة وهي الرافد الأساسي لهم.

كما أن اللهجة المصرية أكثر مرونة في ما يتعلق ببناء لحن الأغنية، ولكن هذا لا يعني أن الفرقة تركز حصرا على هذا النمط، فالأمر مرتبط بالجو العام للأغنية والظرف الذي دعا إلى كتابتها!

16