الراوي المزيف خطر يهدد الكنوز البشرية ويسلب الشعوب تاريخها

تواجه العديد من العناصر التراثية محاولات تزييف مستمرة، يطلقها أناس قليلو الخبرة والمعرفة لأغراض مختلفة، ولم يسلم فن الأراجوز المصري المسجل على قائمة التراث العالمية من التزييف الذي طال الشكل والمضمون معا، بينما يدعي المزيفون أنهم الأصل وهو ما خلق لبسا خطيرا يواجهه الدكتور نبيل بهجت بقوة.
يسعى الدكتور نبيل بهجت أستاذ علوم المسرح في كتابه “الأراجوز بين الروايات الأصيلة والروايات المزيفة.. نحو نظرية لاكتشاف التراث المزيف” إلى وضع نواة لنظرية “التراث المزيف” في محاولة لوضع ضوابط إجرائية للتفريق بين التراث الأصيل والمزيف، متخذاً من الأراجوز نموذجًا لمناقشة الظاهرة، وكذلك التفريق بين الكنوز البشرية، وأيضًا التفريق بين مستويات التعامل مع التراث الشعبي، والتي تتنوع بين الاستعادة والتوظيف والاستلهام.
يؤكد بهجت في كتابه، الصادر ضمن إصدارات المهرجان المسرحي الدولي لشباب الجنوب، أن مما يؤسف له أنه بعد تسجيل الأراجوز على قوائم الصَّوْن العاجل ظهر عدد من الرواة المزيفين الذين ادَّعوا أنهم كنوز بشرية، ولقلة خبرة وسائل الإعلام تم استدعاؤهم لبعض المنصات الإعلامية الكبرى، وتشكل تلك الظاهرة تهديدًا كبيرًا على الفن، وسبب ذلك هو قلة الخبرة في فحص الراوي والرواية، فالكنز البشري من حملة التراث هو ذلك الذي وصل إليه الفن بالعنعنة، وحافظٌ له، ومزاولٌ لم تنقطع مزاولته، وهو من تعلم بنظام الأسطى والصبي. فهناك فرق كبير بين الكنز البشري وبين آخر يستلهم.
الرواة المزيفون
يرى بهجت أنه من الضروري مواجهة هذه الظاهرة بكل السبل المتاحة، بنشر المعلومات حول مفهوم الراوي الأصيل والراوي المزيف، وإشهار الكنوز البشرية لكل فن من خلال تكريمهم، وإشهار المعايير التي تصنف على أساسها الكنوز البشرية، وعمل أرشيفات مصورة للفنون التراثية مع الاختبار الدائم والفحص المستمر لتلك الأرشيفات خوفًا من أن يتسلل التزييف إليها بأي شكل .وبالنسبة إلى الأراجوز؛ قام بعمل أرشيف رقمي له من سبع لاعبين وتم اختباره وعرضه على شيخ لاعبي الأراجوز الراحل صابر المصري، وكذلك تم اختباره من أكثر من لاعب، ولقد رحل عن الدنيا معظم من سجل معهم وهو ما يعطي أهمية بالغة لهذا الأرشيف، حيث أنهم كانوا الأكبر سنا والأكثر علما ولديهم مخزون كبير. وتؤكد لنا تلك الحالة على ضرورة الاهتمام بسرعة بناء الأرشيفات الوطنية لإنقاذ التراث من الضياع والإهمال وإتاحتهِ للتوظيف والاستلهام بعد ذلك.
ويلفت المؤلف إلى إن الراوي المزيف أحد أدوات العدو في حروب السردية، تلك الحروب التي هي أهم من حروب السلاح، لأنها تصنع الصورة. فإذا كان التاريخ هو تفاعل الزمان مع المكان، وإذا كانت الحكاية والتراث وثيقة ملكية الأوطان، لأنها باختصار تقول إننا كنا هنا، وليس أدل على أهميتها من الحكاية الرمزية التي تروي أن أحد المستعمرين في حواره مع أحد السكان الأصليين قال له هذه أرضنا فأجابه بكل أريحية أخبرني عن حكاياتك فيها، فإن الحفاظ على التراث ليس فعلاً ثقافياً فحسب، وليس تأكيدًا على الهوية والذات، وليس دفاعًا عنا ضد التغريب، وإنما هو ضمان استمرارنا في التاريخ.
ويوضح أن أهمية الأراجوز وخيال الظل، وغيرهما من النماذج التراثية لا تأتي من كونها تراثا يشكل جزءًا من هويتنا، فهذا آخر ما يجب أن نفكر به، ولكن لكونها أداةً تحرر من النموذج الذي يستخدمه الآخر ليسلبنا به وجودنا على جميع الأصعدة في المأكل والمشرب والملبس والذوق العام. إن استعادة الأراجوز وخيال الظل ليس هدفًا في ذاته، وإنما هو نموذج لتحقيق العدالة الثقافية في البداية بالاهتمام بالثقافة التي صنفوها كهامش في المقام الأول، والتحرر مما يفرض علينا من أشكال ونماذج يتسلل منها العدو لعقول الأبناء والأجيال القادمة ومن ثم يخلق عقولاً رخوة موالية له عالقة بمصيره.
ويكرر أن التراث هو أحد أدوات المقاومة بالجمال المتوارث، مضيفا لنتخيل الفائدة الاقتصادية التي قد تعود علينا إذا التزمنا بما لدينا من ملبس ومأكل ومطعم. وكم من فرص العمل التي ستتاح إذا أصبح الجلباب البلدي زيًا عاما، وجميع المشروبات والأطعمة قادمة من تراثنا، وعمارتنا تجملت بزخارفنا وخطوتنا، تخيلوا حجم الفائدة الاقتصادية والاجتماعية التي ستعود علينا. لذا علينا الحفاظ على الكنوز البشرية، وتسجيل الروايات الأصلية لهذا الهدف، ووضع فهم نظري وتحليلي تدرك به الأجيال الرواي المزيف والمدعي من الأصيل.
ويشدد بهجت أنه عقب تسجيل الأراجوز على قوائم الصَّوْن العاجل انبرى البعض ممن كانوا يقفون عند حد الاستلهام للادعاء بأنهم كنوز بشرية، وأخذوا يقدمون معلومات خاطئة عن الفن، ويروجون لقدرتهم على تأهيل كوادر جديدة. وللأسف لاقت محاولاتهم قبولاً عند بعض المؤسسات الرسمية، وبعض الجهات الإعلامية، وسنقف في السطور القادمة على مفردات الرواية، وأشكال الرواة المزيفين، محاولين أن نضع خريطة للتعرف على الراوي الأصيل من الراوي المزيف، إذ يشكل انتحال الهواة والمستلهمين صفة الكنوز البشرية خطرًا على الفن الشعبي.
ويضيف “بداية: من هو الكنز البشري؟ الكنز البشري هو الفنان حامل العنصر الشعبي عن طريق العنعنة، الممارس له، الحافظ لروايته، العارف بتقاليد أدائه، والذي ظل يقدمه طوال حياته بشكله الشعبي المتوارث، إذا فهو من تعلم بطريقة المعايشة وأخذ الفن عن أسطواته، وحفظ روايته أو روايات متعددة، كذلك فإنه العارف بالتقاليد والأسرار كما أنه ظل يقدم الفن بحالته الشعبية بحالته التراثية بعيدًا عن أي تغيير تحت مسمى التطوير أو التحديث. وفي المقابل يصبح الراوي المزيف هو الذي التقط الفن دون معايشة لأهله وأساتذته، وغير حافظ للروايات الشعبية، فلم يتناول الفن بمنطق الصبي والأسطى، وغير مزاول للفن في حالته الشعبية، كذلك غير ملمّ بالتقاليد وقواعد الأداء، يخلط بين مفهوم التراث واستلهامه، ويبرر حالته المزيفة بالتحديث والتطوير أحيانا.”
والراوي المزيف يقدم فكرة عن الفن، ولكنه لا يستطيع أن يقدم فلسفته وآلياته وأسلوبه ولا يعرف التفاصيل الخاصة كاللغة السرية أو طرق الصناعة، فهو غير ملم بمفاهيم النشأة والتكوين؛ حيث تلقى معلومات بشكل الالتقاط السطحي، ومن ثم لا يصلح أن يكوِّن أجيالاً تقدم الفن، فما يقدمه مجرد تعريف سطحي بالفن. وربما أتقن الراوي المزيف أحد تكتيكات الأراجوز أو الفن الشعبي بشكل عام، كأن يجيد استخدام الأمانة في حالة الأراجوز مثلاً، وإجادة الأمانة لا تجعل منه لاعبًا شعبيًا، وإنما تجعل منه مستلهما يمكن توظيفه لأداء شخصيات تشير للأراجوز في بعض أشكال الدراما، وهو ما حدث في المسرح والسينما على مر التاريخ؛ فتعلُّم تقنية دون المرور بمراحل تكوين الكنز البشري التي تستغرق عشرات السنوات لا تجعل من المتعلم كنزا بشريا إذا لم يكن حافظًا للنمر بما فيها من حركة كوميديا لفظية، وتكتيك قادر على استنبات الفكاهة بالطريقة الشعبية.
خطر على التراث
حول الرواية المزيفة من حيث الشكل، يقول بهجت “أولاً هل للأراجوز شكل ثابت محدد يجب الالتزام به؟ نعم للأراجوز شكل محدد يجب الالتزام به، وباختصار يمكن أن نحدده في بعض السمات التالية: تغلب على وجه الأراجوز الوسامة والذكاء، له شارب، يرتدي جلبابا أحمر، وقد يضع وشاحًا أخضر على ظهره، ويرتدي طرطورًا أحمر أيضا في أعلاه ‘زر‘ وينتهي الطرطور من عند الجبهة بشريط أصفر كمحدد دائري على الجبهة والرأس. ومن المستحيل أن ترى أراجوزا برأس دائرية كالكرة، كما روج البعض له، حيث يصنعون كرة من أي مادة ما ثم يضيفون عليها بعض الملامح، كما رأينا مثلاً في فيلم ‘الأراجوز‘، أو في بعض البرامج، كـ‘بقلظ‘ مثلا، فهذا النموذج لا يمثل الأراجوز، وإنما يمثل حالة مستلهمة منه كما هو حال في فيلم ‘الأراجوز‘، وهي حالة مثمَّنة إذ لم يدَّعي أصحابها أنها تمثل التراث، بل وقفوا بها على مستوى الاستلهام الفني وهو كما ذكرنا ذروة سنام التعامل مع التراث.”
ويضيف “أيضًا فإن المادة المصنَّع منها الأراجوز لابد أن تكون من الخشب، وليس إعادة تدوير لنموذج الدمية الغربية، أو دمى لعب الأطفال البلاستيكية. وباختصار فإن رواية الشكل لدمية الأراجوز الأصلية، أنه يصنع من الخشب ولها طرطور أحمر ويرتدي الجلباب الأحمر، ويغلب على ملامحه الوسامة، ولها شارب، ويضاف لزيه بعض التفاصيل الأخرى من لاعب لآخر وليس هناك أراجوز برأس دائرية هندسية، أو مصنوع من خامات أخرى. هذا هو الشكل الثابت للأراجوز المتعارف عليه والمتوارث، ولكل لاعب الحق في تشكيل ملامح دميته بالشكل التي يراها وتحقق غايته الفنية، لذا يصبح ما نتحدث فيه قواعد عامة وتصبح التفاصيل ملكًا لكل لاعب يبدع فيها كما يشاء.”
ويواصل “أما ما نراه من دمى بلاستيكية، وبدون شارب، وذات عيون زرقاء وخضراء، فهي لست أراجوزا، وهذه أخطاء يجب معالجتها، ولقد وقعت شخصيًا في هذا الخطأ في بداية عملي الفني العلمي في هذا المجال، حيث اعتمدت رواية الشكل لدمية اشتريتها من أحد اللاعبين، وللأسف لم يكن لدي العلم الكافي وقتها للتفريق بين الرواية الأصلية والمزيفة، ونشرت صورة هذه الدمية التي وصلت إليّ، ولكن مع الوقت اتضح لي أنها تمثل إحدى الروايات المزيفة للشكل.”
يشير بهجت إلى أن للفنان المؤدي الحق في خلق الملامح وفقا للخطوط العامة، والالتزام بطبيعة الخامة. ولقد جمع بنفسه عددًا من دمى الأراجوز ومجموعات مختلفة لعدد كبير من اللاعبين نستطيع أن نحدد من خلالها العدد الإجمالي لدمى عروض الأراجوز، وهو 14 دمية مختلفة تتنوع أساليب التصميم فيها، فمنها ما هو بوجهين، كدمية العفريت في إحدى روايات الشكل، ومنها ما كان الشعر جزءًا من النحت أو مضافًا له فهي جزء من النحت في دمية الكوديانه لدى البعض، وفي المجمل هناك خطوط عامة في التصميم وتباين في بعض التفاصيل وثبات في الخامة التي هي الخشب. لذا فمن الواجب علينا أن ننتبه للعناصر المزيفة في الشكل حال تسربها للفن، وأن يتم إقصاؤها للمحافظة عليه، هذا التسرب قد يحدث من بعض عديمي الخبرة أو في لحظات الضعف الفني العام ومن ثم يصبح واجبنا التنبيه على زيف تلك العناصر ومحاصرتها.
أما رواية المضمون المزيف، فيلفت بهجت إلى أن المضمون المزيف يرتبط بتاريخ الفن ومصطلحات وروايات “النمر”، فمنذ تسجيل الأراجوز على قوائم اليونسكو أصبح محط أنظار بعض الباحثين عن بقعة ضوء، لذا طل علينا عدد من الرواة المزيفين الذين لم يعرف عنهم تقديم عروض الأراجوز في مجتمعاتهم ولم تعرفهم الجماعة الشعبية المرتبطة بالفن، ولقد انطلت خدعتهم على البعض. وانطلقوا يتحدثون عن مصطلحات وحكايات حول اللعبة، وهي في مجملها من نسج أوهامهم يبحثون بها عن مكانة ومساحة بعد تسجيل العنصر.
وخطر هؤلاء أنهم يسلبون الكنوز البشرية الحقيقية من حملة الفن حقوقهم في التواجد والعمل، وأزمة رواياتهم المزيفة أنها تحاصر الرواية الحقيقة وتشوهها، فبعد أن كان ينفي بعضهم عن نفسه أنه لاعب أراجوز ويعلن أنه ممثل، نراهم يزاحمون اللاعبين الأصليين محاولين إخراجهم من السوق. ولقلة معلوماتهم يلجأ بعضهم للتلفيق، وصناعة روايات مزيفة حول اللعبة، متعمدين تغيب اللاعبين الأصلين، وهو ما يجفف منابع رزقهم، ويحاصرهم، ويقضي عليهم.
وإضافة للمعلومات المغلوطة التي يدسها هؤلاء فإن الفن برمته يبدأ في الانزواء، لتحل محله نسخة مزيفة في الشكل والمضمون، فنرى أراجوز من البلاستيك أو الفوم برأس دائرية وأنف مدببة أو كأنف “بقلظ”، أو نرى دمية أشبه ما تكون بـ”بابا نويل”، وبرفان أشبه بالبرفان الأوروبي، الذي يقدم من خلاله عروض تخرج في الشكل والمضمون عن سياق التراث.
وحقيقة الأمر أن هذه العروض لو جاءت في سياق الاستلهام لتقبلناها كما تقبلنا العديد من تلك الأعمال، ولكن الأزمة أن أصحابها يريدون فرضها على أنها تراث، وعلى أنهم رواة شعبيون وهذا هو التزييف. فمعظم هؤلاء تلقوا ورشًا تعريفية لهذا الفن، وتعرفوا على ملامحه العامة، ثم خرجوا ليصفوا أنفسهم بأنهم رواة أصليون. ونؤكد أن اللاعب الشعبي لا يتكون في ورشة تكوينية على مدار أسابيع أو شهور، وإنما يتكون من خلال المعايشة الطويلة لسنوات بنظام الأسطى والصبي، تنتقل إليه معلومات الفن وفلسفته، ويتدرب على الارتجال الفني، وأساليب صناعة الفكاهة، كما يحفظ التراث الذي يعيد تقديمه من خلال أسلوبه وشخصيته.