الرئيس التونس والغنوشي.. صناديق كثيرة والرسالة واحدة

“لنفضّها بالحسنى، ولا نجعل البلاد على مقاس السيد راشد أو غيره من جماعة جبهة الخلاص”.. هذا لسان حال غالبية التونسيين، وعلى رأسهم الرئيس قيس سعيد.
صارت حالة زعيم حركة النهضة في تونس راشد الغنوشي، الذي اقتيد رهن الاعتقال منذ أيام بتهم أخطرها التآمر على أمن الدولة، مثيرة للملل، إلى درجة أن هذا الشعب النزق غيّر من أحاديثه اليومية في المقاهي، وبات يناقش موضوع السودان، شح الموارد المائية، وأسباب عدم تأهل أنس جابر للدوري النهائي في التنس.
صحيح أن سجن الغنوشي، يكتسي صبغة سياسية كما تقول قراءات عديدة، لكنه لن ينقذ البلاد من أزماتها.. هذا ما فهمه التونسيون بعد أيام قليلة على “حادثة اعتقال معلن”، ثم انبروا لمناقشة ما ينفع البلاد والعباد، تحت وطأة أزمة اقتصادية خانقة قد تزداد ضررا مع تلويحات بالتهديد من طرف قوى مانحة في الخارج.
وإذا كان فن السياسة هو مدى الاستفادة من مقولة “لا تكن لينا فتعصر، ولا يابسا فتكسر” فإن عناد الرئيس التونسي جعل من اليباس ليونة في استناده إلى نصوص قانونية لا لبس فيها عند اعتقال السلطات التونسية للغنوشي وجماعة من صفه والمحسوبين عليه.
العالم بات على يقين من أن التحزب الديني لا يخدم إلا إذكاء نار الكراهية، والشعوب لم تعد ساذجة حتى يأتي من ينهب ثرواتها ويزرع فيها الفساد باسم الدين
لم يجتمع التونسيون في تاريخهم السياسي الحديث كما اجتمعوا على تأييدهم للرئيس سعيد، في محاسبة الغنوشي وجماعته، إلى درجة أن ناشطي حقوق الإنسان والمجتمع المدني، قد أسقط في أيديهم هذه المرة، وطفقوا يبحثون عن ذرائع أخرى على شاكلة أن ظروف الاعتقال كانت صعبة، وغير ذلك من “الواجب قوله” وفق الأجندات الأجنبية.
كل شيء كان طبيعيا إلى درجة أن رواد منصات التواصل الاجتماعي، سرعان ما ملوا التعليقات على حادثة الاعتقال، واعتبروها نكتة سمجة ومكررة.
“معارضة الرئيس” لم تعد مهنة جيدة كما كان الحال عليه أيام الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، وصار الجميع يعرف أوراق الجميع.
المعارضة سوف تتحرك مستقبلا في حيز ضيق ومحدود الهامش داخليا وخارجيا، ذلك أن قضيتها لم تعد ذات شأن، بل محرجة في المحافل الدولية والجمعيات الحقوقية، إذ لا مبرر ولا حجة لديك وأنت تدافع عن عنصر “متورط في الفساد ومحرض على الإرهاب” وفق لائحة الاتهام على الأقل.
الغرب الأوروبي والأميركي هو المحرج في هذه القضية.. وتلك هي المظلة الواقية التي يقف تحتها قيس سعيد، في مواجهة معارضيه، والبعث برسالة مقتضبة وحاسمة مفادها أن الدولة لن تنظر بعين التمييز إلى من يظن أن على رأسه ريشة.
الغنوشي الذي استقبله أنصاره في تونس عام 2011 بأهزوجة “أقبل البدر علنا” هو اليوم يقبع في سجن رهن الإيقاف التحفظي، شأنه في ذلك شأن أي تونسي أساء للبلاد بحسب وجهة نظر القانون.
ليس لدينا “كبير” ولا استثناء يا سيد راشد.. هذا ما يقوله منطق الدولة التونسية هذه الأيام على الأقل، وليعتبر من هذا جميع أطياف المعارضة، وخصوصا أولئك الذين يستقوون بالغرب الأوروبي والأميركي، على وجه الدقة والتحديد.
الغنوشي الذي استقبله أنصاره في تونس عام 2011 بأهزوجة "أقبل البدر علنا" هو اليوم يقبع في سجن رهن الإيقاف التحفظي، شأنه في ذلك شأن أي تونسي أساء للبلاد بحسب وجهة نظر القانون
بئس المساعدات والإعانات إن كانت ستأتي من طرف الداعمين للتلاعب بأمن البلاد.. هذا ما يقوله منطق الدولة التونسية الآن، رغم الأزمة التي تمر بها، والتي “تستوجب الإذعان والانحناء للعاصفة” وفق منطق المراهنين على خنوع الرئيس قيس سعيد، والاستجابة للضغوطات الخارجية.
يعلم الجميع أن تلبية طلبات القوى الخارجية باسم الديمقراطية وحرية التعبير، مسبحة لا تنتهي إلا بانفراط حباتها وإتلاف عقدها، لذلك فهم قيس سعيد اللعبة من أولها وقال لهم بعناده المعهود “لا”.
لا لكثرة الحاشرين أنوفهم في شأن البلاد، لا للمتلاعبين بأمنها واقتصادها، ولا للذين يزجون بالدين والتدين في مراهناتهم السياسية وأيديولوجياتهم الحزبية.
جميع المراقبين السياسيين في تونس على يقين أن قوى خارجية كثيرة قد حاولت التدخل لصالح الغنوشي باسم الديمقراطية وحقوق الإنسان أو ـ وبوضوح أكثر ـ كشرط أساسي للحصول على المساعدات والإعانات أو التسهيلات في الشأن المالي، لكنها ترتطم في كل مرة بجبهة رفض صلبة.
من أين يأتي هذا الاعتداد القوي بالنفس؟ يقول قائل وهو يشاهد الرئيس التونسي يتصرف وكأنه من القوى الإقليمية العظمى.
كل ما في الأمر أن الرجل عادي في اعتقادي الشخصي، وما يفعله جدير بأن يقوم به أي رجل دولة في العالم الثالث، خصوصا من أولئك الذين يتعرضون للابتزاز باسم الديمقراطية وحقوق الإنسان.
هي في نهاية المطاف، معادلة شديدة الدقة بين أن يكون الحاكم مغامرا وأهوج المنطق وضعيف الحيلة، وبين أن يكون متعقلا يصون الحريات ويتصدى للافتراءات مع مراعاة مصالح شعبه.
العالم بات على يقين من أن التحزب الديني لا يخدم إلا إذكاء نار الكراهية، والشعوب لم تعد ساذجة حتى يأتي من ينهب ثرواتها ويزرع فيها الفساد باسم الدين الذي مازالت بعض القوى الغربية تعوّل عليه لتنفيذ مخططاتها.
ما قضية الغنوشي إلا رسالة متعددة العناوين يبعث بها الرئيس قيس سعيد إلى جميع خصومه السياسيين في الداخل والخارج، وقد وثق بمساندة شعبه بعد سنوات من تجريب المجرّب.. وكما تقول العامة “من يجرّب المجرّب، عقله مُخرّب”.