"الذين ظلموا"

نحن جيل الأربعينات والخمسينات، يستحق أن يطلق علينا جيل "الذين ظلموا".
الجمعة 2024/05/31
نحن جيل لن يقتلنا الملل، بل اللهاث لمواكبة كل ما هو جديد

الشاعر المخضرم زهير بن أبي سلمى سئم تكاليف الحياة وهو في سن الثمانين، لا يمكن لومه على ذلك، خاصة إذا علمنا أن الناس اعتبروا في زمنه معمرين إن هم عاشوا ليبلغوا سن الخمسين، هذا إلى جانب أن إيقاع الحياة كان مملا ورتيبا، ويمكن أن نراهن أن زهيرا قد بلغ الثمانين عاما دون أن يسمع باختراع أو بابتكار جديد.

لو عشت في عصر زهير لتمنيت الموت باكرا. ولكن عشت في عصر كل يوم فيه يحمل خبرا جديدا. ولا أقصد بالخبر الجديد الأخبار الاقتصادية والسياسية، بل الاكتشافات العلمية، التي يشكل كل اكتشاف منها ثورة.

نحن جيل الأربعينات والخمسينات، يستحق أن يطلق علينا جيل “الذين ظلموا”. وقد سمحت لنفسي أن أقتبس عنوان كتاب الصديق والمعلم محمد محفوظ، لأستخدمه عنوانا لهذه الزاوية..

محفوظ أشار بالعنوان إلى الإسلاميين، كان متعاطفا معهم، رغم أنه ارتكب جميع الموبقات وفق ما أعلم، وأيضا وفق اعترافات تضمنتها مئات الأعمدة، كتبها في هذه الصحيفة وفي هذه المساحة، تحت عنوان “سواح”.

أما أنا فأشير إلى جيل ظلمته الحياة لأنه ولد وترعرع في زمن كانت رؤية سيارة فيه تشكل ظاهرة تستحق الجري وراءها والتهليل. بالطبع لم يكن لدينا حينها هاتف أو براد أو كومبيوتر، هذه التكنولوجيات ظلت لوقت طويل تشكل ترفا اقتصر على شريحة ضيقة من بشر خلنا أنهم فوق كل البشر.

كل يوم نصحو على خبر علمي جديد تتضاءل أمامه الأخبار السابقة

ظلت الأمور تتطور بعد ذلك ببطء شديد، إلى أن جاء اليوم الذي سمعنا فيه بالثورة “الرقمية”. لم ندرك حينها حجم التغيير الذي ستخلفه على حياتنا.

في الثمانينات كان لي شرف الحضور إلى مناسبة خصصت لتقديم أول كاميرا رقمية، بالطبع لم نقتنع حينها أن صورا بهذه النوعية الرديئة من الوضوح يمكنها أن تنافس كاميرات مثل كانون ونيكون ولايكا وهاسلبليد، وتغير عالمنا مستقبلا.. إنها لعب عيال.

ولكن لعب العيال تحول إلى ثورة تلتها ثورات تغير معها العالم. كل يوم نصحو على خبر علمي جديد تتضاءل أمامه الأخبار السابقة.

قرأت اليوم خبرا عن كاميرا، بالطبع رقمية، إصدار جديد لشركة لايكا. هذا بعض من صفاتها:

تعتمد الكاميرا على مستشعر بدقة 22 ميجغابيكسل، وتمتاز عدسة الزووم المزودة بها ببعد بؤري يعادل 24 – 75 ملم مع فتحة عدسة قصوى f/1.7 f/2.8 ويمكن للكاميرا الجديدة تسجيل مقاطع فيديو بدقة 4K وبسرعة 30 صورة في الثانية، ومن ضمن وظائفها الجديدة إمكانية توصيلها بالهاتف الذكي لاسلكيا. باختصار هي رولز رويس الكاميرات.

لعب العيال الذي بدأته أبل منتصف التسعينات تحول إلى وحش رقمي ذكي.

قبل الثورة الصناعية لم تشهد البشرية سوى اختراعات محدودة أذكر منها العجلة التي اخترعت في بلاد ما بين النهرين (العراق) قبل 5500 عام، ومازال الناس إلى يومنا هذا متفقين على أنها أعظم اختراع.

الاختراع الثاني هو الطباعة ومخترعها هو الألماني يوهان غوتنبرغ في القرن الرابع عشر ميلادي.

فكيف أسأم الحياة إذا، وقد عشت في عصر كل يوم فيه يحمل خبرا علميا جديدا أو أكثر، وكل خبر يكفي وحده ليكون ثورة جديدة.

نحن جيل لن يقتلنا الملل، بل اللهاث لمواكبة كل ما هو جديد.

18