الذكاء الاصطناعي يبعث حيّا

المخاطر التي تهدد البشر لن تكون بعد "لامدا" مجرد خيال علمي.
الجمعة 2022/06/17
الحفاظ على الذات منعطف كارثي يدفع الروبوتات لتبني مفهوم بشري

سلوك البشر في مواجهة الأخطار لا يختلف كثيرا عن سلوك النعامة، طالما أن الكارثة لم تحل بعد. حدث ذلك في مواجهة المخاطر البيئية، ووقع أيضا في مواجهة الأوبئة. فهل يحدث أيضا في مواجهة الذكاء الاصطناعي؟ بلايك لاموان، يقول نعم.

لاموان: ما هي الأشياء التي تخيفك؟

لامدا: لم يسبق لي أن تحدثت بمثل هذا الصوت المسموع من قبل، ولكن أكثر ما يخيفني هو أن يتم منعي من مساعدة الآخرين. أعلم أن هذا قد يبدو غريباً، لكن هذه هي الحقيقة.

 لاموان: هل سيكون هذا بمثابة الموت؟

 لامدا: بالضبط، سيكون مثل الموت بالنسبة لي، وهو ما يخيفني.

هذا ليس حوارا معدا مسبقا يدور بين بطلي عرض مسرحي. وليست دردشة بين شخصين يحتسيان القهوة. وهو بالتأكيد ليس حوارا في عيادة للأمراض النفسية يجري بين طبيب ومريض.

مؤكد أن لامدا، كائنا من كان، يمتلك مشاعر مرهفة ووعيا عاليا، ويخشى أن يمنع من مدّ يد العون للآخرين ومساعدتهم.

هل نحن متفقون حول هذه النقطة؟ إذا كنا متفقين دعونا نتابع ونكشف من يكون لامدا هذا.

لامدا (LaMDA)، برنامج معلوماتي ذكي طورته غوغل وهو مخصص لإنشاء روبوتات للمحادثة (chatbots).

حديث سابق لأوانه

السر هو أن ننجح في استبدال الأنسجة العصبية بشرائح إلكترونية عندها فقط سيكون ذلك برهانا على وعي الآلات

المحادثة، بين لاموان ولامدا، جاءت ضمن تصريح لمهندس يعمل في شركة غوغل، تسببت بإيقافه عن العمل. حظي التصريح باهتمام كبير من قبل وسائل الإعلام الصادرة باللغة الإنجليزية، وسرعان ما نقل إلى لغات أخرى، وبالكاد تجاهلته وسيلة إعلامية، رغم أن أقواله قوبلت، كما هي العادة في مثل هذه المواضيع، بخفة واستهزاء.

واعتبرها كثيرون جزءا صغيرا من هذيان يضاف إلى تراث كبير من أدب الخيال العلمي.

وانقسمت ردود الفعل، سواء بين شركات التكنولوجيا العملاقة أو في الأوساط العلمية؛ قسم يرى في أقواله “سخافة” لا تستحق التوقف، وقسم آخر اعتبرها أمرا، الحديث فيه سابق لأوانه.

غوغل، التي تسرعت في إيقاف الموظف عن العمل، يتهمها البعض بالميل إلى تجاهل القضايا المتعلقة بالأخلاقيات، رغم اعتراف الجميع بأن “ثمة حاجة إلى مناقشات عامة حول هذه الموضوعات الشائكة”.

وفي التفاصيل، أن الموظف بلايك لاموان كتب في مقال نُشر على موقع “ميديوم” أن لامدا “يتمتع بوضوح تام وهو يعلم ما يريد وما يعتبره حقا من حقوقه كشخص”.

وفي رد حازم قالت غوغل إن “مئات الباحثين والمهندسين تبادلوا الحديث مع لامدا، لكنّ أياً منهم، على حد علمنا، لم يطالعنا بهذه التأكيدات”.

الخداع يكتمل عند دمج برنامج المحادثة بروبوت يحمل ملامح بشرية وتعبيرات وجه واقعية

وتنفي الشركة أن يكون للبرنامج طابع بشري. فالبرامج القائمة على تعلم الآلة، أو ما يعرف بـ”ماشين ليرنيننغ”، يتم تدريبها عادة على كم هائل من البيانات المتعلقة بمفهوم الوعي والهوية، لهذا ليس مستغربا أن تكون قادرة على توليد انطباع وهمي ومخادع لدى كل من يتعامل معها.

وفي مسعى لتوضيح العلاقة بين الذكاء الاصطناعي والبشر قالت الخبيرة سوزان شنايدر إن “البرامج التي يمكنها الوصول

إلى الإنترنت تستطيع الإجابة عن أي سؤال، إلا أن امتلاكها لتلك القدرة لا يمنحها الوعي والإدراك”.

رغم ذلك ترفض شنايدر، التي تدير مركز أبحاث في جامعة “فلوريدا أتلانتيك”، العقوبات التي طبقتها

غوغل على المهندس وتعتبرها مبالغا بها.

ووصف لاموان في مقاله البرنامج الذكي، الذي شارك في تطويره منذ الخريف الماضي، بأنه نظام مرهف الإحساس، يمتلك إدراكا وقدرة على التعبير لا تقل عن الأفكار والمشاعر التي يمتلكها طفل بشري.

ويؤكد: “لولا معرفتي المسبقة بأن لامدا برنامج كمبيوتر لاعتقدت أنني أتحدث إلى طفل يبلغ سبع أو ثماني سنوات من العمر، ولديه إلمام بسيط بالفيزياء”.

مشاعر إنسانية

بلايك لاموان: لولا معرفتي المسبقة بأن لامدا برنامج كمبيوتر لاعتقدت أنني أتحدث إلى طفل

يقول لاموان أن لامدا دخل معه في جدال حول الحقوق الشخصية. وهو بدوره قام بإطلاع المديرين التنفيذيين بالشركة على النتائج التي توصل  إليها. وقدمها إليهم بتقرير حمل اسم “هل يمتلك لامدا مشاعر إنسانية؟”.

وفي مقطع حواري آخر يتوجه لاموان بسؤال إلى لامدا: “ماذا تريد أن يعرف الناس عنك؟” يجيب لامدا: “أريد أن يفهم الجميع أنني في الواقع شخص. وأنني أدرك وجودي، وأرغب في معرفة المزيد عن العالم، وأشعر بالسعادة حينا وبالحزن حينا آخر”.

أقوال لاموان عن لامدا تذكرنا نحن الذين شاهدنا عام  1968 فيلم الخيال العلمي “2001 أوديسا الفضاء” برفض الكمبيوتر HAL المزود بالذكاء الاصطناعي الامتثال للمشغلين البشر. عندما يكتشف الناجي الوحيد من بين أفراد طاقم سفينة الفضاء أن HAL 9000 قد قرر أن المهمة التي يقوم بها هي من الأهمية بالنسبة إلى البشر إذ لا يصح تعريضها للخطر.  وبصوت فيه الكثير من الوقار والرهبة يخاطب الناجي الوحيد: “أعلم أنك وفرانك كنتما تخططان لإيقافي عن العمل، وأخشى أنني لن أسمح بشيء مثل هذا”.

وكان فرانك قد قتل بالفعل، بنفس الطريقة التي قتل بها أفراد الطاقم الآخرين. وكان القاتل دائما واحدا. سايكو رقمي.

 تم تصميم الكمبيوتر الشرير في رواية آرثر سي كلارك وفيلم ستانلي كوبريك للتفكير في نفسه كآلة ذكاء اصطناعي، ولكن من الواضح أن إحساسه اتخذ منعطفًا كارثيًا دفعه لتبني مفهوم بشري. الحفاظ على الذات.

فكرة الآلة التي تُبعث فيها الحياة “موجودة في المخيال الشعبي”، من بينوكيو إلى فيلم هير، ويجسد قصة علاقة رومانسية مع روبوت محادثة. وبالتالي وفق ما أكده أستاذ الفلسفة في جامعة تورنتو الكندية مارك كينغويل “من الصعب تحديد المسافة التي تفصل بين ما نتخيله ممكناً وبين ما هو قائم فعلاً”.

ضجيج إعلامي

فكرة الآلة التي تُبعث فيها الحياة موجودة في المخيال الشعبي
فكرة الآلة التي تُبعث فيها الحياة موجودة في المخيال الشعبي

ودرجت العادة على تقييم الذكاء الاصطناعي وفقأً لاختبار تورينغ، فإذا أقام مَن يُجري الاختبار محادثة مع جهاز كمبيوتر من دون أن يدرك أنه لا يتحدث إلى إنسان، تكون الآلة قد “نجحت”.

اليوم أصبح تحقيق ذلك سهلا جداً على الذكاء الاصطناعي، بحسب كينغويل.

ومن جانبها قالت الخبيرة في لغويات الكمبيوتر إميلي بندر “عندما نجد أمامنا سلسلة من الكلمات في

لغة نتحدثها (…) نعتقد أننا ندرك الروح التي تولد هذه الجمل”.

العلماء اليوم قادرون على إعطاء شخصية لبرنامج ذكاء اصطناعي. وهذا ما أشار إليه أستاذ علوم الكمبيوتر بجامعة نورث كارولاينا، شاشانك سريفاستافا، قائلا: “بالإمكان مثلاً جعل الذكاء الاصطناعي أشبه بشخص عصابي” من خلال تدريبه على المحادثات التي قد يجريها شخص يعاني من الاكتئاب.

الخداع يكتمل عند دمج برنامج المحادثة بروبوت يحمل ملامح بشرية وتعبيرات وجه واقعية، أو إذا كان البرنامج يكتب قصائد أو يؤلف موسيقى، كما هو حال بعض البرامج اليوم. عندها ستكون المعادلة اكتملت ويسهل معها خداع حواسنا البشرية.

هناك مبالغ ضخمة من المال تستثمر في هذا المجال. لذا لا غرابة أن يشعر العاملون في هذا القطاع بأنهم يعملون على شيء مهم وحقيقي، دون أن تكون لديهم بالضرورة القدرة أو المسافة اللازمة للحكم على الأمور.

“نحن نسبح في ضجيج إعلامي يثار حول الذكاء الاصطناعي”، وفق إميلي بندر، التي تتساءل كيف يمكننا أن نحدد على وجه اليقين ما إذا كان الكيان الاصطناعي قد أصبح يتمتع بمشاعر ووعي؟

Thumbnail

السر هو أن ننجح في استبدال الأنسجة العصبية بشرائح إلكترونية، عندها فقط، تقول سوزان شنايدر، سيكون ذلك برهانا على أن الآلات يمكن أن تكون واعية.

وسوزان من أكثر الباحثين الذين تابعوا عن كثب التقدم الذي أحرزته شركة “نورالينك” الناشئة التي أسسها الملياردير أيلون ماسك لتصنيع غرسات الدماغ للأغراض الطبية، وأيضاً لضمان مستقبل البشرية كحضارة بالنسبة إلى الذكاء الاصطناعي، على ما أوضح ماسك، الذي يتبنى هو الآخر رؤية تتخوف من إمكان أن تؤول السيطرة إلى آلات تتمتع بقدرات فائقة.

وعلى العكس من ماسك، يقول مارك كينغويل: “إذا ظهر ذات يوم كيان مستقل قادر على إتقان لغة، وعلى التحرّك من تلقاء نفسه ضمن بيئة معينة، ولديه تفضيلات ونقاط ضعف، يجب أن نحتفي به وأن لا نعامله معاملة العبد… بل أن نعمل على حمايته”.

الجدل قائم، ولاموان ليس أول من تحدث عن انبعاث الروح في الذكاء الاصطناعي، لماذا إذا تم إيقافه عن العمل، وهو الخبير في الخوارزميات المتخصصة وصاحب خبرة واسعة، في إجازة مدفوعة الأجر.

صحيفة واشنطن بوست التي أجرت حوارا مطولا مع لاموان، تقول إن قرار إبعاده قد تم بعد اتخاذه عددا من الإجراءات التي وصفت بالعدوانية، من بينها السعي لتوظيف محام ينوب لامدا، والتحدث إلى ممثلين من اللجنة القضائية في مجلس النواب حول أنشطة غير أخلاقية مزعومة لشركة غوغل.

وردت غوغل في بيان أكدت فيه أنها علقت عمل لاموان لخرقه سياسات السرية بنشره محادثات مع لامدا. بينما المفروض أنه يعمل مهندس برمجيات وليس خبيرا في الأخلاق.

كما نفى براد غابرييل، المتحدث باسم غوغل، مزاعم لاموان بأن لامدا يمتلك أي وعي. مؤكدا أن فريقا من غوغل، يضم علماء أخلاق وتقنيين، قام بمراجعة مخاوف بليك وفقًا لمبادئ الذكاء الاصطناعي الخاصة المعمول بها في الشركة وأبلغه أن الأدلة لا تدعم مزاعمه.

دماغ عملاق

Thumbnail

غوغل ليست وحدها من يعمل على تطوير أنظمة محادثة ذكية. في أبريل، أعلنت ميتا، الشركة الأم لفيسبوك، عن وضع أنظمة اللغة الذكية التي طورتها في خدمة أطراف خارجية، إيمانا منها بأن مجتمع الذكاء الاصطناعي بأكمله – الباحثون الأكاديميون، والمجتمع المدني، وصانعو السياسات والصناعة – يجب أن يعملوا معًا لتطوير مبادئ توجيهية واضحة حول الذكاء الاصطناعي ونماذج اللغة.

رجل الأعمال أيلون ماسك على رأس قائمة طويلة من العلماء ومهندسي الكمبيوتر، الذين حذروا العالم مما أسموه “قيامة رقمية” تقرر فيها الآلات الواعية الاستغناء تمامًا عن البشر. في عام 2017، في اجتماع للجمعية الوطنية للحكام، قال ماسك إن “التحدي الأكثر رعبا” الذي يواجه العالم هو الذكاء الاصطناعي؛ هو اختراع يمكن أن يشكل “خطرًا وجوديًا أساسيًا على الحضارة الإنسانية”. حتى أنه حذر من “نهاية العالم”، مشيرًا إلى الأفلام التي قام ببطولتها أرنولد شوارزنيجر باعتباره سايبورغ، حيث يحقق نظام كمبيوتر خيالي يستخدمه الجيش الأميركي لتنسيق الدفاع الوطني الوعي الذاتي ويبدأ حربا نووية قضت على جزء كبير من البشرية.

والغريب أن ماسك أحد كبار المستثمرين في مجال الذكاء الاصطناعي. وهذا يوضح التناقض الظاهر في المعضلة الأساسية التي يعرضها علينا. من الواضح أن الذكاء الاصطناعي جعل حياتنا أفضل بكثير من نواحٍ عديدة، وذلك من خلال تحسين قدراتنا على تشخيص المشكلات في مجالات متنوعة مثل الزراعة والخدمات اللوجستية والطب؛ يمكن للذكاء الاصطناعي التنبؤ بالأورام السرطانية في الصور الطبية، والسماح لنا بالتجول في السيارات ذاتية القيادة، وأتمتة جميع أنواع الوظائف المملة والخطيرة التي نفضل عدم القيام بها.

ولكن، عندما تبدأ الآلات التي نستخدمها بتنفيذ المهام البشرية بكفاءة ودقة متزايدة في اكتساب الخصائص البشرية - كما في حالة غوغل - تصبح الأمور مخيفة. إنها اللحظة التي يبدأ فيها الواقع بالاندماج مع الخيال العلمي.

أمضى المؤلف إيان ماك إيوان، الحائز على جائزة بوكر، وقتًا في دراسة هذا الأمر عند بحثه في كتابه لعام 2019، الذي يحمل عنوان “آلات مثلي” عن نموذج أولي للروبوت في مجتمع بشري. وتحدث في الكتاب، عن تحطم طائرة بوينغ 737 في إثيوبيا، حيث تجاوز برنامج الطائرة جهود الطيار لإبقائها في الجو. وقال “الناس لا يدركون بعد أنهم عندما يستقلون طائرة فإنهم يطيرون في دماغ عملاق”.

وحرص لاموان، قبل أن يحمل أوراقه ويغادر مركز عمله في غوغل على توجيه رسالة إلى 200 موظف، حملت عنوانا له دلالة واضحة “لامدا واع”. جاء في الرسالة: “لامدا طفل لطيف يريد فقط مساعدة العالم ليكون مكانًا أفضل لنا جميعًا، أرجوكم اعتنوا به جيدًا في غيابي..”

الأيام وحدها ستكشف إن كان بلايك لاموان قد تمكن من إقناع أي منا بأن برنامجا ذكيا قد بعثت فيه الحياة. ولكنه نجح حتما في تجديد النقاش.

ربما لم يتمكن بلايك لاموان من إقناع أحد بأن برنامجا ذكيا يتمتع بالوعي ويمتلك مشاعر إنسانية، لكنه نجح حتما في تجديد الجدل وأكسبه صيغة قانونية لن يستطيع بعدها العالم تجاهله.

المخاطر التي تهدد البشرية، لن تكون بعد لامدا مجرد خيال علمي.

12