الدّببة لا تسكن روسيا وحدها

حين تشتد الأزمات يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون الذين يملكون والذين لا يملكون ذلك أن الطبيعة البشرية تنزع نحو آليات دفاعية في حال تحسس ما يهدد وجودها.
الأربعاء 2022/03/16
الصراع من أجل البقاء

طوابير اللاجئين الأوكرانيين إلى الدول المجاورة تصنع، وبشكل أوتوماتيكي، طوابير الباحثين عن التزوّد بالطحين أو الوقود في أقاصي بلاد الأرض.. هذا هو حال العالم الذي تشابكت مصالحه وتقاطعت في ما يشبه القرية الواحدة.

وعلى ذكر القرية الواحدة، ماذا لو أقدم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على تنفيذ تهديداته وأوعز إلى غواصاته بقطع كابلات الإنترنت البحرية رداً على عزل روسيا؟

هل يستوي الحديث عندئذ عن “قرية واحدة” تغرق في الظلام وقد تقطعت أوصالها واهتز العالم بأسره، وبكل قطاعاته المالية والمدنية والعسكرية؟

لا أحد على رأسه ريشة كما يقال، إذ يتضرر الغني والفقير على حد سواء، في حال اهتزاز السلال الغذائية والأوضاع الأمنية وغيرهما، لكن الأقل تضررا هو من حقق لنفسه الحد الأدنى من الاستقلالية وعدم التبعية لـ”أولياء النعمة”.

وفي هذا الإطار، وفي حال قطع شرايين الإنترنت الذي ينبئ بنتائج كارثية، تجدر الإشارة إلى أن روسيا ستكون أقل المتضررين وذلك لأن كل كابلاتها واتصالاتها برية داخل أراضيها، كما أنها أنشأت شبكة إنترنت خاصة بها قبل سنين كما يفيد الخبراء والمتخصصون.

وبصرف النظر عن تقييم أحجام الربح والخسارة، فإن الكائن البشري بطبيعته، يستشرس في الذود عن بقائه في الكوارث والأزمات، ويضرب عرض الحائط بجميع القيم والتشريعات والمعاهدات فتنهض الغريزة قبل كل الاعتبارات.

الصراع من أجل البقاء هو عصب كل ما يدور من أحداث ومستجدات، ودون ذلك يصبح نوعا من اللغو والفذلكة الكلامية تسكت حين تنطق الضرورات الحياتية

حين تشتد الأزمات يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، الذين يملكون والذين لا يملكون، ذلك أن الطبيعة البشرية تنزع نحو آليات دفاعية في حال تحسس ما يهدد وجودها.

وما تفسير جل ما يحدث الآن في أوكرانيا إلا اصطدام مصالح بين روسيا والغرب الأوروبي والأميركي، وذلك ضمن تأويلات سياسية وقراءات اقتصادية تدعي كل منها الذود عن مصالح شعبها.

القيم الأخلاقية تأتي لاحقا، وبحسب ما تؤول إليه المصالح، وإنما يتم النفخ فيها على سبيل النفير والتجييش، وليس الركون إلى صوت الحق المنحاز غالبا إلى جانب الأقوى.

القاعدة تقول إن الاحتياجات أولا ثم تأتي الكماليات. وهنا، وعلى ضوء ما يحدث في الأزمة الأوكرانية، فإن احتياجات الدول هي نفسها احتياجات الفرد من غذاء وطاقة وصحة وأمن واتصالات، أما الكماليات فهي التوسع في الحديث عن حقوق ثقافية وقانونية وغيرها كالحديث عن البيئة والرفق بالحيوان.

اللحظة التي يقع المساس فيها بهذه الأساسيات التي تضمن بقاء الكائن الحي واستمراره، تتحول إلى حالة عدائية قاتلة، وينسى فيها كل ما كان ينظّر إليه في أوقات السلم والرخاء عملا بقاعدة الطبع يغلب التطبع.

التقدم الذي أحرزته البشرية على مدار العقود الماضية جاء بعد حرب كونية وقع فيها تقسيم المصالح ومناطق النفوذ، أي الاطمئنان لغنائم تلك المعركة، ثم توسع هذا التقدم بشكل أحادي الجانب وعلى مستوى الثورة الإلكترونية بعد سقوط جدار برلين، لكن الرغبة في الهيمنة الاقتصادية أشعلت نار الصراع من جديد.

وهكذا يظل الصراع من أجل البقاء هو عصب كل ما يدور من أحداث ومستجدات، ودون ذلك يصبح نوعا من اللغو والفذلكة الكلامية تسكت حين تنطق الضرورات الحياتية من غذاء وأمن وسكن ودفء ومواصلات.

هذه هي حال الإنسان منذ أن سكن الكهوف وبدأ في ترويض الطبيعة لصالحه، ولا زال كذلك حتى بعد أن تطلع إلى الكواكب في الفضاء البعيد رغبة في المزيد من التملك والسيطرة، وليس في حب الاكتشاف لمتعة الاكتشاف.

ولمجرد أن تتهدد مصالحه في تأمين بقائه، يرتد الكائن البشري إلى طبيعته الأولى في القنص والصيد وحب التملك.

حين تشتد الأزمات يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، الذين يملكون والذين لا يملكون، ذلك أن الطبيعة البشرية تنزع نحو آليات دفاعية في حال تحسس ما يهدد وجودها

كأن الحضارة البشرية لم تتقدم قيد أنملة خارج الاحتياجات الأساسية، وما عدا ذلك ضرب من الهراء ومجرد تغير في المفردات والأدوات، فالنار الموقدة في الكهف لأجل الاستنارة والتدفئة وطهي الطعام هي نفسها الطاقة التي تتصارع لأجلها القوى العظمى الآن.

والوقت الذي كان يمضيه الإنسان البدائي في سن الرماح والخناجر والسهام هو نفسه الذي يقضيه الآن في سباق التسلح وحروب الاستنزاف، أما عن تأمين المسالك وحيازة منابع الماء وطرق الصيد، فلم يتغير في جوهرها شيء يذكر.

حتى مشاكل البيئة وتلويث المحيط فإن إنسان الكهوف لم يكن لديه هذا الوعي البيئي المتقدم حتى نشكره على صنيعه بل ساهم في تدميرها إذا ما استطاع إليها سبيلا، غير أن أدواته لم تكن بنفس الحدة والفاعلية.

الثابت أن البشرية لم تتخل عن طبيعتها في تأمين احتياجاتها الأساسية، والمتحول هو طرق المعالجة والتدبر والحديث عنها.

يأتي كل جيل ليخبر أبناءه بأن أجداده كانوا “أكثر لطفا”، في حين أن التغير لم يكن إلا في مدى السرعة والفاعلية في أدوات التنفيذ، لذلك لا ينبغي الهلع أكثر مما يجب، وإنما التفكير في مبدأ “إما أن نعيش معا كمتحابين وإما أن نموت معا كحمقى متحاربين”.

ومن هذا المنطلق تزين تاريخ الإنسانية بأصوات الحكمة وتغليب العقل على مر العصور.

وهذا المبدأ هو براغماتي نفعي يصب في مصلحة البشرية قبل أن يكون ضربا من الرومانسية التي لا طائل من ورائها، لكن الطبيعة الإنسانية المتجلية في سلوكيات الأفراد، يمكن خلعها على الدول أيضا.. وهو ما يفسر فشل التجربة الشيوعية التي لم يكتب لها النجاح رغم خلفيتها الفلسفية والاقتصادية ومراميها الإنسانية.

وعلى نفس المقاس يمكن أن ننظر إلى ما يحدث في العالم اليوم، إذ يدعي كل طرف أنه يعمل لمصالح شعبه، تماما مثل الدب الذي قتل صاحبه بحجة الدفاع عنه.. وليست جميع الدببة تسكن روسيا وحدها بطبيعة الحال.

8