الدولة المستقيلة وموت الرضع

عندما يموت أكثر من 11 رضيعا في مركز صحيّ منوط بعهدته زرع الأمل والشفاء، وعندما تصير مؤسساتنا التعليمية مكمنا لتفريخ الجهل ولاستدرار التسرب المدرسي، فمن الواجب التوقف مليا للاعتبار والتحليل، لا فقط، لأن هناك تقصيرا هيكليا يستوجب التدخل والإصلاح، ولكن أيضا لأنه في فساد المنظومة الخدماتية، إخلال في واجبات الدولة وقصور في منظور الدولة لكرامة المواطن.
في قضية الأطفال الرضع الذين قضوا في مستشفى عمومي بتونس العاصمة، الكل مسؤول وإن بدرجات متفاوتة، والكل مساهم في هذه الكارثة وإن من مواقف مختلفة.
الوزارة التي لا تراقب الأدوية المستعملة والأجهزة الطبية المعتمدة، مسؤولة جزائيا وأخلاقيا، والحكومة التي دخلت في حملة انتخابية سابقة لأوانها مستعينة بمؤسسات وهياكل الدولة وبات كل همها تجديد الثقة في الاستحقاق البرلماني القادم، مسؤولة أيضا، والدولة التي تسمح بهجرة كفاءاتها من أطباء اختصاص وأدمغتها من الجراحين المتميزين إما إلى الخارج أو إلى القطاع الخاص، مسؤولة أيضا.
القطاع الصحي العمومي الذي طالما كان مكمن افتخار المجموعة الوطنية وقرينة الاعتبار ضمن السردية التاريخية بعد الاستقلال، بات اليوم مجالا عصيا على الإصلاح، وفي الحد الأدنى قطاعا تطرح حوله الكثير من التساؤلات.
وفي تونس، حيث قيمة الدولة مرتبطة بخدماتها الصحية والتعليمية، وحيث ميزة دولة الاستقلال متصلة أساسا بصحة الإنسان وعقله، يتجاوز السؤال مسألة قصور القطاع إلى قصور الدولة، ويعبر السؤال قضية حقيبة الصحة التي أصبحت اليوم عاجزة عن استدرار علاج، إلى قضية الدولة القاصرة عن تأمين الحدود الدنيا من الحقوق الاجتماعية والاقتصادية للمواطن البسيط.
ليس في الأمر تعويم للقضية التي لا بدّ أن يكشف التحقيق فيها عن المقصرين المباشرين وغير المباشرين، وأن يُماط اللثام فيها عن كافة المتسببين في فاجعة الرضّع، حتى وإن أدى الأمر إلى استقالة حكومة يوسف الشاهد.
ليس في الأمر تعويم بقدر ما هو بحث في الأسباب العميقة لهذه المأساة، فحالة المستشفى تلخص حالة الدولة التونسية راهنا، والرضع ضحايا النظام والمنظومة يجسدون واقع جزء معتبر من الشعب التونسي. وكما أن المستشفى عاجز عن الإحاطة بحاجيات المرضى وبمتطلباتهم العلاجية ومقصر في أدائه لواجباته الاستشفائية، فإن الدولة التونسية أيضا قاصرة عن تلبية حاجيات شعبها من الشيب والشباب والرضع.
في المحصلة، القضية هي قضية دولة مستقيلة عن أداء واجبها، وهي مسألة فشل في الإدارة والحكم والسلطة تنسحب على معظم مفاصل الدولة التونسية، وطالما أنّ صندوق النقد الدولي يسلط على الفاعل الرسمي قوالب ونماذج للدولة المستقيلة من القطاع العام والخدمات العمومية فإنّ مآسي نظيرة لمأساة الأطفال الرضع ليست ببعيدة عن المشهد الوطني.
في العمق، هناك دولة تريد الاستقالة التدريجية من الخدمة العمومية، وهناك انتقال نحو نموذج “الدولة الإدارة” يحتّم نقل الخدمات الإستراتيجية إلى القطاع الخاص، وهو انتقال مرحلي يبدأ من تغوّل المؤسسات الخاصة على العامة ومن استنزاف القطاعات العامة للدولة لينتهي إلى استبطان المواطن لفكرة أنّ الخدمات الجيدة مرتبطة بالخواص والخدمات التعيسة مرتبطة بالدولة.
ولأن لكل انتقال تكلفته الباهظة، فانتقال الدولة التونسية إلى نموذج “الدولة الإدارة”، على الطريقة التي يبتغيها صندوق النقد الدولي، ستكون له تكاليف مشطة سواء في مستوى روح العباد أو مكتسبات البلاد.
على أنقاض هذا، تصبح الدولة مكمن انقسام لا جوهر وئام، فالطبقة الميسرة لها تعليم جيد وسكن مرفه وصحة معتبرة وأحياء محددة، والطبقة الباقية سيكون لها تعليم تعيس وسكن فوضوي وصحة متدهورة وأحياء أخرى، هكذا يصير الشعب شعبين وهكذا أيضا تصبح مؤسسات وخدمات الدولة قرينة بالفشل الاجتماعي والدراسي والصحي ويصير الابتعاد عنها في المقابل، متلازما بالنجاح الحياتي والتفوق الدراسي والعافية الصحية.
إن كان من نضال حقيقيّ لا بد أن يُنفق في هذه القضية، فهي محاسبة المورطين المباشرين وغير المباشرين في قتل الأطفال، وبذل كلّ جهد للحيلولة دون تصيير تونس إلى “دولة إدارة” كما يبتغيها صندوق النقد الدولي.