الدمشقي البرليني مروان قصاب باشي

كنت قد شرعت في كتابة افتتاحية العدد الأخير من مجلة "الجديد" عندما بلغني نبأ رحيل مروان قصاب باشي، الفنان التشكيلي البرليني بامتياز، والابن الغائب لدمشق المحترقة اليوم بنار الحرب. أيّ خبر هذا، رحيل فنان عظيم صنع أسطورته ضربة وراء ضربة من ريشة بارعة وألوان حارة، وروح متأججة. عندما يغيب مبدع يوصد الموت نافذة في جدار الوجود. وغياب مروان قصاب باشي حدث يظهّر، اليومَ، في الأبصار وجْهَ منْ جرَحَ بريشته السطوح ليظهر تلك الوجوه القلقة السابحة في تيهها وكوابيسها وحطام أحلامها، وجوه في لوحات كل واحدة منها أيقونة للمصائر القاسية لإنسان العصر الحديث. مقالتي هنا موزعة على شقين وموضوعين، الأول يتعلق برحيل الفنان العالمي مروان قصاب باشي، الذي أغمض عينيه في برلين بعيدا عن وطنه الأم سوريا، وعن دمشق مدينة طفولته التي تركها أشبه بالحمامة المطوقة. والشق الثاني من المقالة موضوعه التلاعب بالعقول الذي يمارس اليوم على الأجيال الجديدة من قبل الأيديولوجيين ولاعبي الأرواق من ممثلي العالم القديم الفاني المتطلعين إلى إعادة نسخه على صورة مستقبل فاضل، إلى قوى الهيمنة والتسلط والفساد، في مجتمعات تحترق ويسودها العنف، وتفقد، ليس فقط الحلم بالمستقبل، بل وحتى مجرد إمكان الاستمرار في حاضر عصفت به الأزمات وضربته الزلازل.
الأحد 2016/11/06
لوحة من أعمال مروان قصاب باشي

لم يكن مروان قصاب باشي الطالع، كرونولوجياً، هو ومخيلته، من نور دمشق الظليل، رساما نوستالجياً يستعيد بعاطفة شرقية وجوه الدمشقيين الذين غادرهم ليصنع أسطورته الفنية في الشمال الأوروبي. ولكنه فنان إنساني النزعة نحت ملامح وانتباهات من تلك الوجوه في كل بؤرة للقوة في بورتريهات اشتهرت بعد كفاح فني طويل، وصلت إلى جدران كبريات متاحف الفن في العالم، “تيت غاليري” في لندن، و”متحف الفن الحديث في نيويورك” ومتاحف أخرى في شيكاغو، وطوكيو وبرلين وباريس ومدريد وغيرها.

بين تلك الوجوه في حالاتها القلقة التي صوّرتها ريشته نحت وجهه المفعم بالأسئلة، وجهاً اكتنز أسراراً وشت بها انتباهات وتعبيرات وتأمّلات تسكن نظرات في كل مرة تمنحك انطباعاً جديداً، أو هي تجدد حيرتك من ذلك الانطباع.

بحث لا يتوقف، مع الخطوط والألوان والمنظورات والأبعاد والعجائن اللونية، عبر الطبقات المتعاقبة للزمن ترافق كل ضربة فرشاة ومسحة لون وراء أخرى سبقتها لأيام وأسابيع، على مدار أيام وأسابيع وشهور، وصولا إلى تلك اللوحة التي لم تعد على براءتها الأولى، ولكنها اختزنت المشاعر الحرة والتوترات النفسية والشعورية والأفكار المصطرعة في كيان الفنان، إنها تلك الخلاصة التي صارت لوحة.

يتحدث نقاد الفن الذين رافقوا تجربة مروان قصاب باشي عن الوجوه والدمى في أعماله، والواقع أنّ كلاّ من الدمى والوجوه هي كيانات تشترك لدى هذا الفنان في ما يستنطقها به، وما يجمع بينها، عبر حدسه التراجيدي، من مصائر صاعقة في عالم لم يكفّ مروان قصاب باشي عن استقباله، من جهة الألم أولاً، حتى لكأنّ أعماله التي تقدم أشخاصا يدافعون عن وجودهم بالهروب إلى كياناتهم العزلاء، هم أشخاص مهزومون في عالم عدواني بامتياز.

ليس ثم استاتيكية تباهي بذاتها، ولا مرة، على سطح أعماله. بل إن أعماله التي تنقلت به عبر مدارس الفن التشكيلي من الواقعية، إلى التجريدية والسوريالية بميزات خاصة، لا تريد حتى أن تُرى من أول نظرة، ولا هي تريد أن تستدرج من الناظر إعجاباً، لكنها تسعى إلى أن تتحقق بحرية خاصة. ولو كان من قصد بارز تمكن الإشارة إليه في عمله، فهو نزوعه المستمر في إخفاء الآثار، فهو يرسم لوحاته ليخفي الانطباعات الأولى وراء انطباعات أخرى تتغير تدريجياً إلى أن ينفذ الفنان إلى الجهة الأخرى من موضوعه، حيث يمكن للوحة أن تشعّ بتلك الفكرة الملازمة له، فكرته وهاجسه عن وجود تراجيدي للإنسان في عالم كل ما يمكن أن يقدمه للإنسان هو القلق الوجودي.

غربة مروان قصاب باشي عن دمشق لم تكن، حقيقة، مجرد غربة جغرافية لشرقيّ في عالم غربيّ، ولكنها غربة صوفي في كوكب مهدّد. فهو شرقي وغربي معا. لم يخلع في برلين جلده الشرقي ليكتسي بجلد غربي ويصبح عالميا.

لكن كيف لمن عرف قصاب باشي أن يشيح بوجهه عن تلك المرارة التي سكنت روحه جراء الحريق الذي شبّ وراح يلتهم وطنه الأم سوريا، وقد تنبّه الفنان الذي ما برحت آلام فلسطين والعراق تسكن وجدانه وتحرك مواجعه، ليستيقظ مجدداً على جغرافية جديدة للحريق طالت هذه المرة وطنه الأم، لتهبّ في وجهه مجدداً نار العلاقة الشيطانية بين الاستعمار والاستبداد، وقد انعكست، مراراً، في نظرات أشخاصه نارَ جحيم متصل كان سبباً جوهرياً في غربته الممتدة بعيدا عن مسقط الرأس. ودمشق لدمشقي هي مدينة الأبدية، فكيف به وهو يودّع العالم بأبدية تحترق.

أخيراً لا بد لي من أن أشير، هنا، إلى أن “الجديد” احتفت، منذ أعدادها الأولى، بتجربة مروان قصاب باشي. فكرّست له غلافين من أغلفة سنتها الأولى، وأفردت وما تزال صفحات من أعدادها لعرض رسومه. وهو عبّر عن ابتهاجه بصدور “الجديد” وباهتمامها المتواصل بالفن التشكيلي العربي.

شاعر من سوريا مقيم في لندن

للمزيد:

الديني والدنيوي والصراع على الأجيال الجديدة

11