الدعم.. حرام على تونس حلال على أوروبا

نقطة ومن أول السطر.
رفع الدعم جنون مطبق، والدول التي تضغط على تونس لقبول هذا الحل بحجة تجنيبها ما أسمته “الانهيار”، إما ساذجة أو تريد أن تدفع تونس إلى الانهيار.
هل توقف المسؤولون في تلك الدول لحظة للتفكير بتأثيرات رفع الدعم عن المواد الغذائية والطاقة على الاقتصاد التونسي، وتحديدا على التضخم والنمو؟
لا يخفى أن التضخم في تونس يزحف نحو مستويات قياسية بسبب ارتفاع أسعار السلع الغذائية والمصنعة والخدمات، ورفع الدعم في ظروف مثل هذه سيدفع بالأسعار إلى زيادة جنونية، لينال من قدرة الشراء للتونسيين ويزيد من نسبة الفقر.
ليس هذا فقط، رفع الدعم سيزيد من كلفة الإنتاج على القطاع الخاص، ويقلل بالتالي من تنافسية هذا القطاع ويضعف من حجم الصادرات. وهو ما سيؤدي إلى انخفاض في معدل النمو في الاقتصاد التونسي، الذي يعاني أصلا من تباطؤ بسبب جائحة كورونا والأزمة الغذائية التي يواجهها العالم، وبفعل التأثيرات السلبية للحرب في أوكرانيا وبفعل الجفاف.
◙ الدعم الذي تقدمه تونس لمواطنيها وتشغيلها لـ200 ألف عامل، حتى ولو لم يكن هناك حاجة لهم، هو جزء بسيط جدا مما تنفقه دول الاتحاد الأوروبي على الضمان الاجتماعي والرعاية الصحية في بلدانها
هذه أبجديات وبديهيات يعرفها المتمرن والمبتدئ في علوم الاقتصاد، ما بالك بخبراء في الاتحاد الأوروبي.
فوق هذا كله، صندوق النقد لن يقدم لتونس مساعدات، بل قروض تزيد من أعباء ديونه التي قاربت 40 مليار دولار نهاية عام 2022، أي 80 في المئة من صافي الناتج المحلي.
سفير فرنسا لدى تونس أندريه باران أكد، مشكورا، استعداد بلاده لتقديم دعم مالي لتونس والمساهمة في تغطية احتياجاتها الإضافية من التمويلات لعامي 2023 و2024. ولكن، هذه المساعدة تبقى رهينة التنفيذ الفعلي لمخطط الإصلاحات الذي تمّ تقديمه إلى صندوق النقد الدولي.
كلام السفير الفرنسي جاء بعد يوم من تصريحات للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عقب القمة الأوروبية ببروكسل عبّر فيها عن مخاوف من أن تؤدي الأزمة الاقتصادية التي تشهدها تونس “إلى زعزعة كبيرة للغاية لاستقرار البلاد (تونس) والمنطقة وإلى زيادة ضغط الهجرة على إيطاليا والاتحاد الأوروبي”، داعيا إلى العمل على المستوى الأوروبي لمساعدة تونس من أجل السيطرة على تدفقات الهجرة”.
والغريب أن سياسة الدعم التي تحرّمها دول الاتحاد الأوروبي على تونس حلال عليها، خاصة على الحكومة الفرنسية التي تقدم دعما للمزارعين في فرنسا طالما أثار الاحتجاج من بلدان متضررة من مثل هذا الدعم.
وفقا لبعض المصادر، فإن فرنسا تحصل على حوالي 9 مليارات يورو سنويا من السياسة الزراعية المشتركة للاتحاد الأوروبي، وهي أكبر مستفيد من هذه السياسة، كما تقدم الحكومة الفرنسية دعما مباشرا للمزارعين من خلال تخصيص 1.2 مليار يورو في خطة إنعاش الاقتصاد لدعم قطاعات الزراعة والغذاء.
قد يقال إن هذا دعم لقطاع منتج وليس للمستهلك. هذا صحيح ظاهريا، ولكن بقليل من التروي نجد أن الدعم يصب في النهاية لصالح المستهلك.
الدعم الفرنسي للزراعة في فرنسا يساهم في زيادة إنتاجية المزارعين الفرنسيين، ويسهم بالتالي في تحقيق الأمن الغذائي للفرنسيين، وتوفير فرص عمل في المناطق الريفية، ويحقق فوائد “غير مشروعة” للمزارعين الفرنسيين على حساب منافسيهم في البلدان الأخرى.
◙ صندوق النقد لن يقدم لتونس مساعدات، بل قروض تزيد من أعباء ديونه التي قاربت 40 مليار دولار نهاية عام 2022، أي 80 في المئة من صافي الناتج المحلي
إن لم يكن هذا دعما، فما هو؟
هذه ليست القصة كلها، ضمن الشروط الموضوعة على تونس للإفراج عن قرض صندوق النقد الدولي إعادة هيكلة أكثر من 100 شركة مملوكة للدولة وتخفيض كتلة الأجور.
قد يبدو الاقتراح منطقيا وعقلانيا طالما أن هذه الشركات التي تشغل 400 ألف عامل تقريبا، وتكلف الدولة 6 مليارات دولار سنويا هي 60 في المئة من ميزانية الدولة، تشكل عبئا على الاقتصاد التونسي.
ولكن هذا من الناحية النظرية فقط..
دعونا نتساءل، ماذا يعني التخلي عن نصف هذا العدد لينضم إلى طوابير العاطلين عن العمل، خاصة أن معظمهم مسؤول عن أسر يرعاها؟ هل ستتخلى الدولة عن مسؤوليتها تجاههم، أم عليها أن توفر لهم السكن والغذاء والرعاية الصحية والتعليم.
ألقوا نظرة على هذه الأرقام لتعرفوا حجم التضليل الذي تمارسه فرنسا ودول الاتحاد الأوروبي:
• منحة البطالة في فرنسا تتراوح بين 29 و248 يورو في اليوم الواحد، وتحسب بناء على راتب المتقدم لطلب المنحة قبل فقدان العمل والزمن الذي عمل فيه.
• ميزانية الرعاية الصحية والاجتماعية لعام 2021 في فرنسا بلغت 553 مليار يورو، 230 مليار يورو منها مخصص للرعاية الصحية، و93.9 مليار يورو للإعانات الأسرية، و54.9 مليار يورو للإعانات المرتبطة بالإعاقة أو الحادث أو المرض المهني، و37 مليار يورو للإعانات المرتبطة بالبطالة.
هل يتوقع المسؤولون في دول الاتحاد الأوروبي أن تلقي الحكومة التونسية أبناءها إلى الشارع ليواجهوا مصيرا قاتما؟ بالتأكيد لا.
الدعم الذي تقدمه تونس لمواطنيها وتشغيلها لـ200 ألف عامل، حتى ولو لم يكن هناك حاجة لهم، هو جزء بسيط جدا مما تنفقه دول الاتحاد الأوروبي على الضمان الاجتماعي والرعاية الصحية في بلدانها.
◙ لا يخفى أن التضخم في تونس يزحف نحو مستويات قياسية بسبب ارتفاع أسعار السلع الغذائية والمصنعة والخدمات، ورفع الدعم في ظروف مثل هذه سيدفع بالأسعار إلى زيادة جنونية
لا يا سيادة الرئيس الفرنسي، ما هو حلال لكم ليس حراما على التونسيين.
الرئيس التونسي قيس سعيد أدرك ذلك منذ البداية. معلنا بصراحة أن “السلم الأهلي ليس لعبة”. مجددا معارضته لشروط صندوق النقد الدولي، مشبّها إياها بمثابة “تقريب عود ثقاب مشتعل من مواد شديدة الانفجار”، ومذكّرا ماكرون بأحداث 3 يناير 1984 أو ما يعرف بـ”انتفاضة الخبز” التي اندلعت في عهد الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة بسبب قرار برفع الدعم عن الحبوب ومشتقاتها، مشددا على أن “السلم الأهلي لا ثمن له”.
الرئيس التونسي لم يقف مكتوف الأيدي بانتظار “الانهيار” (لا سمح الله،) بل قدم تصورا آخر هو “توظيف أداءات على من لا يستحق الدعم لتمويل صندوق الدعم حتى يكون دعما يحقق العدالة المنشودة”، و”كما يجب أن يسود العدل داخل الدول، يجب أن يسود أيضا في العلاقات الدولية لأن الإنسانية كلها تتوق إلى مرحلة جديدة في تاريخها يعمّ فيها العدل والحرية والأمن”.
لم يدر قيس سعيد ظهره للأوروبيين، ولكنه لم ينتظر أن تأتي الحلول منهم.
وهو ما أكده خلال لقاء مع عدد من الأساتذة الجامعيين مشددا على ضرورة التعويل على الذات، وعلى “حق كل التونسيين والتونسيات في أن يعيشوا محفوظي الكرامة في دولة محفوظة الكرامة ومحفوظة السيادة”.
هذه ليست المناسبة الأولى التي يعبر فيها الرئيس قيس سعيد عن رفضه “إملاءات” صندوق النقد الدولي؛ فقد سبق أن دعا التونسيين إلى “التعويل على أنفسهم”، قائلا “لا لن أسمع الكلام.. السلم الأهلي ليس لعبة”.