الدعم الجزائري لفلسطين لا يتيح لها مفاتيح القضية

تصورات الدبلوماسية الجزائرية خلال السنوات الأخيرة تدفع بها إلى تجاوز بعض الأدوار الإقليمية للاعبين كبار والتطلع إلى أداء دور لم يأخذ في الحسبان التغيرات الحاصلة ويؤدي إلى مفعول عكسي.
السبت 2023/07/08
الجزائر احتضنت الحوار الفلسطيني – الفلسطيني ولا زالت الخلافات نفسها

منذ الحروب العربية – الإسرائيلية لم تتأخر الجزائر عن دعم الجبهة العسكرية العربية بالعدة والعتاد، ويحفظ العرب حينها موقف الرئيس الراحل هواري بومدين تجاه التلكؤ السوفياتي في تزويد الجبهة بالسلاح، لما حمل لهم غاضبا شيكا على بياض لرفع الحجة عن ترددهم، ومنذ السبعينات ظلت تعرف بشعار “مع فلسطين ظالمة أو مظلومة”، لكنه لم يعرف عنها أنها قادت جبهة للممانعة عكس خطابها الآن، ربما لقناعة لديها بأن مقوماتها لا تسمح لها بذلك، فهناك من هم أولى سياسيا وجغرافيا.

وفي نهاية ثمانينات القرن الماضي أعلنت دولة فلسطين من أرض الجزائر وسط أجواء قومية كبيرة، ومع تمسكها بالتزامات الدعم المادي، بقيت الجزائر وفية لمساهماتها حتى في أسوأ ظروفها الاقتصادية والمالية كما كان خلال العشرية السوداء، لكنها ظلت تحافظ على المسافة اللازمة التي يحتلها أصحاب الأدوار الأخرى بما فيها دول الجوار، لقناعة لديها أيضا بأن حل القضية الفلسطينية لن يكون إلا تحت إجماع فلسطيني وعربي.

ويبدو أن التحولات المسجلة في تصورات الدبلوماسية الجزائرية خلال السنوات الأخيرة تدفع بها إلى تجاوز بعض الأدوار الإقليمية للاعبين كبار في الملف، والتطلع إلى أداء دور يظهر أنه لم يأخذ في الحسبان العديد من المعطيات والتغيرات الحاصلة في المنطقة وفي مسار القضية، الأمر الذي قد يؤدي إلى مفعول عكسي عليها.

• قدر القضية الفلسطينية أن تتداول عليها خلافات وانقسامات عربية منذ عقود، انعكست على وحدة الصف الداخلي، وأن يبقى مصيرها معلقا بقوى ولاعبين يفقدون تدريجيا مبدأ مركزية القضية

وهو ما تجلى في امتعاض بعض الأطراف المالكة لحصرية الشأن الفلسطيني، على غرار مصر والأردن، الأمر الذي انعكس على العلاقات الثنائية معهما، بداية من احتضان الحوار الفلسطيني – الفلسطيني على أراضيها في أكتوبر الماضي، ورفع طموح تحصيل العضوية الكاملة لفلسطين في الأمم المتحدة، إلى الطلب الذي يكون قد تقدم به الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون إلى نظيره المصري عبدالفتاح السيسي من أجل تفعيل الآليات المصرية لضمان مرور النفط والغاز الجزائري إلى قطاع غزة.

تقارير عديدة تحدثت عن تجاهل مصري للطلب الجزائري، وهو ما يخفي موقفا مصريا غير متوافق مع النوايا الجزائرية، الأمر الذي يؤكد أن المسألة لا تتعلق بالموقف الجزائري التقليدي والصريح تجاه القضية الفلسطينية، وإنما بكون المفاتيح ليست بيدها وإنما بيد أطراف أخرى، يستوجب المرور عليها لتحقيق أي دفع أو تفعيل للتضامن الجزائري مع الفلسطينيين، وأي توظيف لأوراق أخرى سيفتح أبواب أزمات وتوترات هي في غنى عنها.

الرئيس الجزائري كان صريحا وواضحا في شأن التطبيع العربي – الإسرائيلي، وهو موقف لم يخرج عن التقليد الجزائري حتى وهو تحت ربقة الاستعمار الفرنسي، لكن الإضافات الجديدة هي التي جعلته محل توجس اللاعبين التاريخيين في الملف، خاصة ما ظهر من محاولة لافتكاك أوراقه، وتصدر لجبهة لا تروق للمطبعين القدماء والجدد.

احتضنت الجزائر الحوار الفلسطيني – الفلسطيني ولا زالت الخلافات نفسها، ورافعت في بعض المحافل الإقليمية والدولية لصالح العضوية الكاملة لفلسطين في الأمم المتحدة، وحمل إعلان الجزائر في قمة العرب المنعقدة على أراضيها مطلع نوفمبر الماضي التمسك بالمبادرة العربية لإحلال السلام، لكن يبدو أنه صوت يغرد خارج السرب وحده، والسبب أن المقاربة الجزائرية تجاهلت بشكل غير صريح الدور العربي في الملف، فيجري تجاهلها عمليا من طرف مصر أقوى اللاعبين في القضية.

هناك فارق ملحوظ في الموقف الجزائري تجاه فلسطين، بين ما كان سائدا طيلة العقود الماضية، حيث كان الالتزام بالدعم والتضامن بشتى الوسائل، وترك القرار للفلسطينيين ولدول الجوار، وهو ما عبر عنه الرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة بالقول “لن أكون فلسطينيا أكثر من الفلسطينيين”، في تلميح إلى دور القاعدة الخلفية وترك القرار السياسي لأصحابه، بينما الحاصل الآن أن الجزائر تريد أن تكون طرفا جديدا في القضية، وهو ما لم تهضمه الأطراف الأخرى، لسبب المنافسة أو لسبب إستراتيجي.

لحد الآن الطلب الجزائري والتجاهل المصري بقيا طي الكتمان على الصعيد الرسمي، ربما لرغبة البلدين في عدم إحراج بعضهما، لكن المحصلة هي خلاف ينضاف إلى خلافات أخرى منها الطبيعي ومنها غير الطبيعي، والأكيد أن القضية الفلسطينية لم تعد محل إجماع عربي كما قد تعتقد الجزائر في توجهاتها الدبلوماسية المستجدة، الأمر الذي يحتم على أصحاب القرار القيام بوقفة للمراجعة ليس من أجل التنازل عن موقف ثابت، وإنما لتوفير شروط نجاحه.

• الرئيس الجزائري كان صريحا وواضحا في شأن التطبيع العربي – الإسرائيلي، وهو موقف لم يخرج عن التقليد الجزائري حتى وهو تحت ربقة الاستعمار الفرنسي

الجزائر ومصر اللتان تنتميان إلى نفس المدرسة السياسية، تجمعهما عدة قواسم مشتركة، ولذلك فإن تكاملهما يكون أكثر فائدة للقضية الفلسطينية، والحوار والتشاور القاعدي سواء في رفع الحصار عن غزة أو تموينها بالطاقة أو الدعم المادي للفلسطينيين ومساعدتهم على العضوية الكاملة في الأمم المتحدة، لا يمكن أن يكون بجهد منفرد وإنما ببلورة موقف وخارطة طريق مشتركة.

قدر القضية الفلسطينية أن تتداول عليها خلافات وانقسامات عربية منذ عقود، انعكست على وحدة الصف الداخلي، وأن يبقى مصيرها معلقا بقوى ولاعبين يفقدون تدريجيا مبدأ مركزية القضية، لتتأكد بذلك نصيحة المناضل والقيادي التاريخي الجزائري الراحل حسين آيت أحمد للزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات بضرورة سحب القضية من العرب، وجعلها قضية فلسطينية، يتكفل الفلسطينيون بأنفسهم بتحرير أرضهم.

وقد يقول قائل إنه حتى الثورة الجزائرية التف حولها العرب في خمسينات القرن الماضي، وقدموا لها الدعم والإسناد، لكن قرار تفجير المقاومة ضد الاحتلال كان بمبادرة من أبنائها.

ولعله من الذكاء الدبلوماسي ما تبنته الجزائر طيلة العقود الماضية، لإدراكها أن أي تطوير للموقف وفق هذا المنحى يجعلها في مواجهة مع أطراف أخرى، وما مسعى خلق توازن بين الممانعين وبين المطبعين إلا لتقليص فرص الحل ما دامت القضية تتعدى الفلسطينيين أنفسهم، ومفاتيحها في أكثر من يد.

9