الدراما غير المتقنة عنوان ما يجري في مصر

في الفيلم المصري "حسن ومرقص" الذي عرض عام 2008، يقدم اللواء مختار سالم (الممثل عزت أبوعوف) تقريرا، في صيغة تصريح تلفزيوني بعد انفجار قنبلة، قائلا إن ضحايا العملية الإرهابية هم ثلاثة مصابين و75 قتيلا، وليس فيهم أجانب، "والحمد لله، كلهم مصريون".
ولا أحتاج إلى إيضاح الواضح الدال على القيمة الفعلية للدم المصري لدى هذا المسؤول أو ذاك. هذا المسؤول حمد الله في فيلم سينمائي، أما ذاك المسؤول في الفيلم اليومي غير السينمائي فحمد الله أيضا على أن ضحايا الانفجار الإرهابي الذي وقع بالقرب من الأهرام، الجمعة 28 ديسمبر2018، ليسوا أوروبيين أو أميركيين. هنا بداية تحوّل إلى منطقة جديدة يحتل فيها أجانب آسيويون مكانة وسطى، لا إلى هؤلاء البيض الشقر، ولا إلى هؤلاء المصريين الذين تتم تصفيتهم، بدلا من القبض عليهم والتحقيق معهم، لمعرفة ما ومن وراءهم، واستخلاص المعلومات الكفيلة بإنهاء مسلسل الدم.
في سكرة الكوارث تغيب الفطنة عن أغلب المسؤولين المصريين، وينسون تقديم اعتذار إلى أهالي الضحايا.
وبدلا من عزاء عابر لا يكلفهم شيئا، فإنهم يسارعون إلى الثرثرة عن احتواء الآثار المادية السياحية المترتبة على الحوادث، وهذا ما أغضب الروس عندما تحطمت الطائرة الروسية فوق سيناء في أكتوبر2015؛ إذ احتشد الخطابان السياسي والإعلامي لمناقشة تأثير الكارثة على مستقبل قطاع السياحة، ونسوا مأتما في روسيا يشمل 224 أسرة فقدت عائلها، من دون أن تحظى بعزاء.
وتكرر الأمر نفسه، الجمعة الماضي، على لسان اللواء فاروق المقرحي، وهو مساعد سابق لوزير الداخلية، بعد انفجار عبوة بدائية الصنع أثناء مرور حافلة سياحية بالقرب من الأهرام، وقتل في الانفجار ثلاثة سائحين فيتناميين ومرشد سياحي مصري، وأصيب السائق المصري وتسعة سائحين فيتناميين. كارثة جديدة تثير سؤالا عن وجود تراتبية في التدابير الأمنية وعلاقتها بجنسيات السائحين.
وبدلا من طرح هذا السؤال، جاءت الإجابة على لسان "ذاك المسؤول" وهو اللواء المقرحي الذي بخل بكلمة مواساة مجانية، فقال في برنامج تلفزيوني يقدمه برلماني مصري إن "الحادثة في حدّ ذاتها لا قيمة لها.. فرقعة إعلامية"، تريد بها الأبواق المعادية إثبات أن مصر غير آمنة. وليته سكت عند هذا الحد.
فبعد أن تذكّر الله في هذه الضراء، قال "الحمد لله، الأثر النفسي (جاء على) غير ما توقعوا. أعتقد أنهم توقعوا أن يكون في الأتوبيس ناس من أوروبا الغربية أو الولايات المتحدة الأميركية".
خطورة كلامه أن به شبهة عنصرية وتمييزا، فلم يقل إن الإرهابيين استهدفوا أميركيين وأوروبيين في المطلق، وإنما حدّد الأوروبيين بالانتماء إلى غرب القارة لا إلى شرقها.
وفقا لهذا الفهم فإن مواطني أوروبا الشرقية درجة ثانية، أما الفيتناميون فينتمون إلى الدرجة الثالثة، وأمرهم يهون، ولا علاقة لهذا الهوان، في التصور الرسمي، بما وصفه الرجل بعلاقة صداقة تربطنا بهم، وكأن بيننا وبين أوروبا الغربية وأميركا عداء مبدئيا. ثم إن الصداقة مع الفلبين لا تعني تفريطها في حقوق الضحايا، وأبسطها المواساة.
وتبعا لهذا التصنيف، فالمصريون في مستوى رابع توضحه وقائع الساعات التالية في الدراما، بإعلان وزارة الداخلية، السبت 29 ديسمبر، أن قوات الأمن قتلت 40 إرهابيا في محافظتي الجيزة وشمال سيناء، في تبادل لإطلاق النار، وأن القتلى كانوا يخططون "لتنفيذ سلسلة من العمليات العدائية تستهدف مؤسسات الدولة خاصة الاقتصادية ومقومات صناعة السياحة ورجال القوات المسلحة والشرطة ودور العبادة المسيحية… وأسفرت نتائج التعامل معهم عن مصرع عدد 40 إرهابيا"، منهم 30 في الجيزة التي وقع بها انفجار الحافلة في اليوم السابق.
من أقدم المأثورات التي ابتدعها المصريون، إذا شاهدوا دراما تناقض المنطق الفني، قولهم "المخرج عايز كده". وفي هذه الدراما الدامية لا نفهم شيئا، باستثناء ما يعرض علينا، نحن في موقع التلقي السلبي لما يريده "المخرج"، ولا حق للمشاهد في إعادة ترتيب الوقائع، وتصوّر سيناريو آخر للأحداث، والسؤال عن خلوّ معركة دامية، أوقعت 40 قتيلا، من جريح واحد.
التصفية الجسدية، بالاشتباه أو الحق، لا تداوي الاختلال الأمني، وقد تسهم في تعقيد المشكلات. وفي مارس القادم، 2019، تمر ثلاث سنوات على تصفية الشرطة لما قالت إنهم أفراد عصابة متخصصة في السرقة بالإكراه، وأعلنت العثور لدى شقيقة أحد القتلى على حقيبة بها جواز سفر الباحث الإيطالي جوليو ريجيني، وكان قد اختفى قبل ذلك بثلاثة أشهر، ثم عثر على جثته وثبت تشريحيا تعرّضه للتعذيب.
ستصير مصر دولة قانون حين تختفي من خطابها السياسي الرسمي مصطلحات شخصية عنترية مثل "الثأر للشهداء" و"تصفية الإرهابيين والمجرمين"، فالدولة كيان رمزي لا يسعى إلى الثأر من مواطن مهما يخطئ، وإنما تحقق العدالة، بالقصاص من الخارجين على القانون، بإجراءات احترافية صارمة ونزيهة، تنتهي بحكم قضائي يطمئن إليه الجميع.
لم نيأس بعد لدرجة أن نقول "المخرج عايز كده"، وإن احتفظت هذه العبارة بالقدرة على وصف الدراما اليومية، فقد دخل الرئيس المخلوع حسني مبارك المحكمة، في 2 أبريل 2011، مستلقيا على محفّة، متهما بالقتل، وحكم عليه بالمؤبد، ثم فاز بالبراءة.
وفي 21 مايو 2014 حكم عليه بالسجن المشدد ثلاث سنوات، وفي القضية نفسها قضت المحكمة بحبس ولديه علاء وجمال أربع سنوات، وإلزامهم بردّ 21.197 مليون جنيه وتغريمهم 125.779 مليون جنيه. وفي يناير 2016 أيدت محكمة النقض هذا الحكم ليصبح نهائيا وينال مبارك لقب "حرامي".
واكتملت الدراما بمبارك الذي تجاوز التسعين يدخل المحكمة على قدميه، الأربعاء 26 ديسمبر2018، شاهدا على الرئيس الإخواني محمد مرسي في قضية فتح السجون في "جمعة الغضب" 28 يناير2011.
وذروة المشهد أن يقول مبارك إن حركة حماس أرسلت 800 مسلح للمشاركة في إحداث فوضى، وهو اتهام لثورة شعبية أخرجته من القصر إلى السجن، وعجزت أجهزته عن ضبط فرد من "المتسللين"، أو العثور على جثته. لم يشهد التاريخ ثورة نموذجية بالشوكة والسكين، قصيدة خالية من الأخطاء، ولو قام بها نبي. وليست شهادة مبارك إلا دراما تثأر من ثورة 25 يناير، العُقدة التي تجند السلطة كل الأدوات المتاحة للنيل منها؛ لأن "المخرج عايز كده".