الدراما المغربية تضحي بهويتها الشعبية في سبيل الترند

مقاييس جديدة تغير شكل الأعمال الدرامية وأهدافها.
الجمعة 2024/08/02
المسلسلات القصيرة جاءت جراء البحث عن الترند

"الترند" آفة تجتاح القطاعات الفنية في المغرب، فحتى شركات الإنتاج الدرامي صارت تركض خلف تحقيق نسب المشاهدات الكبرى دون أن تولي اهتماما كبيرا بالمحتوى الفني وجودته والتزامها برسالة العمل الدرامي، كل ذلك رغم إدراك صناع الدراما أهميتها في تشكيل وعي الجمهور وإعادة تشكيله أيضا، إلى جانب دورها في الحفاظ على الهوية.

الرباط- تعكس الشعبية المتزايدة للمسلسلات الدرامية القصيرة في المغرب، في جانب منها، افتقارًا للتنوع والابتكار في صناعة الدراما المحلية، فالتركيز على جودة الإنتاج والصورة قد يؤدي إلى إهمال العناصر الأساسية الأخرى مثل تطوير الشخصيات والحوارات، مما يترك الجمهور مع أعمال تكون بصرية جذابة ولكنها تفتقر إلى العمق الروائي، فرغم المحاولات لمعالجة القضايا الاجتماعية المعاصرة، فإن العديد من هذه الأعمال لا تزال تسقط في فخ السطحية والنمطية، حيث يتم تقديم حلول سريعة وبسيطة لمشكلات معقدة، ما يقلل من تأثير الرسائل الاجتماعية ويجعلها تبدو غير واقعية أو مبالغا فيها.

ومع تزايد الاعتماد على منصات البث التدفقي، يمكن أن يؤدي ذلك إلى تركيز مفرط على إرضاء أذواق جمهور واسع على حساب الجودة الفنية والإبداع الحقيقي.

ويرتبط النجاح السريع في المسلسلات الدرامية القصيرة بنظام التفاهة، حيث يتم غالبًا الاعتماد على مواضيع منسوخة أو سطحية أو مشبعة بالأيديولوجيا، بهدف جذب أكبر عدد ممكن من المشاهدين بسرعة ودون جهد كبير، وعادة يفضل هذا النوع من الإنتاج إعادة تقديم قصص مكررة ومعالجة مواضيع مستهلكة بشكل مبسط وسهل الفهم، ما يسهل على الجمهور استيعابها ولكن دون تقديم قيمة فنية أو فكرية حقيقية، كما يتم تزييف القضايا الاجتماعية أو الأيديولوجية بشكل يهدف إلى إرضاء توجهات معينة أو ترويج أفكار محددة، بدلا من تقديم تحليل عميق أو نقد بناء.

◄ موجة التفاهة تؤثر سلبًا على المجتمع، ويصبح الفنان والمخرج والسيناريست والمنتج جزءا من نظام التفاهة الذي يتحدث عنه آلان دونو

هذه الإستراتيجية تجعل النجاح مؤقتًا وسطحيًا، حيث يفقد العمل قيمته مع مرور الوقت ولا يترك أثرًا دائمًا في ذاكرة المشاهدين أو في المشهد الفني عموما.

وتشهد الدراما المغربية في الآونة الأخيرة تحولا ملحوظا نحو التركيز على “الترند” والشعبية السريعة على حساب جوهر الرسالة الأساسية، ففي ظل التقدم التكنولوجي وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي، أصبحت العديد من الأعمال الدرامية تسعى جاهدة لتحقيق مشاهدات عالية وإثارة الجدل بدلاً من تقديم محتوى هادف ومؤثر. ويؤدي هذا التحول إلى تدهور مستوى الدراما وفقدان قيمتها الأصيلة كمصدر للإلهام والتعليم والنقد الاجتماعي البناء.

تواجه الدراما تحديات كبيرة في العصر الحالي، حيث أصبح السعي وراء الشهرة وحصد نسب المشاهدة هدفًا رئيسيًا للكثير من منتجي ومخرجي الأعمال الفنية، خاصة طفرة المسلسلات القصيرة، وهذا السعي نحو “الترند” يؤدي إلى تدهور الجودة بسبب التركيز على المواضيع السطحية والجاذبة للجمهور السطحي، بدلاً من معالجة قضايا اجتماعية وإنسانية عميقة، كما أن عامل الزمن يلعب دورا مهما حيث تسعى شركات الإنتاج لإنتاج أعمال بسرعة وبتكلفة منخفضة وهو ما يعيق عملية الإبداع والتجديد، ويؤدي إلى تكرار الأفكار والنماذج المستهلكة. ومع تزايد المنافسة والضغوط التجارية، يصبح من السهل أن يتجاهل الفنانون والمخرجون القيم الفنية لصالح الجذب الجماهيري الفوري، وهذا يجعل الأعمال الدرامية تفقد رسالتها الحقيقية وتتحول إلى مجرد وسيلة للتسلية السريعة بدلاً من كونها مرآة تعكس الواقع وتساهم في تحفيز التفكير النقدي نحو الأبعاد المكونة للمجتمع.

ويمكن القول إن السعي نحو “الترند” يعكس تحولًا في ديناميكيات العرض والطلب، فبينما يبحث الجمهور عن محتوى جذاب، يندفع المنتجون والمبدعون نحو تقديم محتوى يتماشى مع هذه الرغبات، وهذا التحول يؤدي إلى إهمال القيم الفنية العميقة لصالح السطحية والتسلية المؤقتة، كما تتيح هذه الضغوط أيضًا فرصًا جديدة للفنانين لابتكار طرق جديدة للتعبير تجذب جمهورًا أوسع دون التفريط في جوهر الرسالة الفنية.

◄ في عصر التفاهة يتم إنتاج المحتوى بسرعة وبتكاليف منخفضة
في عصر التفاهة يتم إنتاج المحتوى بسرعة وبتكاليف منخفضة

ويلعب البُعد التجاري دورًا حاسمًا في هذا السياق، من خلال الضغوط المالية والإنتاجية، حيث تفضل الشركات المنتجة الأعمال التي تضمن عائدًا سريعًا ومضمونًا على حساب الجودة والمضمون، إذ تعزز التطورات التكنولوجية ووسائل التواصل الاجتماعي هذا الاتجاه وتجعل من السهل الوصول إلى جمهور واسع بسرعة كبيرة، ما يحفز الرغبة في إنتاج محتوى سريع الانتشار، ومع ذلك يبقى السؤال جدليًا حول ما إذا كان من الممكن تحقيق توازن بين الحفاظ على القيم الفنية والتكيف مع متطلبات العصر الرقمي، أم أن الفن الدرامي محكوم بفقدان جزء من جوهره في سبيل البقاء في دائرة الضوء.

يعرض الكاتب آلان دونو رؤيته حول العالم والمثقف في كتابه “نظام التفاهة”، حيث يؤكد أن الأفراد يضعون الحق والحقيقة نصب أعينهم ويتصرفون بعقلانية وضمير قبل أي شيء آخر، ما يجعل المؤسسات الأكاديمية تعمل بكفاءة وفعالية بوجودهم، بينما يشير الكاتب أيضا إلى “شبيه الخبير”، الذي يبيع كلمته وضميره من أجل المال ويكون على استعداد لتزييف الحقائق العلمية لصالح أصحاب السلطة والنفوذ، ما يؤدي إلى تشتت الجامعات والمؤسسات عن أهدافها الحقيقية ويفرغ مجالات البحث والعلم من محتواها المهم، ومثلها صناع الدراما.

وينتقد آلان دونو نظام الدراسة في الجامعات بكندا والولايات المتحدة الذي يمنع الإبداع والتميز، حيث يتساوى جميع الطلاب دون اعتبار للتميز الفردي، مشيرًا إلى أن المهم ليس الإبداع أو التميز بل امتلاك مهارات النصب والاحتيال للارتقاء في الدرجات وتولي المناصب العليا.

◄ الدراما المغربية تشهد تحولا ملحوظا نحو التركيز على “الترند” والشعبية السريعة على حساب جوهر الرسالة الأساسية

ويخلص الكاتب إلى أن كل هذا يحدث لخدمة مصالح السوق العالمي، الذي يسيطر عليه أصحاب رؤوس الأموال الذين يمتلكون السلطة والنفوذ، وينطبق هذا على شركات إنتاج الدراما أيضا.

ويترتب على النجاح السريع في هذا المجال تداعيات سلبية متعددة تطال مختلف جوانب الفن والمجتمع، فمن الناحية الفنية يؤدي هذا التوجه إلى تراجع جودة الأعمال الفنية، وتفقد الدراما عمقها وقدرتها على معالجة القضايا الإنسانية والاجتماعية بصدق وإبداع، ويشجع هذا النمط على إنتاج أعمال تعتمد على الإثارة اللحظية بدلاً من الاستدامة والقيمة الفنية، ويقلل من فرص تطور الفن الدرامي كوسيلة للتعبير الثقافي العميق.

ومن الناحية الاجتماعية يسهم تفضيل “الترند” على الجوهر في تشويه صورة الواقع وتشجيع الاستهلاك السريع للمحتوى، ويؤثر سلبًا على وعي الجمهور، إذ يخلق هذا التوجه بيئة تنافسية غير صحية بين الفنانين والمبدعين، ويدفع الضغط هؤلاء إلى تقديم تنازلات تضر بجودة إنتاجهم وتؤثر على مصداقيتهم الفنية، ما يحول الدراما إلى مجرد منتج تجاري يفتقر الإبداع والابتكار.

وفي عصر التفاهة يتم إنتاج المحتوى بسرعة وبتكاليف منخفضة بينما يتعرض الفنانون لضغوط هائلة للالتزام بمتطلبات السوق والتوجهات الرائجة، ما يقيد حريتهم الإبداعية ويجعلهم رهائن للـ”ترند”، إذ تؤثر هذه الموجة من التفاهة سلبًا على المجتمع ككل، وتشجع الاستهلاك السريع للمحتوى وتقلل من قدرة الجمهور على التفاعل مع الأعمال الدرامية ويصبح الفنان والمخرج والسيناريست والمنتج جزءا من نظام التفاهة الذي يتحدث عنه آلان دونو.

15