الدراما اللبنانية ترتد إلى مراتب دونية أشبه بالإعلانات

كان نجوم الدراما اللبنانية القدماء يبنون نجوميتهم على فكرة المسافة، التي من شأنها وضع المشاهد في الموقع الطبيعي له، أي دور المتلقي والمتذوق، فالتماهي بالأبطال كان تماهيا على مستوى الموقف، وكان جزءا من لعبة التواصل الطبيعية التي تنتسب إلى مجال التأثير، الذي يهدف صانع الدراما إلى إحداثه في نفس المشاهد، وفي قلبه وعقله، لترتد الدراما اللبنانية اليوم إلى مراتب دونية أقرب إلى ومضات إعلانية.
الجمعة 2016/03/18
أزياء وأجساد وأكسسوارات بلا مضمون

يكاد متابعو العصر الذهبي للدراما اللبنانية في حقبة الستينات والسبعينات، يجمعون على أن السحر والجاذبية اللذين كانت تتمتع بهما، إنما يعودان بشكل أساسي إلى خصائص فنية بحتة، أهم تلك الخصائص ترتبط بالقدرات العالية التي كان يجب توفرها عند الممثلين، خصوصا أولئك الذين كانوا يقدمون الدراما الناطقة باللغة الفصحى، أو تلك التي تتناول وقائع تاريخية.

لم يكن ممكنا لمشاهد الدراما اللبنانية في فترة الستينات والسبعينات أن يقول لنفسه إنه يستطيع أن يؤدي هذا الدور مثل الممثل، لأن التطلب التقني، والإعداد الطويل، والتدريب الشاق الذي كان عدة الشغل في تلك الفترة، كان يظهر جليا في الأداء وفي كل ما كان يعرض للناس على شاشات التلفزيون.

محاولات استعادة المسلسلات القديمة التي لاقت رواجا منقطع النظير، عبر وجوه جديدة وإخراج جديد، أظهرت هذا الفرق الهائل في معايير النجومية بين الأمس واليوم.

ومن هناك، يمكن إدراج تجربة إعادة المسلسل الشهير “10 عبيد زغار” في هذا السياق، حيث أن استقبال الجمهور له كان عبر إعادة مشاهدة المسلسل بصيغته الأصلية، كما انتشرت التعليقات الساخرة التي لم تنته على وسائل التواصل الاجتماعي إلى الآن، حيث وضعت المسلسل بكل عناصره سواء على مستوى الإخراج، أو التمثيل، أوالإضاءة في دائرة الرفض والاستهجان.

المشكلة تكمن في أن التمثيل لم يعد مهنة، ولم يعد سيرة حياة، وخصوصا في لبنان الذي باتت الدراما فيه موضع تندر عام، حيث ندر ظهور مسلسلات درامية رصينة تتمتع ولو بالحدود الدنيا من عناصر التمكن الفني، والتمثيلي والإخراجي.

الدليل على ذلك هو ذلك الانتقال المفاجئ وغير المستساغ لنجمات عروض الأزياء والمغنيات إلى عالم الدراما في أدوار بطولة مطلقة، وحلول الممثلين ممن يملكون في رصيدهم تراثا مهنيا عريضا، في أدوار ثانوية أو هامشية لا تبرز قدراتهم، ولا تناسب صورتهم، ولا تناسب فن التمثيل أساسا، هكذا بات هؤلاء يدرجون، على الرغم من تمتعهم بقدرات فنية جيدة، في سياق الرداءة العامة، حيث صار حاضرهم شاهدا على ماضيهم وقادرا على إلغائه، وليس العكس.

غياب القدرات التقنية، وضعف الأداء، وضآلة الموهبة باتت قادرة على إخراج التمثيل الدرامي في لبنان من كونه مهنة تتطلب من سالكيها التمتع بشبكة مواصفات معينة، وتحويله إلى سوق تعرض فيه بضائع الأزياء، والديكورات والأجساد. السيناريو والإخراج والتمثيل في معظمه يوضع في خدمة هذا السياق الذي يقارب في بنيته، بل يتطابق مع السياق الإعلاني.

النظرة العامة كانت تعتبر التمثيل مهنة خاصة، تتطلب تكريسا كاملا للجهود حتى يتم إتقانها والتمرس بها

غابت المسافة بين المشاهد والممثل، فبات المشاهد قادرا على تأدية الدور الذي يعرض أمامه فصار هو الممثل.

شعبية الدراما اللبنانية المعاصرة التي يكاد هناك شبه إجماع على هشاشتها وضعفها تعود إلى أن المشاهد إنما يشاهد نفسه، لا نعني بذلك أن الدراما تنقل واقع الناس وتدل عليه، بل إنها، وعلى العكس من ذلك، تؤسس لأوهام الناس عن صفاتهم وأحوالهم وتعبر عنها، من هذا التماهي الكبير بها، وهو تماه يعكس واقع الأزمة المتبادلة بين الدراما اللبنانية ومشاهديها، حيث يظهر وكأن هناك قدرا كبيرا من التواطؤ بين تلك الأحوال الغريبة، والعنيفة، التي تحرص الدراما على تصويرها، وبين شخصية المشاهد.

غياب العقلانية، والجنوح إلى الحلول العنيفة، أو الغرق في دوامة المخدرات والكحول، هي سمة ردود أفعال اللبنانيين على أوضاعهم، التي تلعب الدراما ليس دور الناقد لها، بل دور المروج. هذا هو الفرق في شعبية الدراما اللبنانية بين الأمس واليوم، ولعل التاريخ يرصد أن الدراما اللبنانية كانت قد نجحت في قراءة أثر الحرب، والسخرية منها من قبيل مسلسل “أربع مجانين وبس”.

الدراما اليوم لا تنتمي إلى أي بنية تثقيفية، ولا تحذر من أهوال، بل إنها تشكل لسوء الحظ جزءا منها، ولعله الجزء الأكثر فظاظة كونه يرتدي عباءة الفن. وهذه العباءة أصبحت اليوم سمة تصبغ كل شيء في لبنان، استباحة طالت مهنة كانت حكرا على القادرين على بذل جهود شبه صوفية قبل انتزاع صفة الممثل أو المخرج.

17