معالم الزمن الروسي الأسدي في لبنان

لا تجري الحرب الروسية على أوكرانيا في الميدان الأوكراني وحسب، بل بات العالم كله ساحة لها بأشكال مختلفة.
أثرها الذي يمكن تلمّسه في المستنقع اللبناني يتجلى في تسارع وتيرة الانعطاف الحاد في اتجاه روسيا بوتينية تجهّز لمرحلة إعادة إنتاج زمن أسديّ لبناني.
الزيارات اللبنانية – الروسية الناجحة في هذه الفترة تقتصر على رجال الأسد، بينما أكدّت الأخبار الواردة من موسكو أنّ رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط التقط خلال زيارته الأخيرة المؤجلة من العام الماضي مناخا لا يسرّه شخصيا ولا يسرّ بشكل عام.
لم يكن الأمر كذلك خلال زيارة منافسه الدّرزي طلال أرسلان، كما أنّ الزيارة المنتظرة لسليمان فرنجيّة تتخذ عنوان زيارة رئاسية تحدد من خلالها روسيا موقع البلد بوصفه امتدادا شرعيا لعهد أسدي أكملت إنتاج معالمه في سوريا، وتستعد لتصديره إلى لبنان مدعومة بشبكة تحالفات خليجية وعربية واسعة.
لم تغفر روسيا لجنبلاط مواقفه من حربها على سوريا وما أدلى به حينها من تصريحات وتغريدات خاطب فيها بوتين شخصيا قائلا له إنه “إذا كان من أحد مسؤول عما يجري من تطرّف في سوريا فهي سياسة القيصر بوتين التي استماتت في دعم الظلم الأسدي تجاه غالبية الشعب السوري”، كما سبق له أن طالب الغرب بتزويد المعارضة بالسلاح النوعي خلال معركة حمص.
التموضعات اللاحقة التي حاول فيها الزعيم الدرزي إعادة تركيب العلاقة مع بوتين والأسد ضمن الحدود الدنيا لم تنجح بل راكمت حقدا أسديا عميقا، وإذا ما أضفنا إليه السّمات الشخصية لبوتين وميله الشديد لشخصنة السياسة فسيكون جنبلاط أبرز المعدين للإقصاء.
الإدانة اللبنانية الرسمية للغرو الروسي لأوكرانيا حُمِّلت للرئيس عون ولرئيس الحكومة نجيب ميقاتي واعتبرت بشكل ما تناغما مع سياقات أميركية وإيرانية.
الأسدية التي يتم الدفع في اتجاه شرعنتها روسيا وعربيا لا تقوم إلا على سلسلة متصلة من الإقصاءات، وعمليا فإن المشهد الذي تفرزه السياقات الممهدة لها تكشف عن ميل لإقصاء السّنة
من ناحية أخرى برزت المباركة السعودية والتي لم تتحوّل إلى دعم علني مباشر للائحة رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة التي تخوض الانتخابات النيابية في دائرة بيروت الثانية، وهي تشكلت في مواجهة لوائح مدعومة من الحريري الذي أعلن الاعتكاف ولكنه لا يزال يدعم مرشحين معينين في إطار يناقض بوضوح المواقف السّعوديّة.
المعنى الذي يكشفه هذا السّياق أن التّموضع السّني الأبرز والمرشح للفوز في الانتخابات يتناغم مع المواقف الروسية والعربية والخليجية بشكل عام في تناقض واضح مع مواقف عون وميقاتي الذي اعتبر مسؤولا عن الموقف الحكومي الرسمي.
ومن ناحية ثانية تبدو الفتاوى المباشرة وغير المباشرة من قبل دول الخليج الدّاعية إلى دعم القوات اللبنانية في معاركها الانتخابية تكثيفا للسياق نفسه.
يبني حزب القوات حضوره حاليا بوصفه وريثا شرعيا للثورة ولقوى 14 آذار الآفلة وكذلك للسنة بعد قرار اعتكاف سعد الحريري.
يجتهد في تكريس شرعية كل هذه الوراثات مستفيدا من بعدين وهما الحيثية الداخلية والدعم الخارجي، حيث تنظر إليه السعودية بوصفه القوة الوحيدة الجاهزة لقيادة مواجهة مع إيران في لبنان، ولا تمانع كذلك من مساعدته على احتلال موقع الزعامة السنية الفارغ.
وإذا كانت الظروف المصنعة روسيا في هذه المرحلة قد تدفع بخصمه في الساحة المسيحية سليمان فرنجية إلى سدة الرئاسة بعد مخاضات عسيرة يرجح أن تمر بها البلاد بعد الانتخابات النيابية، فإن رئيس الحزب سمير جعجع يراهن على جملة مكاسب ثمينة وكبيرة. أبرزها أنه سيكون الرابح الأكبر انتخابيا في الساحة المسيحية.
إقصاء جبران باسيل عن السباق الرئاسي وخسارته الأصوات السنية التي منحها سعد الحريري له في انتخابات 2018 وتذويب شعبية التيار العوني المحاصر بتحالفه مع حزب الله والعقوبات الغربية المتتالية تعزز بروز جعجع في المرحلة القادمة كزعيم لبناني وليس بوصفه المسيحي الأقوى.
عملية مقارعة إيران التي يرفعها كشعار سياسي وانتخابي تتماشى مع العنوان الروسي – السعودي، وكذلك لا يبدو أن طيف الأسد العائد إلى لبنان يؤرق أي طرف غير جماعة حزب الله.
العودة المتوقعة لن تكون في إطار التحالف معه بل تتخذ شكلا تنازعيّا ظهرت ملامحه بوضوح في التدخلات الأسدية لفرض مرشحين معينين تابعين له مباشرة على لوائح الثنائي الشّيعي، في حين كان الحزب يعمل على تحجيم وتقليص الحضور الأسدي.
لبنان هذا البلد الصغير المدرج في قائمة البلدان الأكثر تعاسة على الكوكب يستعدّ للدخول في زمن التّعاسة الأبدي البوتيني الأسدي حيث ستكون الحرية جريمة والسياسة خطيئة
الإملاءات الأسدية المغطاة بالعصا الروسية فرضت تغيير قواعد اللعبة، وكشفت عن ملامح تمايز حاد يشمل الساحتين اللبنانية والسورية، كما يؤكد مشهد مسارعة جماعة إيران في سوريا للاستفادة من أي إعادة توزيع للقوات الروسية في محاولة احتلال مواقع وتثبيت نفوذ مهدّد كما هو الحال مع احتلال مستودعات مهين شرق حمص بمجرد انسحاب القوات الروسية منها من قبل ميليشيات إيرانية والفرقة الرابعة.
الزمن الروسي في طبعتة اللبنانية الأسدية لا يعني سوى إخراج البلد من زمنه وتاريخه وعلاقته بالغرب والعالم وتحويله إلى مستعمرة منسيّة لا يُستبعد أن تنسف دساتيرها المؤسسة، وكذلك اتفاق الطائف الذي رسم ملامح التوازن فيها في مرحلة ما بعد الحرب.
الأسدية التي يتم الدفع في اتجاه شرعنتها روسيا وعربيا لا تقوم إلا على سلسلة متصلة من الإقصاءات، وعمليا فإن المشهد الذي تفرزه السياقات الممهدة لها تكشف عن ميل لإقصاء السّنة عن معادلة السلطة، إذ أنّ القيصر بوتين سبق له أن أعلن عن عدائه العميق لهم في سوريا، وكذلك الدروز حيث يعمل على إخراج زعيمهم التاريخي وليد جنبلاط من المعادلة ومحاصرته بحلفائه من منافسيه الأقل حضورا وتمثيلا .
الأمر نفسه يتكرر في الساحة المارونيّة إذ أن الدفع بفرنجية الأقل شعبية في الوسط الماروني إلى الواجهة بفضل ولائه للأسد لا يعني السعي لتمكين حلف الأقليات على حساب الأكثريات، بقدر ما يشير إلى نزعة تفكيك شاملة تشمل الأقليات نفسها وتبنى على أساس الولاء وحسب.
الآثار المتفاقمة لحرب بوتين على أوكرانيا والخسائر الكبيرة التي لحقت بصورته وسمعة جيشه فيها تجعل خسارته الواضحة أمرا غير وارد، حيث يحتاج إنهاء الحرب إلى تخريجات وتنازلات تجعله يبدو منتصرا.
إذا كان الغرب تعايش مع ضم شبه جزيرة القرم ولا يظهر ما يؤكّد أنّه غير قادر على التّعايش مع ضم كلّ منطقة الدونباس إلى روسيا، فهل سيكون من المستغرب تسليم منطقتنا بالكامل له ضمن مشروع تفاوض، يرجح أن يستتبع الحرب على أوكرانيا، بوصفها جوائز ترضية من ناحية، وتأكيدا على هامشية دورها ومصيرها وتأثيرها.
وهكذا فإن لبنان هذا البلد الصغير المدرج في قائمة البلدان الأكثر تعاسة على الكوكب يستعدّ للدخول في زمن التّعاسة الأبدي البوتيني الأسدي حيث ستكون الحرية جريمة والسياسة خطيئة.