الدراما اللبنانية الرمضانية: حنين إلى زمن الإقطاع ونسوية مريضة

“أمرك يا ست وحاضر يا بيك” عبارتان تخترقان الدراما اللبنانية في مسلسلي “مش أنا” و”وين كنتي”، وكأنهما علامة لا تخطئ على حنين قهري إلى زمن الإقطاع ومفاهيمه ولغته، الديكور لا يغادر منطقة الحنين هذه، ويظهر بوصفه عاملا مشتركا بين المسلسلين، حيث لا يشكل الانتقال من مشهديّة “مش أنا” إلى مشهدية “وين كنتي” عملية انتقال إلى مناخ مختلف وجديد، بل يظهر الديكور وكأنه يعيد نفسه لناحية الإصرار على عرض أثاث القصور الفاخرة.
الثلاثاء 2016/06/21
الحكاية في دفة والواقع في دفة أخرى

ساهم عرض مسلسلي “مش أنا” و”وين كنتي” على شاشة المؤسسة اللبنانية للإرسال، بشكل متصل دون فوارق زمنية، في تعميق أثر الحنين إلى زمن الإقطاع ومفاهيمه ولغته، الأمر الذي يجعل المشاهد أسير رتابة بصرية، قبل أن تأتي رتابة السيناريو ورتابة الحركات والتعابير لتفاقم حالة الذهول التي تنتاب متلقي شحنة المبالغات التي تسيطر على أداء الممثلين.

لا يخرج التعبير الأدائي في هذين المسلسلين من دائرة “الصدمة”، فلا يظهر الممثلون إلاّ وهم في حالة انفعال أو ذهول، وكأن الإخراج يصر على تحويل كل مدة المسلسل إلى حالة ذروة درامية دائمة لا انقطاع فيها، معتقدا أنه يستطيع بذلك منح البنية الدرامية أبعادا فعالة ومؤثرة وعميقة.

الحصيلة التي تتجلى أمام أعيننا على الشاشة كانت مغايرة تماما، إذ تحول هذا اللهاث الانفعالي المتواصل إلى حالة من الإرهاق في التلقي، وإلى مبالغات منفرة تبتعد عن التمثيل وعن الواقع في آن واحد، وتجعل المشاهد يفقد الصلة بما يشاهده. بشكل آخر يمكن أن نقول إن شكل التعبير الذي تعتمده الدراما اللبنانية، كما تجلى في هذين المسلسلين على الأقل، هو شكل تعبير غير موجود في عالم التمثيل ولا في حياة الناس اليومية، ولا يمكن بسهولة تحديد مصادره التقنية ولا المعرفية، ولا نسبته إلى مدرسة معينة من مدارس التمثيل المعروفة.

هكذا قد يكون من المعقول الاستنتاج أن هناك مدرسة جديدة في عالم التمثيل تنشأ هي مدرسة الدراما اللبنانية، وهي مدرسة خاصة لا تبدو تعاليمها قابلة للتعميم والتداول، بل تكاد تكون أقرب إلى جمعية سرية متعصبة، تعرض مفاهيمها في العلن مفترضة أنها قادرة على خلق غواية لا تنافس.

لم يعد عالم الدراما التلفزيونية ضيقا ومحدودا كما تفهمه الدراما اللبنانية، بل باتت الدراما التلفزيونية تتسم بمواصفات قادرة على منافسة الإنتاجات السينمائية الضخمة، كما تطرح فيها أفكار بالغة العمق والجدية، تحاول إعادة قراءة التاريخ، والإضاءة على الحاضر، واستشراف آفاق المستقبل، كما تُخضع كل الأفكار والمفاهيم الكبرى لتساؤلات نقدية شرسة.

انفعال متواصل يؤدي إلى إرهاق في التلقي، مع مبالغات منفرة تبتعد عن التمثيل وعن الواقع في آن واحد

الدراما اللبنانية، وعلى عكس ما وصلت إليه الدراما في العالم، لا تزال أسيرة مفاهيم بالية ومحدودة، ينعكس صداها في المفهوم المشترك الذي يحيل إليه كل من “مش أنا” و”وين كنتي” وهو مفهوم النسوية المريضة.

تتجلى هذه النسوية في “مش أنا” في شخصية “الست هنا” كارهة الرجال، والشخصية المتسلطة التي تلتذ بترهيب الخدم، والمتزوجة من رجل كبير في السن نراه يرقد مريضا عاجزا على فراش في المستشفى قبل أن يموت، حيث تتعامل “الست هنا” مع موت زوجها بلا مبالاة وتحرص على حضور الجنازة بلباس أسود مثير.

يحرص المسلسل كذلك على تصوير الشخصية الراديكالية للـ”ست هنا” المعتادة على الرفض، ويرسم لنا ملامح عقدتها من الرجال بشكل ساذج، لا يعكس صراعا عميقا، بل تبدو الشخصية منسجمة مع عقدتها ومرتاحة لها.

هكذا تظهر العقدة التي يقوم عليها كل البناء الدرامي وكأنها ليست عقدة في الأساس، بل سمة شخصية واعية تتخذ “الست هنا” قراراتها من خلالها خارج إكراه العقد وتسلطها.

مسلسل “وين كنتي” يعيد تركيب خطاب الإقطاع وزمنه من أولى لحظاته، حيث نسمع عبارة تنادي فيها امرأة أطفالا مطالبة إياهم بأن “تعو خدو سلال الورد عقصر الخواجا”، هناك دائما “الخواجا” و”الست” في عقل الدراما اللبنانية.

عالم “الخواجا” في “وين كنتي” هو الإطار المكاني والزماني الذي يدور فيه الحدث الرئيسي الذي يقول لنا المسلسل بوضوح منذ حلقاته الأولى إن كل العوالم الأخرى تقع على ضفافه، فما يمكن أن يدور في هذا العالم الخاص إذن، لا بد أن يكون خارجا عن المألوف، هكذا تقدم لنا القصة المفارقة المشكّلة لبنية العمل وهي قصة زواج “الخواجا” السبعيني بفتاة تبدو وكأنها لم تغادر زمن المراهقة.

الدراما اللبنانية، وعلى عكس ما وصلت إليه الدراما في العالم، لا تزال أسيرة مفاهيم بالية ومحدودة

يصور لنا مسلسل “وين كنتي” الفتاة المراهقة بوصفها عاشقة فعلا لـ”الخواجا”، ويصور “الخواجا” بأنه قد رهن كل عالمه ومصيره وحياته لإرضاء الزوجة الشابة التي يحرص، وعلى الرغم من دعوته كل أهل القرية إلى حفل باذخ، على إبقاء موضوع زواجه منها سرا حتى اللحظة الأخيرة، لعلمه بأن تبرير الأمر لن يكون سهلا أمام عائلته وأمام أهل القرية الذين يكنون احتراما كبيرا لذكرى “الست”، أي زوجته الراحلة.

يعلم ابن “الخواجا” بالأمر فيثور ويغضب، ويصعد إلى القرية لمواجهة خيار والده الذي يرى فيه إهانة لا تغتفر لذكرى والدته، هكذا وقبل أن نشاهد الحلقات القادمة باتت خارطة المسلسل ومواقع الأحداث فيه مرسومتين بدقة أمامنا لناحية توقع قصة الغرام والانتقام التي من الطبيعي أن تنشأ بين زوجة الأب الجميلة والصغيرة، والتي لا يظهرها المسلسل إطلاقا في هيئة الزاهدة في الرغبات والشهوات، وبين الابن الشاب صاحب الطبع الحاد.

تظهر المرأة هنا كمؤسسة إنتاج للمآسي التي ستحصل، لأن قبولها غير المنطقي بالزواج من “الخواجا” الأب وعلاقتها لاحقا بولده الشاب من شأنهما أن يحملاها المسؤولية عن كل شيء.

لا نعلم كيف سيقودنا المسلسل إلى بئر الخيانة التي ستسقط فيه الزوجة/اليافعة لاحقا مع الابن أو مع أي شاب تشكل العلاقة معه الحد المنطقي والطبيعي للأمور، هناك قلب غير مفهوم يبدأ من منح العشق غير المنطقي للأب العجوز صفة الطبيعي، وإحالة العلاقة مع الشباب إلى عالم الخيانة واللا طبيعية. كل هذا السياق يقول إن بنية الدراما اللبنانية تهتم بوجود مفاهيم الغرام والخيانة والانتقام بأي شكل من الأشكال، ولو على حساب كل البناء الدرامي.

وقد يكون من النافل التأكيد أن الدراما اللبنانية المقدمة منذ فترة في كل شهر رمضان جديد، إنما تبدي حرصا محموما على استجلاب مواضيعها من عالم لا يوجد إلاّ في خيال كتابها ومخرجيها، في حين أن وقائع الحياة اللبنانية اليومية تزخر بالمواضيع الخطيرة والحساسة، والتي يتم إهمالها عن سابق تصور وتصميم وإرادة.

16