الدبلوماسية الجزائرية مطالبة بفهم النظام السياسي الأوروبي

فيما كانت الجزائر تنظر بعين الاطمئنان للشريك الأوروبي مستندة في ذلك إلى التقارب المسجل بينها وبين عواصم مؤثرة ثبت أن الطبقة السياسية الأوروبية لا تزال تنظر للجزائر بعين البلد الشمولي.
الأربعاء 2023/05/17
لقاءات شكلية

فاجأ البرلمان الأوروبي السلطة الجزائرية بلائحة رغم أنها ليست ملزمة وغير مؤثرة في القرار الأوروبي، إلا أنها تحمل دلالات سياسية ودبلوماسية تكرس اختلالا في أداء أوتار الدبلوماسية الجزائرية حول فهم طبيعة النظام السياسي الأوروبي، بما يحمله من مؤسسات مستقلة وسلط متوازية ودوائر قرار متعددة.

لم يكن يهم الجزائر صدور لائحة برلمانية لأنها كانت على علم بأنها سحبت وأعيدت جدولتها، لأن النظام الجزائري منذ عقود تعود على هكذا توصيات وانتقادات في مسائل الحريات والحقوق، لكن ما أزعجها هو أن تحوز اللائحة الأوروبية على كل ذلك الإجماع، الذي أوحى بأن القوى السياسية والحزبية الأوروبية الممثلة في البرلمان، لا تعير اهتماما للتقارب الرسمي المسجل بين حكومات أوروبية والجزائر.

صدور اللائحة أوحى بأن الأحزاب الأوروبية بما فيها الحاكمة، لا يهمها أمر الحكومات والعلاقات الرسمية، بقدر ما تهمها القيم والمبادئ التي يتبناها المجتمع الأوروبي ويسوق لها ويعمل على أن تسود العالم، ولذلك لم تتم مراعاة العلاقات القائمة بين دول أوروبية والجزائر.

◙ التبعية السياسية للأحزاب السياسية المهيمنة للسلطة، واكتفاؤها بأداء دور الذراع السياسية في ظل انفراد السلطة بالشأن الدبلوماسي وبمختلف الملفات، جعلتها في موقف المؤسسة الشكلية في هذا المجال

لا أحد يشك في تمثيلية النواب الأوروبيين وفي انبثاقهم عن إرادة الناخب الأوروبي، عكس العديد من البرلمانات التي لا يزال المرور إليها يتم عبر التزوير والتلاعب بإرادة الناخبين، وهنا العلامة الفارقة بين الطرفين، فالأول يدافع ويرافع لصالح الأفكار والتصورات والبرامج التي أوصلته إلى هناك، ولذلك فهو في موقع قوة لا يخشى لومة لائم حتى ولو كان موقفه معارضا لإرادة حكومته، أما الثاني فيبقى دائما رهن القوة التي أوصلته إلى مقعده، ولا يمكن له التغريد خارج إرادتها، ولذلك يبقى دائما في موقف ضعف، والتعبير عن إرادة الشارع هو آخر اهتماماته.

ولهذا تجاهل البرلمان التزامات حكوماته تجاه الجزائر وطبيعة العلاقات الإستراتجية معها، وحتى الأزمة الأوكرانية وحاجة القارة الملحة لمورد طاقة مضمون وضعها في جانب، ووضع حرية التعبير والصحافة بالجزائر في جانب آخر، لقناعة لديه بقيمة الحرية والديمقراطية، أو لأنه يعبر عن إرادة نخبة تمارس تدوير سياسة العصا والجزرة بين مختلف المؤسسات في التعاطي مع الشركاء الآخرين.

اللائحة الأوروبية ترجمت الفوارق الأساسية بين الأنظمة الحاكمة في أوروبا، وبين نظيرتها في الضفة الأخرى، والجزائر واحدة منها، ولذلك ظهر تعدد المواقف والرؤى، وفيما كانت الجزائر تنظر بعين الاطمئنان للشريك الأوروبي، مستندة في ذلك إلى التقارب والتناغم المسجل بينها وبين عواصم مؤثرة في القارة الأوروبية، ثبت أن الطبقة السياسية الأوروبية لا تزال تنظر للجزائر بعين البلد الشمولي والقمعي الذي يستوجب نصحه أو اتخاذ قرارات ضده من أجل السماح بشيوع قيمة حرية الصحافة والتعبير.

ويبدو أن رهان الجزائر على التقارب والتناغم المسجل مع روما وباريس، بعد فتح صفحات تعاون اقتصادي وتجاري مهمة مع الأولى، وتبادل زيارات رسمية واتفاقيات إطار واتصالات مستمرة على مستوى رأس الدولة، أبعدها عن فهم طبيعة النظام السياسي الأوروبي، فما يعتقد أنه تحقق مع الحكومات هو حلقة واحدة من عدة حلقات لم تولها الاهتمام اللازم.

كما كشف موقف البرلمان الأوروبي جمود الدبلوماسية البرلمانية الجزائرية، فالبرلمان بغرفتيه يبقى بعيدا عن استشراف المواقف والانطباعات السائدة لدى نظرائه الغربيين، وعادة ما يكتفي بالأنشطة والفعاليات التقليدية والتشريفية، ولو أن ذلك يبقى طبيعيا جدا، قياسا بالخلفية السياسية والشعبية للنواب الجزائريين، فهم نتاج استحقاق انتخابي لم يعبر عن الإرادة الحقيقية للشارع الجزائري، ووليد أقل مشاركة شعبية في تاريخ الانتخابات التشريعية الجزائرية.

◙ صدور اللائحة أوحى بأن الأحزاب الأوروبية بما فيها الحاكمة، لا يهمها أمر الحكومات والعلاقات الرسمية، بقدر ما تهمها القيم والمبادئ التي يتبناها المجتمع الأوروبي

ويبقى النمط السائد في الأداء البرلماني الجزائري، أكبر عائق في طريق دبلوماسية برلمانية تؤدي دورها مع نظيراتها في مختلف التكتلات الإقليمية والدولية، فالتبعية السياسية للأحزاب السياسية المهيمنة للسلطة، واكتفاؤها بأداء دور الذراع السياسية في ظل انفراد السلطة بالشأن الدبلوماسي وبمختلف الملفات، بما فيها تلك التي لا تدخل في اختصاصات الحكومات والرؤساء، جعلتها في موقف المؤسسة الشكلية في هذا المجال.

صحيح أنّ صورة البرلمان الأوروبي اهتزت بعد فضائح الرشاوى التي قدمتها أنظمة سياسية لشراء مواقف نواب برلمانيين خدمة لأغراض خاصة، وهو ما كرس امتداد الفساد إلى داخل البرلمان الأوروبي، لكن النخب النيابية المذكورة استطاعت احتواء الموقف في ظرف وجيز، على العكس من ملف الفساد المتصل بالانتخابات التشريعية للعام 2017 الذي لا يزال يراوح مكانه في الجزائر، حيث لم يحسم بعد في تهم بيع وشراء المقاعد، وهي صورة مشوهة تبقى تلاحقه وتعيق خوضه لعمل دبلوماسي على مستوى التحديات.

وحتى الدبلوماسية الحزبية تبقى بعيدة عن إفرازات المرحلة، فالحزب الحاكم أو المستحوذ على الأغلبية في البرلمان، وهو جبهة التحرير الوطني، عادة ما يحصر أنشطته الخارجية في لقاءات شكلية مع قوى سياسية أجنبية ذات توجهات بعيدة عن المرحلة، فمنذ الانتخابات التي جرت العام 2021، لم يحدث أن فتح اتصالات أو مشاورات على سبيل المثال مع أحزاب حاكمة في أوروبا، كالنهضة الفرنسي، وإخوة إيطاليا، فمهما يكن فإن التواصل وكسب مؤيدين للجزائر في مختلف المحافل ضروري جدا.

متابعون رجحوا أن تلقي اللائحة بظلالها على زيارة عبدالمجيد تبون المنتظرة إلى فرنسا، لكن الجولة بات مشكوكا بها حسب هؤلاء، فالرئيس الفرنسي يريد علاقات رسمية ومصالح ورهانات، لكنه لا يريد التضحية بقيم بلاده مقابل ذلك، ولذلك لم يسلم المطلوبين، ولا يتدخل للجم نشاط المعارضين، وفوق ذلك صوت نوابه لصالح اللائحة، وهي رسالة واضحة لمن يحسن القراءة.

9