الدبلوماسية الجزائرية.. مراجعة الخيارات أم أدوات التنفيذ

المدقق في سيرة الدبلوماسي الجزائري المخضرم رمطان لعمامرة، يرى أنه موظف عمومي مطيع ومنضبط فهو لم يتأخر يوما عن أي نداء وجه له لأداء مهمة أوكلت إليه ولو لبضعة أيام.
الجمعة 2023/03/17
اختفاء غامض

لا تزال الروايات متضاربة حول الاختفاء الغامض لرئيس الدبلوماسية الجزائرية رمطان لعمامرة، عن المشهد الرسمي، بين من يرجع ذلك لخلافات حادة على مستوى هرم السلطة بسبب مصالح ضيقة، وبين من يرى أن أداء الرجل لم يعد يرضي دوائر صنع القرار. لكن في كلا الحالتين يحتاج الأمر إلى تسليط مزيد من الضوء.

غياب لعمامرة عن محافل وأنشطة دبلوماسية، على الصعيدين الداخلي والخارجي، قابله صعود لافت لأمين عام الوزارة الدبلوماسي عمار بلاني، الذي استقبل السفراء وأجرى المشاورات، وسجل حضورا لافتا خلال الزيارة التي أداها المفوض السامي للشؤون السياسية والأمنية ونائب رئيس المفوضية الأوروبية جوزيب بوريل، وهو ما اعتبره البعض وضعا غير طبيعي في حد ذاته.

ما حدث أمر غير مسبوق في تاريخ الدبلوماسية الجزائرية. حتى في ذروة الصراعات، سن الرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة تقليدا غريبا وهو وضع رأسين في هرم وزارة الخارجية. لكن لم يحدث أن اختفى وزير للخارجية عن الأنظار، وخلفه مسؤول أقل منه درجة في أداء مهامه، دون أن تقدم السلطات توضيحات لازمة وتضع الرأي العام والمتابعين أمام حقيقة الأمر، وتبين ما إذا كان المانع طبيعيا، أم نهاية مهمة؟

◙ مهما كانت خلفيات التقصير المذكور، لا يمكن تبرير الغموض الذي يلف أداء وزارة الخارجية. هناك إمكانية لمراجعة أي أمر إن كان يحتاج إلى تصويب

في ظل غياب المعلومات الشفافة وتغليب التعتيم، تنمو الشائعات والتأويلات، أفقيا وعموديا، لاسيما وأن الرئيس عبدالمجيد تبون سبق له أن تعامل بمنطق الإقالة والتعيين لبعض الوزراء لأسباب مختلفة، وكان الإعلان عن ذلك يتم من خلال القنوات الرسمية، بينما جرى العكس في التعامل مع الاختفاء الغامض للعمامرة، منذ شهر تقريبا.

وقبل ركن ملف تعديل حكومي مرتقب، تأخر هو الآخر، مقارنة مع اللهجة الحادة التي وجهتها الوكالة الرسمية للأنباء في برقيتها الشهيرة، واعتراف الرئيس نفسه باختلال أداء بعض القطاعات والوزراء في النهوض بالتنمية وتحريك آليات النهضة التي ينشدها، فإن ما يحدث في هرم الدبلوماسية الجزائرية يطرح استفهاما جوهريا، حول ما إذا كانت الجزائر بهذا المنحى تريد مراجعة خياراتها، أم إعادة النظر في الأدوات التنفيذية؟

المدقق في سيرة الدبلوماسي المخضرم لعمامرة، يرى أنه موظف عمومي مطيع ومنضبط، فهو لم يتأخر عن أي نداء وجه له لأداء مهمة كلف بها، ولو لبضعة أيام، كما حدث مع الرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة. وهو أيضا منفذ جيد للتوجيهات، يفرق جيدا بين قناعاته الشخصية وخبرته الشخصية، التي تراكمت لديه من مختلف المناصب الإقليمية والدولية التي شغلها، وبين إرادة السلطة في إرساء قواعد دبلوماسية وتوجهات جديدة.

ولا يبدو أن دوائر صنع القرار غير راضية عن نشاط وأداء الجهاز الدبلوماسي، فالخطاب الذي تردده الدوائر الرسمية لا يكف عن كيل المديح لبرنامج إعادة الانتشار المسجل قوميا وعربيا وأفريقيا ودوليا، والرئيس تبون شدد على أن الجزائر “صديق للجميع”، وأنها بلد ذو بعد عربي ومتوسطي وأفريقي وإنساني.

وهو ما تجلى في محافل الألعاب المتوسطية والقمة العربية وبطولة أفريقيا للاعبي الكرة المحليين، ونواب مجالس الدول الإسلامية، والمصالحة الفلسطينية، والتعاون المفتوح مع مختلف الشركاء. وكلها مواعيد وظفتها إلى أبعد الحدود من أجل تجسيد خياراتها الدبلوماسية التي نشرتها في برنامج الحكومة السنوي، ويجهل إن كان لعمامرة قد قصر أو أعاق شيئا من ذلك.

هناك ملفات أخرى لا يزال يجهل سر تعامل الجزائر معها بنوع من الخجل، وليس معلوما إن كانت الإرادة السياسية وراء ذلك، أم عدم اهتمام الجهاز الدبلوماسي، وأبرز هذه الملفات العلاقات الجزائرية مع إيران، التي تقدم على أنها محور شر مارق، وكأن العلاقات المذكورة تخضع للإملاءات الإقليمية والدولية، وليس لمنطق السيادة، بينما تكسر تابوهات أكبر في مواقع أخرى دون صخب ولا ضجيج.

أما الحديث عن علاقات مشبوهة مع حزب الله اللبناني، وعن وساطة لتسليح جبهة بوليساريو بمسيرات إيرانية، وتدريب لمسلحيها، فتنفيه مصادر مطلعة، بينما الدبلوماسية الجزائرية تلتزم الصمت ولا تحرك ساكنا للرد. وهو ربما ما يؤاخذ على جهاز لعمامرة، حيث لا يكفي النفي أو التجاهل، وإلا ما هو دور الدبلوماسية أصلا إذا لم توفر الآليات للرد وتوضيح الصورة ومنع تشويه سمعة البلاد.

◙ غياب لعمامرة عن محافل وأنشطة دبلوماسية، على الصعيدين الداخلي والخارجي، قابله صعود لافت لأمين عام الوزارة الدبلوماسي عمار بلاني

ومهما كانت خلفيات التقصير المذكور، لا يمكن تبرير الغموض الذي يلف أداء وزارة الخارجية. هناك إمكانية لمراجعة أي أمر إن كان يحتاج إلى تصويب، أما إن كان الأمر بحاجة إلى أدوات تنفيذية جديدة، سواء على مستوى الهرم أو المؤسسات، فمن الأفضل لو تمّ تمرير القرار بسلاسة بعيدا عن التأويلات والفرضيات التي تعيد هاجس المصالح والولاءات على حساب صورة الجزائر الخارجية.

الجهاز الدبلوماسي يستهلك أموالا ضخمة من المال العام، ولا مناص من الرقابة والمساءلة وتقييم ما حققه ويحققه للبلاد. العبرة في المرونة والانسجام، أكثر مما هي في عدد القوى البشرية والمؤسساتية. من الممكن أن يذهب سفير ويأتي آخر، لكن يبقى السؤال ماذا حقق لبلاده؟ لذلك كان ضروريا أن تمر قوائم المغادرين والمستقدمين من خلال القنوات الرسمية، لا عن طريق سنّ تقليد غير مسبوق في تاريخ الدبلوماسية الجزائرية.

وباستثناء أمين عام الوزارة الحالي عمار بلاني، الذي عين أول الأمر ضمن فريق من كبار المستشارين والمبعوثين الخاصين للرئيس الجزائري، وإطلاق وكالة التعاون الخارجي، لم تظهر لهؤلاء بصمة في تعزيز العمل الدبلوماسي، كما لم يظهر تكامل في عمل الوكالة مع نشاط وزارة الخارجية، باستثناء بلاني الذي ظهر متناغما مع مهامه، وهو ما يثبت مجددا ضرورة الانسجام بين الخيارات وبين كفاءة الكادر البشري.

8