الدبلوماسية الجزائرية.. الأولويات والوجوه

لم يظهر التكامل المفترض بين رأسي الدبلوماسية الجزائرية بعد التغيير الأخير في هرم وزارة الخارجية، بل تذهب الوقائع إلى الإيحاء بوضع انتقالي لم يحدث أن سجل في الأداء الدبلوماسي الجزائري، حتى في أضعف الأوقات التي مرت بها البلاد كما كان سائدا خلال العشرية الدموية (1990 – 2000).
وبين ذهاب رمطان لعمامرة في ظروف وأسباب معينة وقدوم أحمد عطاف، لم تظهر البصمة أو التحول الذي توقعه الملاحظون، فقد اكتفى الرجل المستقدم من خزان تسعينات القرن الماضي إلى حد الآن بجملة من الاتصالات وبيانات مقتضبة لا توحي بأن صاحب القرار وصل إلى إنهاء حالة عدم الانسجام والارتباك، خاصة في ظل التطورات الإقليمية المتسارعة.
المطلعون على دوائر صناعة القرار الدبلوماسي في البلاد لا يبدون تفاؤلا كبيرا بشأن تصويب الأداء الدبلوماسي، لأن التغيير الأخير المثير في الحكومة ارتبط بحسابات أخرى تتعلق بتوازنات السلطة، أكثر مما تتعلق بإعادة ترتيب البيت الدبلوماسي.
◙ بين ذهاب رمطان لعمامرة في ظروف وأسباب معينة وقدوم أحمد عطاف لم يظهر التحول الذي توقعه الملاحظون فقد اكتفى الرجل المستقدم من خزان تسعينات القرن الماضي ببيانات مقتضبة إلى حد الآن
وفي ظرف أيام قليلة فقط ظهر الوزير الجديد في وضع انتقالي، وكأنه لا يمسك بكل الخيوط والملفات، فقد غيبت بلاده عن اجتماع عربي مهم رغم أنها ترأس مجلس الجامعة العربية، وتم تعيين مندوب مغربي في الاتحاد الأفريقي كممثل للاتحاد المغاربي، وأخيرا جرى في ظروف غامضة إرجاء أو إلغاء زيارة الرئيس عبدالمجيد تبون إلى باريس المقررة خلال الشهر القادم.
وظهر أن رأس الدبلوماسية الجديد سائر على خطى سلفه في الاتصالات والبيانات المقتضبة المكرسة للارتباك والاكتفاء برد الفعل، بما يوحي بأن الأداء الدبلوماسي لا يزال خاضعا لأكثر من مصدر مما ساهم في تشتيت الجهود بدل تركيزها وفق إستراتيجية واستشراف محددين.
لا ينكر أحد في المحافل الدبلوماسية أن الجزائر كانت في مقدمة المبادرين بعودة سوريا إلى موقعها في الجامعة العربية، وكانت من أشد المعارضين لقرار استبعادها أصلا، كما بذلت جهودا مضنية خلال تحضيرات القمة العربية الأخيرة لأجل ذلك، إلا أن مبادرتها افتقدت للجهد اللازم لإكسابها صفة التقدير وخاصية عدم تجاوزه لأي سبب من الأسباب.
سياسة الاستعراض التي حذر منها الكثيرون، لأن المشهد العربي يحتاج إلى قراءة استشرافية مواكبة للتطورات والتوازنات والتحالفات، وليس إلى خطاب مستلهم من الزمن القديم، هي التي جنت على البلاد بهذا الانقلاب على وزنها وثقلها ودورها، وصارت لا تدعى إلى محفل عربي حتى بصفة وظيفية في الجامعة العربية.
ومع ذلك فإن الخلل يبقى في بيتها الدبلوماسي، فالتوظيف السياسي الداخلي للمواقف الخارجية، واللغة الانفعالية في ردود الأفعال، يبددان الحجج التي يمكن رفعها في وجه الرأي المخالف، وما كان يحسب ربما على وزير الخارجية السابق رمطان لعمامرة، لم يتم تصويبه من طرف الوافد الجديد إلى وزارة الخارجية.
كان يمكن تفهّم موقف دبلوماسي متشدد في أي من الملفات لأي سبب من الأسباب، لكن أن تدخل البلاد في مناكفات مع هذا وذاك فهذا يجعل الأمر يتعدى إرادة هذا الوزير أو ذاك، لأن الدخول في رد قوي مع شركاء دوليين وإقليميين يزيد من فرص العزلة ويهز الثقة في مدرسة دبلوماسية شكلت لعقود نموذجا يحتذى به في سبعينات وثمانينات القرن الماضي.
قدر الجزائر أن تكون ذات ثقل دبلوماسي، فالكثير من الصفات التي تتصف بها تجعلها تدفع ضريبة ثقيلة مقابل ذلك. يكفي تقاسمها لحدود برية تبلغ ستّة آلاف كلم مع ست دول لأن تكون حريصة على عمقها الإستراتيجي والجيوسياسي، فاتفاق المصالحة الوطنية في مالي الذي ترعاه يترنح الآن، والوضع في الساحل كما في دول الجوار مقلق.
◙ المطلعون على دوائر صناعة القرار الدبلوماسي في البلاد لا يبدون تفاؤلا كبيرا بشأن تصويب الأداء الدبلوماسي، لأن التغيير الأخير المثير في الحكومة ارتبط بحسابات أخرى تتعلق بتوازنات السلطة
ولذلك لم تكن أيضا في حاجة إلى بيان يوحي بأنها تريد المزيد من الشق في الصف العربي وهي التي احتضنت منذ أشهر قمة لم الشمل، أو الاندفاع إلى خصومات جديدة مع الاتحاد الأفريقي بسبب مندوب الاتحاد المغاربي، وقبلها أزمات مع فرنسا وأخرى مع إسبانيا.
عند عرض برنامج أول حكومة للرئيس تبون، تم لأول مرة الكشف عن معالم مخططها الدبلوماسي وعلاقاتها المستقبلية في المنطقة وفي القارة وفي العالم عموما، حيث تم التركيز على العودة القوية إلى العمق الأفريقي والعربي والمتوسطي والإنساني، وهو طموح اصطدم بأكثر من مطب، قياسا بالحصيلة المسجلة بعد ثلاث سنوات.
الوضع الانتقالي في الأداء الدبلوماسي الجزائري طال أكثر من اللازم، ولم يعد أمرا مقرونا بمسألة كفاءة أو خبرة أو تحكم في الملفات، فليس حريّا بها أن تكون غير مرحب بها في هذا المحفل أو ذاك، وليس من مقامها أن تتجرأ شخصية مثل منصف المرزوقي أو خليفة حفتر أو حزب سياسي كحركة النهضة على انتقاد دورها، فلو أحسنت أداء مهامها وحيادها في ملفات مجاورة لما ظهر أن دعمها للشرعية هو انحياز لطرف على حساب آخر في أزمات ليبيا وتونس وحتى في مالي.
الدبلوماسية الجزائرية في حاجة إلى ترتيب داخلي حقيقي للمهام والصلاحيات والأشخاص كما للخيارات والمواقف والمصالح، ولعل أبرز تلك الأولويات هي التكامل والانسجام بين دوائر صناعة القرار الدبلوماسي، وإخضاعه للمصالح والمنافع أكثر من الأمزجة والانفعالات، فإذا كان الصيد لا يحتاج إلى طلقة بارود واحدة، فما الجدوى من استعمال المدفع.