الخيال العلمي من الدعاية للأيديولوجيا إلى تمهيد الطريق نحو وادي السيليكون

هناك اتجاهان في أدب الخيال العلمي أحدهما كلاسيكي كالاستكشافات والرحلات إلى الفضاء والثاني حداثي مبتكر مرتبط بالمستقبل.
الأحد 2021/07/11
الخيال العلمي تخلص من الدكتاتوريات

غالبا ما يُنظر إلى روايات الخيال العلمي كوسيلة للتحذير من المخاطر التي تتهدّد المجتمعات. فالروايات الاستباقية تضخم الانحرافات التي تتربص بتلك المجتمعات وتسهب في تخيل أحداث مريعة كي تدعو قارئها إلى شحذ الفكر النقدي والتنبه إلى عواقب سكوته عن بعض الظواهر، أما الطوباويات فترسم أطر عالم مثالي يطيب فيه العيش. ولكن ماذا يحدث لو تنقلب الأشياء وتتحول الديستوبيا إلى يوتوبيا استبدادية، ويصبح حلم المدينة الفاضلة سجونا ومعسكرات تعذيب وقتل؟

الخيال العلمي هو أدب الممكن والمحتمل، أي أنه يحاول أن يستبق عصره ويستشرف المستقبل ليصور ما يمكن أن يحدث انطلاقا من معطيات وضع راهن، ولكنه يمكن أن ينقلب تحت الأنظمة الاستبدادية إلى وسيلة دعائية للأيديولوجيا التي تقوم عليها، فتحوله إلى نوع من الخيال العلمي التوتاليتاري.

ظهر هذا الجنس في بداية القرن التاسع عشر في خمسة بلدان هي بريطانيا وفرنسا وألمانيا وروسيا والولايات المتحدة، بفضل جهود متفرقة لبعض كتاب أشهرهم إدغر ألان بو، وجول فيرن، وأرثر كونان دويل، وكورد لاسفيتز، وهربرت جورج ويلز، وقسطنطين تسيولكوفسكي، وإدغر رايس بوروز.

ولئن كوّن البريطانيون حول ويلز مدرسة “الرواية العلمية”، فإن الفرنسي موريس رونار اختار لها “العجيب العلمي”، ولم يتحدد المصطلح إلا بعد أن بعث الناشر الأميركي هوغو غرنسباك صنفا تجاريا في أواخر العشرينات أطلق عليه اسم scientific fiction ثم scientifiction قبل أن يستقرّ على science – fiction أي الخيال العلمي.

وكان لانتشار الثقافة الشعبية الأميركية بعد الحرب العالمية الثانية، واكتشاف الترجمات الأولى للروسي إسحاق أسيموف، وظهور روايات لافتة للأميركيَّين ألفريد إلتون فان فوغت، وراي برادبوري، دور في إقرار ذلك المصطلح على نطاق عالمي، ولكنه لم يلق من النقاد والأدباء سوى النكران والاحتقار، ولم يمنعه ذلك من أن يصبح ظاهرة ثقافية واسعة شملت كل مناحي المعرفة، لكونه يعكس رغبة في استكشاف فرضيات تستهدي بالعلم وتحاول أن تستشرف المستقبل وتنفذ إلى ما لم يقع البتّ فيه بعد.

مديح للحرب

كانت روايات الخيال العلمي السوفييتية تركّز بانتظام على هزيمة الرأسمالية أو الفاشية أمام الشيوعية، التي يرفع لواءها علماءٌ بلشفيون عباقرة، فخلقت بذلك مخيالا عن الثورة الحمراء يدعمه التطور العلمي

كان من الطبيعي أن تغتنم الأنظمة الشمولية هذا الأدب الشعبي لتبث من خلاله دعايتها، تستوي في ذلك الأنظمة التي تدّعي التقدم والاشتراكية، والأنظمة التي تؤمن بالتفوق العرقي، بحجة أن الخيال العلمي إن كان أدب الممكن، فإنه يمكن أن ينسجم مع أهدافها القريبة والبعيدة، ما أوجد أدب خيال علمي توتاليتاري في بلدان كألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية والاتحاد السوفييتي الشيوعي.

ففي ألمانيا، كان الحقل الأدبي في مطلع القرن الماضي أرضية سانحة للأيديولوجيا النازية، التي ستنتصر في العشريات اللاحقة وترفع هتلر إلى سدّة الحكم، إذ ساهمت حركة الأدب الشعبي “فولكيش” في ظهور إنتاج ثقافي ذي منحى عنصري قومي، تَرافق مع خطاب عدواني غطّى على الحلم السلمي بمجتمع معولم تتوصّل خلاله “عُصبة الأمم” إلى وضع حدّ للحروب وتوحيد كافة البلدان على كلمة سواء.

 فقد كان عدد من كتاب روايات الخيال العلمي في تلك الفترة يرى في الحرب وسيلة منطقية وطبيعية لفرض الهيمنة وفض المشاكل، مثلما يرى أن الأمة لا يمكن أن تضمن خلاصها إلا باستعمال هذه الظاهرة، ظاهرة الحرب.

وقد استندوا في ذلك إلى الإرث النيتشوي عن الإنسان الأسمى Übermensch، الذي يتماهى كثيرا مع المفهوم النازي للعرق الآري، ورأوا أنّ لجنس الأسياد الحقّ في سحق الآخرين، مثلما استندوا إلى مقولات أوسفالد شبنغلر في كتابه “سقوط الحضارة الغربية”، الذي شجع على ظهور يوتوبيات وديستوبيات تتخيل سقوط الحضارة الغربية حينا، ونجاتها حينا آخر عبر حروب عرقية، كما فعل إرنست أوتّو مونتانوس في روايته “خلاص الغرب”، وكان قد صوّر فيها تشكيل رابطة جرمانية متماسكة، وسحق ألمانيا لفرنسا خلال حرب عالمية، لما للحرب من فضائل تطهير حسب قوله.

ولم يكن التحمس للحرب خاصا بالألمان وحدهم، ففي إيطاليا، كان فيليبو تومّازو مارينيتّي، مؤسس الحركة المستقبلية، من أشد الداعين إلى حداثة عنيفة، وكان لا يني يتحدث عن جمالية العنف، بل إنه نشر عام 1935 مانيفستو بمناسبة حملة موسوليني على الحبشة، قال فيه “منذ سبعة وعشرين عاما، نعترض، نحن المستقبليين، على فكرة الحرب المنافية للجمالية، ونؤكّد ما يلي: الحرب جميلة، لأنها، بفضل أقنعة الغازات ومكبّرات الصوت المرعبة وقاذفات اللهب والدبابات الهجومية، تؤسس لسيادة الإنسان على الآلة الخاضعة. الحرب جميلة لأنها تحقق لأول مرة حلم إنسان ذي جسد معدني. الحرب جميلة لأنها تثري حقلا بأزهار الأوركيد البراقة، أي الرشاشات. الحرب جميلة لأنها تجمّع قذائف المدافع وتعليق الرّماية وروائح التحلّل لتجعل منها سيمفونية. الحرب جميلة لأنها تخلق بنى معمارية جديدة هي الدبابات الثقيلة وأسراب الطائرات ذات الأشكال الهندسية، والأدخنة اللولبية المتصاعدة من القرى المحترقة. وأشياء أخرى كثيرة”. وقد انطبعت روايات الخيال العلمي في إيطاليا، كما في ألمانيا، بهذا الخطاب الداعي إلى العنف، والممجّد للحرب.

عندما يعتنق الخيال العلمي أيديولوجيا السلطة، تصبح فكرة إيلائه دورا تربويا لدى الناشئة فكرة قارة
عندما يعتنق الخيال العلمي أيديولوجيا السلطة، تصبح فكرة إيلائه دورا تربويا لدى الناشئة فكرة قارة

أما في الاتحاد السوفييتي، فإن الحلم الشيوعي لا يبدو كتتويج لصراع طبقيّ عنيف، بل كإنجاز مستقبلي قادم، حيث يتمّ الاحتفاء بصنع آلات جديدة ستنقل الإنسان السوفييتي من حال إلى حال، وتنقل بلاده من وضع إلى وضع، كما في رواية “هيبربولويد المهندس غارين” لألكسي تولستوي، التي تروي براعة مهندس سوفييتي في صنع سلاح ذي إشعاع لَيزري للسيطرة على العالم.

وقد رأى الكتّاب السوفييت خلال أول مؤتمر يعقده اتحادهم سنة 1934 في هذا الجنس السردي وسيلة تربوية مفيدة لتنشئة الشبيبة على المُثل التي تتبناها الماركسية اللينينية، وبذلك تحول إلى أدب بروباغندا، وصار كل شكل آخر من أدب الخيال العلمي مرفوضا ما لم يستجب لتوجّه الحزب الشيوعي الحاكم.

ومن ثَمّ، كانت روايات الخيال العلمي السوفييتية تركّز بانتظام على هزيمة الرأسمالية أو الفاشية أمام الشيوعية، التي يرفع لواءها علماءٌ بلشفيون عباقرة، فخلقت بذلك مخيالا عن الثورة الحمراء يدعمه التطور العلمي ويحرص المسؤولون على غرسه في نفوس الأجيال الجديدة. ولكن بشرط أن تدور الحكايات في مستقبل قريب جدا، لا يتجاوز خمس سنوات، بدعوى أن ستالين هو وحده الذي يتنبّأ بالمستقبل.

عندما يعتنق الخيال العلمي أيديولوجيا السلطة، تصبح فكرة إيلائه دورا تربويا لدى الناشئة فكرة قارة، نجد ذلك أيضا في عهد حكومة فيشي زمن الاحتلال النازي، حيث صادر الألمان كل المجلات الفرنسية التي تنشر هذا الأدب وعطلوا ناشريه، ليفسحوا المجال لدورية عميلة هي “لوتيميرير” (المجازف) يديرها أحد أنصار الماريشال بيتان، وكانت تنشر قصصا مصورة موجّهة إلى اليافعين تتحدث عن التحسين السلبي للنسل وتصفية الضعاف وإبادة اليهود، بهدف الحشد والتعبئة.

في ألمانيا كان الحقل الأدبي في مطلع القرن الماضي أرضية سانحة للأيديولوجيا النازية، التي ستنتصر في العشريات اللاحقة وترفع هتلر إلى سدّة الحكم، إذ ساهمت حركة الأدب الشعبي “فولكيش” في ظهور إنتاج ثقافي ذي منحى عنصري قومي

هذا التمشي بدأه الألمان منذ جمهورية فيمار حين أثيرت المحاسن التربوية والعلمية والأيديولوجية للخيال العلمي منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، وطُرحت مسألة تربية الشعب عن طريق الأدب، فاستغلتها عدة جمعيات مثل “رابطة عموم ألمانيا”، وهي جمعية سياسية تروّج لأيديولوجيا قومية عنصرية تعتبر أن الدّم هو وحده ما يربط أبناء الأمة الجرمانية بعضهم ببعض، واستدعت من تراثها أساطير الشمال، لتبين أنها أصل العرق الآري.

 وكان هاينريش هيملر، (أقوى رجال أدولف هتلر وأكثرهم شراسة، وكان قائدا لفرقة القوات الخاصة الألمانية والبوليس السري المعروف بالغيستابو، وأشرف بنفسه على عمليات إبادة المدنيين في معسكرات الموت الألمانية)، قد شجّع هذا التوجه، حيث طالب العلماء الألمان في جمعية البحث في التراث القديم وتدريسه بتحديد مكان أتلانتيس لاعتقاده بأن أهلها هم أسلاف الآريين. وما أسرع ما استجاب بعض الكتّاب لطلبه، وخاصة بول ألفريد مولّر الذي أصدر ما بين عامي 1933 و1936 سلسلة “سان كوه، وريث أتلانتيس” يروي فيها كيف أن تكنولوجيا كائن فضائي سوف تقود الجنس الآري إلى مستقبل مجيد.

التطور المتوازي

طوال أكثر من قرن، برز اتجاهان: أحدهما كلاسيكي، هو رواية الخيال العلمي التقني كالاستكشافات والرحلات إلى الفضاء وفي الزمن، وصارت التقنية العلمية التي قد تقود الإنسانية إلى الدمار أو تغيرها إلى إنسانية خارقة، ربانية تقريبا، موضوعا لنسج حكايات حول حداثة مشكوك فيها. والثاني حداثي، بدأ يفرض نفسه منذ الستينات، حين أعاد الخيال ابتكار مجتمعات بشرية تعيش في مستقبل قريب أو فضاء مغاير، فظهرت روايات الخيال العلمي الاجتماعي، والخيال العلمي السياسي والخيال العلمي الإيكولوجي… ولكن بعيدا عن اليوتوبيا أو الديستوبيا.

 هذا التطور المتوازي للمخيال السردي والافتراض النظري قد يسلط الضوء على ملامح كثيرة من الحضارة المعاصرة والمكانة التي توليها للعلوم والتقنيات، تستوي في ذلك المقاربات العقلانية كغزو الفضاء وبناء شبكة الإنترنت، والكتابات التي تتناول مجالات غامضة أو خطيرة كالبحث عن قوى خارقة وصناعة روبوتات للسيطرة على العالم.

روايات الخيال العلمي كانت أداة للدكتاتورية لخلق خطاب داع إلى العنف وممجّد للحرب واليوم صارت مغامرة جديدة

اليوم، لم تعد روايات الخيال العلمي مرتبطة بأنظمة شمولية، ولكن منها من يهيئ القارئ للتطورات المستقبلية المحتملة، ويمهّد الطريق لبحوث وادي السيليكون التي يعمل خبراؤه على قهر الموت وتصنيع إنسان شبيه بالسايبورغ، وهو ما حذر منه الأميركي فرنور ستيفن فينج حين أكّد على أن الالتقاء المحتوم لكل التكنولوجيات الحالية في العشريات القادمة، وظهور ذكاء اصطناعي فائق عند نقطة تقاطعها، سوف يلغي وجودُه كلّ فكر استباقي.

 فعندما توضع أسس الإنسانية التي نعرفها، كالوفاة والفردانية والتناهي والتعوّد على الوسط، موضع شكّ، يصبح من العبث التخمين في العالم الذي سوف يأتي. وفي رأيه أن العلوم والتكنولوجيات، بدل أن “تغتال المستقبل” بإزالة السحر عنه كما تفعل اليوم، سوف تصبح حاضنة حدث ميتافيزيقي ذي حجم مذهل، وتفتح إمكانية مغامرة جديدة للجنس البشري، لا يمكن أن يتكهن عاقل بمآلها.

14